لكن بمجرد أن رآها، وبمجرد أن تجاوز الصدمة الأولى، لم يتمكن من أن يدير عينيه عنها.
أولغا توكارتشوك
راحت قطرات الحليب الخفيف، تتساقط متسارعة لتكوِّن بركة لؤلؤية البياض تتسع تحت قدميها وتزحف تحت قدميه.
محمد المخزنجي

لو أن الحكاية كانت في زمن آخر، لو أن الأحداث اختلفت مقدار شعرة، لو أنها لم تتعرّض للسخرية، لو أنها نالت عناقًا واحدًا بصدق، لو كان الزمن لا يمر عليها بشكل دائري، يتحرك من حولها دون أن يسحبها في داخله، تتحرك الأيام والسنوات إلى الأمام، دون أن تكون هي مدفوعة للتحرك معهم، لو كانت تنتبه لأنها تنمو، لأن قامتها تطول، لأن عظامها تقوى، لأن روحها تنضج، لأنها تكاد أن تطير.

أو لو أن ثُلث وجهها لم يتصبغ بتلك الشامة البنية الهائلة. لو أنها لم تحاول مرارًا دعكها بالصابون، وإخفاءها بالكريمات، أو كشطها بموس الحلاقة. لو أنها كانت تعلم أنه يملك نفس الشامة وبحجم أكبر، لكنها مخفية بكاملها تحت ملابسه، إذ تقع أسفل العنق بقليل. لو أنهما كانا يعلمان ما يدور في رأسيهما في نفس اللحظة، وطوال الوقت، لكانت الحكاية أسهل، لتمّ الأمر بيسر أكبر، لتلامسا كخيطين متجاورين في نسيجٍ واحدٍ من الحرير الخالص.

كان ابن عمها، وكانا مرهونين لبعضهما إرضاءً للأهل. فهي وحيدة أبويها وهو وحيدٌ كذلك. لم تتعرّف في الدنيا إلى سواه. لم تخرج من بيتها إلا لسنوات قليلة قضتها في التنقل ما بين المدارس، قبل أن تنقطع عن التعليم، وتكتفي بنصيبها القليل منه.

كانت قبيحة، قبيحة جدًا. تتبعها نظرات السخرية والتأفف أينما ذهبت، لكنها اعتادت أن تتحمّل تلك النظرات الساخرة والكلمات المُنفِّرة كقدر لا فِكاك منه، كعقاب على ذنب لم تتعرف إلى كنهه. حتى سألت أمها في مرة:

هل أنا أقبح بنت في العالم كما يُردِّد الجميع؟

ترددت الأم في الإجابة، ثم أغلقت فمها تمامًا. لم يصدمها صمت الأم، ربما انزعجت كطفلة من عدم الإجابة، لكن الصمت على كل حال كان أهون بكثير من إجابة السؤال بالإثبات. لدرجة أنها تشعر بالامتنان تجاه هذا الصمت كلما تذكرت الحكاية. وبرغبة في احتضان الأم، لكنها كالعادة كانت تتراجع كلما واتتها الفكرة. لا تذكر ولو مرة واحدة تعانقا فيها. ربما حدث الأمر ولو لمرات معدودة في الصغر، هكذا تحب أن تُعزِّي نفسها. بينما تفسر الأم الأمر للبنت بعدما كبرت قليلًا بأنها تكره العناق. كان الدرس الجيد الذي تعلّمته بنفسها في ذاك اليوم الذي صمتت فيه الأم؛ ألّا تسأل أو تتقصى عن أية حقائق.

اعتادت أن تقبع في داخل البيت، تحتمي بالجدران والأسقف من نظرات الناس، وتعليقات الجيران. تهتم بالطهي والحياكة والأعمال المنزلية لتزجية الوقت. أتقنت التخفي أوقات زياراته هو بالذات. كانت تخشى أن يراها، أن يدقق في قبحها، لم تحسم الأمر أبدًا هل تتجنب رؤيته، كي لا ينتبه لمدى قبحها فيُغيِّر رأيه ويعزف عنها؟ أم كانت تخشى أن تخدش جماله بشكلها المريع؟

المشكلة كما رأتها تتلخص في كونه أجمل منها بكثير. أو في أنها عشقت بكل صدق تلك الملامح التي تخصه. ذابت في نبرات صوته. ظلّ يزورها كل يوم في المنام، وحينها فقط، تسمح له برؤيتها دون عوائق، لأن الأحلام تجعلها جميلة، بوجهٍ عذب وملامح صافية، الأحلام تجعلها مدهشة لدرجة أن يقع كل ليلة في غرامها من أول نظرة.

كانت تنزعج أيضًا من أمر غريب يحدث لها كلما رأته. أو حتى سمعت اسمه بالصدفة على لسان أحد الأبوين. ينِز صدرها بقطرات بسيطة من الحليب. فتتسارع بعقد ذراعيها فوق صدرها كي تخفي أثر القطرات التي تخلف بقعتين غير متجاورتين في النصف العلوي من ثوبها.

بعد فترة، يقع المحظور، ويتحدد ميعاد الخطبة. تضطر يومها للظهور، للجلوس إلى جواره، تخفض وجهها نحو الأرض أغلب الوقت، أمامه وأمام الحاضرين. تُعلِّل أمها الأمر بالخجل وتضع أحد الكفين على قلبها خوفًا من فسخ الخطبة.

ليلة الزواج لا تقترب أبدًا منه، بل تبتعد كلما حاول الاقتراب. يظل رأسها مُثبتًا أيضًا في الأرض، كأنها امتداد لظلها المرسوم بالأسفل. تنظر للظل بحميمية وتبكي. تقول:

أعرف أنني قبيحة، أعرف أنني لا أملك أي شيء أنفعك به. أعدك ألا أؤذيك بوجودي، أو أزعجك بقبحي.

تخبره أنها لن تنزعج لو خانها كل يوم مع امرأة. فهي تستحق وتعلم أنها تستحق. هي لا تتخيل أن تتعرى أمامه وهي بكل هذا القبح. تخشى أن تخدش رقته بقبحها أو أن تسحق عظامه النحيلة بقامتها. تنسحب من أمامه في هدوء وتتركه قبل أن ينطق ولو بكلمة، وتتحرك إلى غرفة أخرى.

اعتادت في أيامها التالية معه أن تمشي على أطراف أصابعها كي لا تزعجه، لو نام إلى جوارها يتيّبس جسدها ولا يتحرك ولو نصف حركة. حتى الهواء الذي تتنفسه، تتعمّد أن تقلل معدله، رغم خفقان القلب الذي كان يزداد مع كل اقتراب.

ألفت الاهتمام بكل شئونه وشئون البيت، مكانها الوحيد الذي لا تتحرك غالبًا منه. تهتم بتلميع الحوائط والالتصاق بها، تتمنى كل يوم لو تتحول إلى فأر، لو تحفر جحرًا في داخل الجدران وتختفي في داخله إلى الأبد. لكنها بدلًا من ذلك تبكي، تبكي بكاء متواصلًا لا ينقطع إلا في حضوره، إذ تخشى أن تزعجه بدموعها الكثيفة.

كل قطعة من أثاث البيت ذاقت مرة واحدة على الأقل ملح دموعها. إذ اعتادت أن تبكي في كل مكان، وفي كل وقت. كانت تبكي في أدراجه الخاصة، في أصص الورد، في أطباق الطعام، في المعالق، في فناجين القهوة، في الدواليب. وحتى أحذيته، لم تحرمها من طعم هذا الملح.

تردّدت قبل أن تسمح له أحيانا بإسناد رأسه إلى ركبتيها. تمسح بيديها على رأسه. كان هذا أقصى اقتراب سمحت له به. ألقمته صدرها في بعض المرات كرضيع. لا تعرف هل التقمه منها بالفعل أم أن الأمر كله كان مجرد حلم يتكرر في مناماتها.

اعتاد أن يتغيّب عنها لبعض الأيام، ولم تشتكِ. كانت تهتم بالبيت أكثر في غيابه. تُوزِّع حنانها على الكراسي، وقطع الأثاث، وأصص الورد التي اهتمت بزراعتها في الشرفة. تضع حبات الغلّة للطيور الصغيرة فتنقرها من على الأحرف الخارجية للشبابيك. وأحيانًا كانت تفتح النوافذ لآخرها وتنثر الغلة على السجاجيد. تأتنس بحركة العصافير من حولها، وهي تلتقط الحَب وتطير لعدة دورات قبل أن تخرج مجددًا من حيث دخلت. في غيابه كانت تُولِي عناية خاصة بملابسه، تفردها، تتشمم رائحته فيها، تطويها من جديد، تُعطِّر روحها بضم قطع الملابس نحو القلب قبل أن تُعيدها مُجددًا إلى الأرفف الخشبية للدولاب. كانت أيضًا تمسح التراب عن أحذيته المرصوصة، وتقبلّها أحيانًا.

يعود بعد كل غياب ليجد البيت أجمل ممّا تركه، يجد أشهى الأطعمة في انتظاره، لكنه لا ينطق. من يوم أخبرته أنها لن تقترب منه، وهو غالبًا لا ينطق. يتناول الطعام معها في صمت، لا يثني ولا يذم. ولا حتى يعنى بالنظر إليها، فهي غالبًا ما تخفي وجهها بذراعها، تاركة مساحة صغيرة للفم الذي تفتحه من وقت لآخر كمنقارٍ صغير لالتهام الطعام من الصحن المقابل في صمت تام.

ربما لم يتكلما أبدًا طوال أشهر عدة، إلا في المرة التي سألها فيها عن رائحة الحليب التي يتشممها في كل ركن من أركان البيت. ارتبكت يومها من سؤاله، تظاهرت بالاندهاش، وتهرّبت من الإجابة. ودون أن تنطق أو ترفع حتى عينيها نحوه، قامت بتحريك كتفيها قليلًا إلى الأعلى كإشارة بعدم المعرفة.

وهكذا مضت بهما الحياة، تختبئ منه ويهرب منها. حتى تجرأ في مرة وفاجأها قائلًا: إنه في حاجة لأن يُنجب طفلًا. انزعجت من كلامه.

سيكون أقبح طفل في العالم.

ردت عليه دونما تفكير.

غير مهم.

أجابها مُحركًا رأسه في اتجاهين مختلفين كتأكيد للنفي.

– احصل على طفل من أي امرأة ممّن اعتدت أن تقضي لياليك معهم.

– أنا لم أقضِ أيامي مع أحد أبدًا.

يُدهِشها اعترافه. تخشى أن تُصدِّقه. وتخشى أن تزعجه بقبح صغير ينمو إلى جوارهما. تحاول ألّا تنتبه لكلامه، لكنه يبذل أولى محاولاته الجادة لكي يقترب منها، تنتفض، تنبش بيديها في أقرب الحوائط باحثةً عن جُحر. يتقشر بعض الطلاء، تذوب بعض طبقات الإسمنت وتتدحرج فوق أظافرها كذراتٍ صغيرة. كلما اقترب منها، كلما ازدادت حدة النبش. حتى تكسرّت أظافرها وبعض عقل الأصابع، وانغسل الجدار كاملا بالدمع. يزداد عناده كلما تهرّبت، يشدها بالغصب إلى صدره. تنكمش فجأة ويتقلص حجمها تقريبًا إلى النصف.

يترقرق الحليب من صدرها بغزارة. يدرك أخيرًا مصدر الرائحة. يضمها. يتشرب قميصه حليبها الممزوج بالدمع. يقبل شامتها بنهم، تلحظ شامته لأول مرة، تتحسّسها أصابعها بلهفة. تُلقمه صدرها في الحقيقة، يرتوي، ينكمش، يتحول مثلها إلى فأر، لكنهما لا يعودان يبحثان أبدًا عن جحر.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.