بدأت أم كلثوم مشوارها الفني بالإنشاد الديني وتلاوة القرآن، واستغرقها هذا المسار طوال صِباها المبكِّر وإبّان تشكُّل وجدانها، وعندنا أنه الرافد الأهم على الإطلاق في إثراء تجربتها الروحية ومن ثم تفرُّد مسيرتها الفنية، وذلك بغير غمط تأثير العوامل الأخرى مثل دراستها للشعر وعروضه وللمقامات الموسيقية وثيقة الصلة وعظيمة الأثر في المدرسة المصريّة في تلاوة القرآن.

والحقيقة أن هذا الأثر ظل ناضحًا بارزًا في أدائها الفني طوال حياتها، وقد حيَّرتني تجلياته طويلًا حتى وضعت يدي على أول الخيط. فقد عاشت السيدة – رحمها الله – أكثر عمرها بغير تجربةٍ عاطفية حقيقية مما يكون بين الرجل والمرأة؛ تجربة تُبرِّر الثراء الروحي المذهِل لأدائها ونتاجها، وتُفسِّر حجم الأثر الوجداني الجمعي العميق والعابر لحدود الزمان والمكان.

إذ لا يكفي الإخلاص مُجرَّدًا لصنعتها في حفر مثل تلك البصمة الرائقة، بل لا بد من تجربة ذاتية تُلقي بدفء ظلالها وتسقي بعذوبة مكابداتها ذلك الإخلاص ليكتسي تلك الغلالة الشفيفة التي لا تُرى إلا شوقًا ولا تُدرَك إلا ذوقًا. بغض النظر عما عُرِف من جفائها الذي كان يبلُغ درجة العدوانية في بعض الأحيان.

أم كلثوم، إبراهيم البلتاجي
أم كلثوم برفقه والدها الشيخ إبراهيم البلتاجي عام ١٩٠١ م وكان عمرها حوالي ثلاث سنوات

ويبدو أنه حين تكشَّف لي عمق العلاقة بين حبنا للبشر وبين العشق الإلهي؛ فُتِحَت مغاليق هذا السر في روعي، وفي ذلك كان للتجربة والمكابدات الشخصية الدور الأكبر، ثم يأتي فضل شيخنا ومولانا العارف بالله سيد حسين نصر وطريقته[1].

اقرأ أيضًا: الحب في زمن التألُّه

وأنا هنا لا أفترِض بالضرورة أن أم كلثوم تجسيدٌ صوفي كامل أو دائم أو مثالي، بل أجد فحسب أن تجربتها المبكِّرة كانت من العمق والثراء بحيث تركت أثرها غائرًا حيًا في روح السيدة، بغض النظر عن طبيعة أعمالها الغنائية اللاحقة وحُكمها وتقييمها.فقد تجلى لي أنه إذا كان العروج إلى العشق الإلهي على درج الحب البشري يصنعُ تجربة حافلة ثرية، فإن التدلي من سماوات العشق الإلهي للتعبير عن الحب البشري يَكشِفُ عن آفاقٍ أغنى وأعماقٍ أقدس بالضرورة.فلا يستوي من عبَّر عن سدرة تفيؤ عشق المسبِّب مُرتقيًا فردوس السبب، ومن عبَّر عن بهاء السبب مجذوبًا بعشق المسبِّب الأبهى بلا واسطة.


وقد بدأت علاقتي الشخصيّة بأم كلثوم في مرحلةٍ متأخرة نسبيًا؛ إبّان الدراسة الثانوية قبل ما يقرُب من رُبع القرن. ويبدو أن ذلك كان وثيق الصلة ببدء تفتُّح براعم الوجدان في مرحلة المراهقة؛ إذ تكتشِفُ معالم وجدانك المذخورة مع أولى مكابداتك وأكثرها غضاضة وبراءة، لتتكشَّف لك آفاق رحيبة من المشاعر وأعماق مُذهلة للمعاني في شدو السيّدة وأدائها المُسكِر. نعم مسكِر.

وهو سُكرٌ يبدأ طربًا وخِفّة حتى يبلُغ مُنتهاه فيما يُشبِهُ الذهول النشوان عن الوجود. وقد كان هذا السُكر تحديدًا ما جعلني أفِرُّ من الاستماع إليها إلا حين يحملني الشوق على ذلك حملًا لا أستطيع له دفعًا. فقد كُنت عقلانيًا ماديًا لا أصبر على سُكر الوجد حتى ابتُليت بمكابداتٍ مُزلزلة كانت هي السُكر عينه.

وقد أفادتني هذه المسافة التي أفسحتها بيني وبين السيدة لأتأمَّل في أسباب هذا الأثر المُرعِب. نعم مُرعِب؛ فلا شئ يفوق هذا السُكر رُعبًا… ولذَّة! رعب الذهول عن نفسك، ولذَّة العثور عليها في سماواتٍ لا طاقة لك على ارتيادها بغير هذا العشق الجارِف. وهي لذة قد ينال طرفًا منها من كان له من حب الشعر وتذوّقه نصيب.

والحقيقة أن الحال التي تتسبَّب بها السيدة لمستمعيها حال صوفية بمعنى من المعاني. فهي جذبة كاملة، وحالة استلابٍ روحية لا تُفضي بك إلى شيء في هذا الوجود، برغم أنها تتغنَّى بعشقٍ بشري. بل قد يذوق هذا السُكر بعض من لم يمُرُّ بتجربة روحية أو عاطفية أبدًا، إذ يجد نفسه مسلوبًا في حالٍ لم يُجرِّبها من قبل.

وقد لجأت أجيال من المصريين لتدخين الحشيش تحت تأثير هذه الحال «الكلثومية»، رغبة في إطالة أمدها وزيادة أعماقها، بدل أن يلجؤوا لتجربة روحية أو عاطفية حقيقية تُسكِنُ أرواح المعاني في مكابداتهم الحياتية. وهذا لعمري شديد الشبه بارتباط حيرة الهيبيز ومغامراتهم الروحية بتعاطي المخدرات، بل يكاد يكون نمطًا كامنًا للارتباط الشرطي بين هذا النوع من السُكر «الوجداني/الروحي»المنفصِل عن القيمة وبين تعاطي المخدرات.

وكما كانت رحلة نجيب محفوظ الروائية في البحث عن الألوهية طريقًا صوفيًا بمعنى من المعاني، فإن رحلة أم كلثوم في التعبير عن العشق الإلهي من خلال التغنّي بالعشق البشري يُمكن اعتبارها هي الأخرى رحلة صوفية لكن في الطريق «العكسي». إنها رحلة في مقامٍ أعلى. فإذا كان طريق محفوظ ينطلق من هواه المذبذب وعقله الفلسفي المتحيِّر، بحثًا عن دليلٍ صلبٍ؛ فينتهي به المآل بالتسليم العاشق الذي يتجسَّد في رواياته المتأخرة (مثل الحرافيش)، فإن طريق السيدة – رحمها الله – كان تجليًا للتسليم العاشق في نتاجها المعبِّر عن درجة أدنى في سُلَّم العِشق.

كانت رحلة تحقُّق إنساني تعدّى فيها أثر تسليمها العاشِق إلى من سواها من خلال ما قدَّمت. وقد تلقَّاها كل مُستقبلٍ كما تسمح له مكابداته. لقد كان محفوظ باحثًا قد يُستَدَلُّ بمكابداته وكانت رحلة السيدة دليلًا على ما لا يجوز الاستدلال إلا به. وعلى الرغم من أن طريق السيدة قد يبدو أكثر أمانًا في ظاهره؛ فإن من تاهوا فيه أكثر بكثير ممن ابتلعهم شك محفوظ العقلي القديم. فضلا الروح أيسر كثيرًا من ضلال العقل، وتزيين الأول أيسر مؤونة بالتوهُّم، وليس مثل توهُّم الوصول خطرًا على السالك.

وإذا كان بني الإنسان يستدلون عادةً بالأثر على المؤثِّر، فإن الاستدلال بالمؤثر على ما دونه مقام جذبٍ لا يُدركه إلا قلة من الأصفياء. لقد بدأت رحلة محفوظ بالشك والنفي الفلسفي وبدأت رحلة السيدة باليقين والإثبات الصوفي، وآلت الأولى إلى الإثبات وأجد أن مآل الثانية كان هو الثبات.


لقد نصح أحمد رامي أحمد شفيق كامل يومًا بألا يبدأ حياته الفنية بنظم الشعر وكتابة الأغنية بالعامية، بل أن يعرُج أولًا إلى سماوات الفُصحى حتى يتمكَّن منها ويُحكِم أدواتها، ثم يتدلَّى إلى العامية؛ فإنه في ذلك يُحكِمُهما معًا. أما إن بدأ بالعامية؛ فسوف يُقعِده عجز الدهماء وعيّ العوام عن السمو للفصحى. وفي حضرة أم كلثوم، وفي مسيرتها؛ سنجِدُ تجسيدًا كاملًا لنصيحة أستاذها ورفيق رحلتها الفنية-الروحية رامي. بل ربما كان هذا الانسجام في الطباع والمنطلقات هو السبب الأهم في توثُّق عرى الصلة بينهما لعقود.

أحمد رامي
أحمد رامي منصتًا لأم كلثوم

لقد بدأت أم كلثوم بالأعلى في بِطانة والدها المنشِد، بدأت من سماوات العشق الإلهي والإنشاد الديني؛ وانتهت بالتغنّي بالعشق بين البشر بروح ووجدان المنشِد الديني. وعندنا أن هذا هو سر أثرها الكاسح. أنها كانت تتغنّي بالعشق بين البشر بوجدان من شَهِدَ دقائق العشق الإلهي، مع قصور تجربته عن تذوّق بعض العشق البشري.

فكان ما تشرَّبه وجدانها من نعيم العشق الإلهي زادًا لها حملت عليه العشق البشري لترقى به إلى آفاقٍ أسمى وأرحب كثيرًا. وقد انعكس وجدان الاستغناء العاطفي الصوفي هذا حتى في زواجها، الذي كان رابطة اجتماعية أكثر منه رابطة روحية أو عاطفية يبدو أنها لم تكن بحاجة إليها أصلًا. وعلى الرغم من أن الموسيقيين والشعراء أنفسهم الذين زوَّدوها ببعض ثمار قرائحهم قد زوَّدوا غيرها بأكثر نتاجهم، فإن التعاون مع السيدة قد طوى قدرًا من الإلهام الروحي يفوق بكثيرٍ ما ناله هؤلاء المبدعون من التعاون مع غيرها من «مُحترفي الفن»!

خبر زواج أم كلثوم
خبر زواج أم كلثوم

لقد تدلَّت إلينا أم كلثوم من سماوات العشق الإلهي لتنقل التغنّي البشري بالمحبوب نقلةً بعيدة… جد بعيدة. وظاهر الأمر أنها قد تلبَّست هذا الوجدان «الجديد»بصورةٍ كاملة، حتى لقد خفي على من اجتاحت أفئدتهم بدفء أمواجه متابعة وتبيُّن معالم رحلتها الروحية بعد ذلك. وليس واضحًا إلى أي مدى استطاعت أم كلثوم التزوّد لاحقًا من المعين الذي استمدَّت منه أول مرة، ولا كيف كانت طبيعة مكابداتها المتأخِّرة؛ فيبدو أن أكثر المحيطين بها لم يكونوا يكترثون لهذا الأمر. ونحن من ثم لا نملك إلا أن ندعو لها بأن يكون باب المدد الإلهي قد ظل مُشرعًا رحبًا في وجهها، وأن يكون قد خُتم لها بإخلاص المكابدة في العروج عودةً إلى حيث أتت. رحم الله السيدة، وغفر لها، وتجاوز عنها.

كلمات : طاهر أبو فاشا تلحين : رياض السنباطى مقام : حجاز

عرفت الهوى مذ عرفت هواك وأغلقت قلبي عمن عداك وقمت أناجيك يا من تـــــرى خفايا القلوب ولســــــنا نراك أحبك حبين … حب الهوى وحـــــــــــباً لأنك أهل لــــــذاك فأما الذي هو حب الهوى فشغلي بذكراك عمن ســـــــواك وأما الـــــــــذي أنت أهل له فكشــفك لي الحجب حتى أراك فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الحمـــــد في ذا وذاك أحبك حبين … حب الهوى وحـــــــــــباً لأنك أهل لــــــذاك وأشتاق شوقين . شوق النوى وشوقا لقرب الخطى من حماك فأما الذي هو شوق النوى فمســـــرى الدموع لطول نواك وأما اشـــتياقي لقرب الحمى فنار حياة خــــبت في ضياك فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الحمـــــد في ذا وذاك

[1] لمزيد من التفاصيل عن طبيعة هذه العلاقة؛ راجع ترجمتنا لمقال مولانا وليم تشتك على موقع مركز نماء للدراسات، والمعنون: «الإسلام وسلطان العشق». وستصدر نهاية هذا العام (2017م) بحول الله ترجمتنا لكتاب مولانا سيد حسين نصر: «حديقة الحقيقة»، وفيه تفصيل كافٍ وبيان شافٍ.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.