تكشف الأيام المتلاحقة عن أن أوكرانيا قد صارت ساحة لاختبار الأسلحة الغربية الجديدة، وأن التجريب من ضمن أهداف الدول الأوروبية والولايات المتحدة من إمداد أوكرانيا بكميات مهولة من الأسلحة، فلا تسنح الفرصة دائمًا أمام مصنعيّ السلاح لتجربته في معارك ميدانية حقيقية، لذا فحين تتاح الفرصة لا يُفوّت مصنعو الأسلحة، والدولة التي تستفيد من تلك الأسلحة، الفرصة لإجراء تجارب مباشرة.

يتبادل الطرفان الاتهام بأن كل طرف هو المتسبب في إجبار الآخر على تجارب السلاح، يقول الغربيون إن استخدام روسيا لأسلحة متطورة وجديدة هو السبب وراء تقديمهم لأسلحة جديدة لأوكرانيا، بينما يقول الروس العكس، إنهم دُفعوا لإدخال أسلحة جديدة في ساحة المعركة.

فمثلًا أرادت الولايات المتحدة إمداد أوكرانيا بمنظومات أفينجر إم المُلقبة بالثائر لاختبارها على أرض الواقع، وبجانب الولايات المتحدة فألمانيا وبريطانيا كذلك خططتا لاختبار أكبر قدر ممكن من الأسلحة والنظم الحربية، فالصواريخ التي قدمتها ألمانيا لأوكرانيا هي نسخة حديثة من صواريخ إيريس- تي، وكان اختبارها الأول الحقيقي في أوكرانيا.

كذلك اختبر الشركاء الغربيون نظام دلتا الذكي للمعلومات والإنذار المبكر، وكان هو البطل في معركة خيرسون، المفاجئ أن نظام دلتا لا يعدو كونه شبكة على الإنترنت، يمكن للعسكريين أو المتطوعين أو حتى المارة في الشوارع أن يشاركوا فيه، ويشاركوا عبره أية تفاصيل تتعلق بالحرب والوضع على أرض الواقع، ليقوم النظام بتجميع كل تلك المعلومات وإعطاء إنذار عن احتمالية هجوم روسي، أو ينصح القوات الأوكرانية متى وكيف وأين تهاجم الروس.

تجربة الطائرات الإيرانية

كما جرى اختبار نظام سكاي وايبرس الألماني المضاد للطائرات، كما قررت واشنطن اختبار نظام أنفيل، وهو نظام يعني قيام حرب بين الطائرات المسيّرة وبعضها البعض من دون وجود عنصر بشري في تلك المعركة.

كذلك استطاعت شركة سبيس إكس، التابعة للملياردير الأمريكي إيلون ماسك، اكتشاف الجوانب الحربية في أقمارها الصناعية التي تطوق الكرة الأرضية، وأمدت كييف بالمعلومات الاستخباراتية، وقامت بمهام استطلاعية لخدمة أوكرانيا، كما اختبرت بريطانيا الصواريخ المضادة للدبابات نلاو.

بالطبع لم تفوّت روسيا الفرصة، واستغلت أوكرانيا لاختبار أسلحة يظهر بعضها في ساحة المعركة لأول مرة؛ مثل نظام الليزر الحارق بيرسيفت الذي يعطل الأقمار الصناعية ويحرق الطائرات من دون طيار، كما استخدمت الدبابات تي 90، المعروفة بأنها الأكثر تطورًا، واستخدمت صواريخ فرط صوتية من طراز كينجال، وهي الصواريخ التي ظهرت لأول مرة في تلك الحرب، وأثبت الصاروخ أن بإمكانه تغيير مساره تمامًا أثناء التحليق، رأسيًا وأفقيًا، لذا يصعب اعتراضه، ويصعب أن يفلت منه هدفه.

وشهدت المعركة الأوكرانية ظهور طائرات شاهد- 136 ومهاجر-6 إيرانية الصنع. كذلك شهد العالم استخدامًا خجولًا لمنظومة إس- 500 الروسية التي تجمع بين وظائف الدفاع الجوي والصاروخي، وأثبتت الطائرات الإيرانية والمنظومة الروسية كفاءة ملحوظة، جعلت سوق بيعهما ينتعش، لولا العقوبات الغربية المفروضة على الدولتين.

أوكرانيا حوّلت الهواتف لأسلحة

مدافع الهاوتزر العملاقة، وطائرات الدعم الجوي، ثبتت قلة تأثيرهم، والأهم هو سلاح الدبابات الذي قلب موازين العديد من الحروب سابقًا، بدا في أوكرانيا أنه لم يعد فعالًا كما يجب، بينما كتبت الحرب شهادة جودة للحروب الإلكترونية وتقنيّات الليزر، والمدافع المحمولة على الكتف.

وأعادت الحرب الأوكرانية الاعتبار للطائرات من دون طيار، فقد كان الشائع أن تلك الأسلحة تُستخدم في الحروب الخاطفة، والهجمات المباغتة، لكن لأول مرة تُستخدم من قبل جيش كامل يواجه جيشًا يمتلك آليات دفاع متطورة، واستطاعت الطائرات المسيرة الهرب من الدفاعات الجوية والمقاتلات المتطورة،

كما ساهمت تلك الحرب في بزوغ نجم نظام المدفعية الصاروخي الأمريكي، هايمارس، وهو نظام موجه بالليزر، فقد أثبتت المنظومة الجديدة تفوقها على مدافع الهاوتزر المعتادة، أنظمة هايمارس دمرت منذ بداية الحرب وحتى أواخر العام الماضي قرابة 50 مخزنًا روسيًا للذخيرة.

أوكرانيا نفسها ستخرج من الحرب بفكرة حربية طبقتها هي لأول مرة، البرامج محليّة التنفيذ التي تستخدمها لتوجيه بعض آليات المدفعية، فاستطاعت تلك البرامج البسيطة أن تُحوّل مجرد الهاتف المحمول أو الحاسوب إلى أداة توجيه دقيقة لأسلحة ثقيلة، من هذه التطبيقات تطبيق يُحوّل صور الأقمار الصناعية والصور التي ترسلها الاستخبارات الدولية إلى خوارزمية يستخدمها الهاتف لتوجيه الصاروخ المُنطلق في الجو بالفعل نحو الهدف تمامًا.

هذا التفكير كان سببه الحاجة إلى أدوات سريعة ورخيصة في نفس الوقت؛ لأن الحرب قد دخلت عامها الأول وبدأت في استنزاف مخزون أسلحة الطرفين، لذلك فكرت روسيا في نفس الأمر، واستخدمت لأول مرة طائرات بدون طيار مصنوعة من البلاستيك بالكامل، وخفيفة الوزن لأنها غير مثقلة بالتكنولوجيا، تقوم تلك الطائرات بالتسلل بهدوء إلى أماكن تمركز القوات الأوكرانية وتلقي القنابل عليهم، ثم تنسحب، أو يجري تدميرها.

كما طورت أوكرانيا نظامها الخاص، نبتون، لاستهداف السفن الروسية، النظام الذي لاقى رواجًا عالميًا بسبب سرعة تطويره، وقدرته على إصابة السفن من على بُعد يقارب 300 كيلو متر.

حرب لها ما بعدها

الأسلحة التي ظهرت لأول مرة أو تطورت عن نسخ قديمة، أو الأسلحة القديمة ثبت أنها لم تعد صالحة، كل ذلك يقول حقيقة واحدة، إن أوكرانيا أصبحت مختبرًا للأسلحة الغربية، فقد كان الغرب حريصًا وهو يقدم دعمه لأوكرانيا يعطيها أسلحة لم تُستخدم فعليًا في حرب بين دولتين.

تجدر الإشارة إلى أن قرابة 40% فقط من الإمدادات الغربية هي التي تصل إلى وجهتها النهائية في أوكرانيا، ما يفتح الباب للحديث حول انتعاش السوق السوداء للسلاح، وأن تلك الأسلحة التي لم تصل إلى الأيادي الأوكرانية ستصل إلى يد طرف ثالث، ما يعني انتعاش سوق السلاح ككل، خصوصًا بعد ارتداد المجتمع الغربي عن فكرة الدبلوماسية لحل الأزمات، وعودة مفهوم القوة العسكرية كأداة للردع أو لإجبار الخصم على ما تريد.

المهم أن استخدام تلك الأسلحة في حرب سريعة وكثيفة كالحرب الروسية الأوكرانية أعطى لصانعي الأسلحة معلومات مهمة عن معدل الصيانة التي تحتاجه تلك الأسلحة إذا استخدمت بكثرة، كما أثبت لهم أن بعضها يصبح بلا قيمة استراتيجية إذا أطلقت العديد من قذائفه على فترات زمنية قصيرة متتابعة.

ما يعني أن الحرب الأوكرانية لن تكون حربًا عابرة في التاريخ الحديث، بل ستغيّر شكل الحروب القادمة، وأولى هذه التغييرات أنها أضافت ميدانًا جديدًا للحروب، بعيدًا عن البر والبحر والجو، هو الحرب في الفضاء الإلكتروني، وباعتبار حرب أوكرانيا هي الحرب الأكبر التي تشهدها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية فإن نتائج تلك المعركة سوف تُشكل منهجيات الحروب لسنوات طويلة قادمة،

خصوصًا أنها تمثل صراعًا بين مدرستين، المدرسة السوفيتية الكلاسيكية، والمدرسة الغربية الحديثة، فأصبحت الحرب الأوكرانية بمثابة المكان الذي يشهد ميلاد أسلحة جديدة، وهي أيضًا المكان الذي يُكتب فيه شهادة وفاة أسلحة كان يُنظر إليها باعتبارها القوة الضاربة القادرة على قلب موازين أية معركة.