تتواصل الحرب الروسية الأوكرانية لنحو 19 شهرًا من القتال دون توقف، لكن يبدوا أنها تدخل فصلًا جديدًا تلك المرة أكثر تعقيدًا سواء ميدانيًا أو سياسيًا وكذلك اقتصاديًا، ففي أوروبا بدأت التظاهرات الرافضة للدعم المقدم إلى كييف تتزايد، أما واشنطن فاعتمدت استراتيجية جديدة حول الحدود السوفيتية القديمة.

ميدانيًا تزداد وتيرة المعارك بشكل ملحوظ خلال الأسابيع الماضية بين الجانبين، ففي الجبهة الشرقية باخموت (مفرمة اللحم)، نجحت القوات الأوكرانية في تأمين قريتي كليتشيفكا وأندرييفكا، على بعد حوالي 8 كيلومترات إلى الجنوب من باخموت بمنطقة دونيتسك، هذا النجاح التكتيكي بحسب الرؤية البريطانية يجعل القوات الأوكرانية أقرب إلى طريق T 05-13، وهو أحد طرق الإمداد الرئيسية إلى باخموت من الجنوب. تقع باخموت في ولاية دونيتسك التي تحتلها روسيا حاليًا، وتمثل مدخلًا إلى الشمال الشرقي الأوكراني وتحديدًا منطقة خاركيف، كما أن استردادها يعني تمكن الأوكرانيين من استخدامها كقاعدة للتوغل في دونيتسك واستعادتها.

 

وفي الجنوب بدأت القوات الروسية في إعادة الانتشار وبالأخص في محور دونيتسك، وذلك بعد ساعات من تعرض الأسطول البحري في البحر الأسود لهجوم أوكراني هو الثاني من نوعه في 24 ساعة فقط، مما أسفر عن سقوط قتلى وجرحى بينهم قادة عسكريون بحسب كييف.

العمق الروسي لم يكن بعيدًا عن المعارك، حيث كثفت أوكرانيا من استخدام سلاح المسيرات لتنفيذ مهام وصلت حد العاصمة موسكو، ففي الساعات الأخيرة الماضية اعترضت قوات الدفاع الجوي الروسي طائرات مسيرة على منطقة تولا المتاخمة لمنطقة موسكو من الشمال.

في سياق المعارك يقول نعومكن بورفات المتخصص بالسياسية الدولية بجامعة تافريسكي الأوكرانية، إن بلاده اعتمدت استراتيجية في التكتيك العسكري منذ إقالة وزير الدفاع مطلع الشهر الجاري، وإجراء تعديلات هيكلية في الوزارة والخطط العسكرية.

ويُضيف نعومكن بورفات، خلال تصريحاته لـ«إضاءات»، أن موسكو نفذت أكثر من عمليه انتشار جديدة لقواتها نتيجة الضغط الأوكراني الأخير، حيث اضطرت موسكو إلى إعادة نشر القوات المحمولة جوًا في قطاع ميليتوبول في ولاية زابوريجيا الذي يمثل الخط الفاصل بين الشمال الشرقي والجنوب الشرقي، ما أدى إلى ضعف دفاعاتها حول باخموت، كما ارتكزت أهدافها على الموانئ في الجنوب في محاولة لحبس أوكرانيا بحريًا عبر البحر الأسود.

هجوم مضاد بدعم جديد

خلال الأسابيع الماضية كثفت كييف هجومها المضاد منذ يونيو الماضي، وزيادة الزخم أيضًا باستهداف قلب موسكو بالمسيرات، تحركات تبعها زيارة خارجية للرئيس الأوكراني إلى واشنطن للمرة الثانية منذ بدء الحرب.

زيارة زيلنسكي إلى واشنطن كانت لوضع الخطوط العريضة حول كيفية استمرار الهجوم المضاد مع بداية فصل الشتاء، وبحث سبل تكثيف الدعم في ظل المعارضة الجمهورية في الكونجرس لإرسال إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن مزيدًا من الأسلحة إلى كييف.

وهنا يصف نعومكن بورفات، تلك الزيارة بالناجحة نظرًا لسرعة إرسال الدفعة الأولى من دبابات إم1 أبرامز الأميركية قبل أشهر من الموعد المحدد، التي تُعد ضرورية لتحقيق اختراق بشكل أكبر لحصون روسيا في الجنوب والشرق والتي بدأت بالفعل تتهاوى في باخموت.

الدعم الجديد الذي من المنتظر أن تستخدمه كييف قبل هجوم الطقس السيئ، لم يقتصر على دبابات إم1 أبرامز فقط، بل عمدت كييف على تطوير برنامج كامل للمسيرات البحرية أو الزوارق الانتحارية، والتي تشكل تهديد مباشر لهيمنة روسيا في البحر الأسود، المنفذ الوحيد لروسيا إلى المياه الدافئة حتى البحر المتوسط.

وحول تلك المنطقة الاستراتيجية والمهمة، يقول نعومكن بورفات المتخصص بالسياسية الدولية بجامعة تافريسكي الأوكرانية، إن هجمات الأيام الماضية دليل على تطوير قدرة كييف في استهداف أسطول من أهم الأساطيل البحرية الروسية والموجود في البحر الأسود.

ويؤكد نعومكن بورفات، أن تلك الهجمات ساعدت أوكرانيا أيضًا في البحث عن ممر جديد لشحن الحبوب في البحر الأسود رغم تهديدات موسكو المستمرة، ونجحت كييف أيضًا في تلك النقطة فاليوم نتحدث عن ثلاث أو أربع سفن شحن غادرت بالفعل موانئ تشورنومورسك وأوديسا وبيفديني.

 الدعم المُرهق ورهان الوقت

منتصف الأسبوع الماضي، استبعد الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ، أن تكون هناك نهاية سريعة للحرب الأوكرانية، تزامنت تلك التصريحات مع خطوة بولندية وصفت من جانب كييف بـ«الطعنة من الجيران» وذلك بعد إعلان رئيس الوزراء البولندي ماتيوش مورافيتسكي، أن بلاده ستتوقف عن تسليح أوكرانيا لتركز على تعزيز قوتها الدفاعية الخاصة.

إعلان بولندا الأخير حول وقف الدعم المقدم لكييف، سبقه تظاهرات حاشدة في التشيك، ضد حكومة يمين الوسط التي اتهموها بالاهتمام بدعم كييف أكثر من مواطنيها في ظل ارتفاع التضخم.

في تلك الزاوية، يقول رازفوجيف أولكسندر الباحث في الشؤون الروسية بمركز «الوشم الأوسط» للدراسات، إن الرهان الوحيد لدى قادة الغرب منذ بداية الحرب أن تتعب روسيا من طول الصراع، وأن تستسلم جراء العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من جانب أميركا ودول حلف الناتو، وأن تئن موارد الدولة الروسية المكرسة لخدمة الآلة العسكرية، وبالتالي هذا هو رهان الغرب لانهيار الدولة من الداخل ومحاولة إسقاط النظام في روسيا والنخبة الحاكمة بقيادة الرئيس فلوديمير بوتين.

ويؤكد رازفوجيف أولكسندر، خلال تصريحاته لـ«إضاءات»، أن المتضرر الأول من الحرب هي أوكرانيا، التي تأثرت بشكل كبير باستمرار المعارك لأكثر من 19 شهرًا دُمرِت فيها البنية التحتية ومرافق الدولة والاقتصاد، أيضًا بات الأوروبيون من يدفع فاتورة الحرب والصراع إلى جانب الأوكرانيين.

كما كشفت صحيفة تلغراف البريطانية مطلع الأسبوع الماضي، أن المزاج العام في أوكرانيا يزداد سوءًا بسبب الخسائر الكبيرة في الهجوم المضاد، واحتمالات وجود حرب طويلة الأمد دون تحقيق انتصار ملموس.

لم تنتهِ العقبات أمام أوكرانيا رغم الدعم من قادة الغرب، ففي واشنطن التي استضافت زيلنسكي منذ أيام، تعالت الأصوات الرافضة للدعم المطلق إلى كييف في ظل الميزانية الحالية والتطورات الاقتصادية التي تهدد حكومة الولايات المتحدة بإغلاق حكومي بسبب الفضل في تحديد سقف الدين.

بحسب تقرير لصحيفة واشنطن إكزامينر الأمريكية، نشر عقب انتهاء زيارة الرئيس الأوكراني، فإن خطة الرئيس الأمريكي جو بايدن لمواصلة الدعم العسكري لأوكرانيا تبدو كأنها «كمين سياسي» تم توقيته ليتزامن مع موسم الانتخابات الرئاسية لعام 2024، وعلى حساب المجهود الحربي الأوكراني.

ونقلت الصحيفة عن السيناتور الجمهوري عن ولاية فلوريدا ماركو روبيو، العضو البارز في لجنتي الاستخبارات والعلاقات الخارجية بالكونغرس، قوله إن «المتهكمين سيقولون إنهم غير ملتزمين حقًا تجاه أوكرانيا ويأملون أن يتمكنوا من إخراج أنفسهم وإلقاء اللوم على الجمهوريين في ذلك».

كما يتعين على رئيس مجلس النواب الأمريكي الجمهوري كيفن مكارثي الآن أن يخوض معركة معقدة، بحسب وصف التقرير، تتعلق بتمويل طلب الرئيس بايدن الحصول على أكثر من 24 مليار دولار لمساعدة أوكرانيا حتى نهاية عام 2023.

مناورة الغرب بكارت الحدود

بجانب حرب الاستنزاف الذي يخطط لها الغرب وواشنطن في أوكرانيا أمام روسيا بحسب الخبراء، يرى يفغيني فيتشسلاف العضو السابق بالدوما الروسي والخبير بالسياسة الدولية، أن هناك مخطط آخر لفرض حصار واستفزاز موسكو من خلال سلاح المناورات غير الاعتيادية التي أطلقها الغرب وواشنطن على مدار الأسابيع الماضية ولا تزال مستمرة.

ويُشير يفغيني فيتشسلاف، خلال تصريحاته لـ«إضاءات»، إلى مناورات (إيغل بارتنر 2023) الأمريكية المشتركة والتي استضافتها أرمينيا أحد حلفاء موسكو، كما تخطط قوات الدفاع الذاتي البرية اليابانية وقوات الجيش الأمريكي لإجراء مناورات في جنوب وشمال اليابان خلال الفترة ما بين 14 و31 أكتوبر المقبل.

ويؤكد فيتشسلاف، أن تلك الاستراتيجية أو كارت المناورات يأتي كرد فعل بعد فشل الهجوم المضاد، فواشنطن تحاول إنقاذ كييف بتشتيت موسكو وضم دول صديقة لروسيا من بينها جورجيا وأرمينيا إلى منطقتها المغناطيسية عسكريًا وسياسيًا لتأزيم العلاقات في منطقة بحر البلطيق.