وُلدت أم كلثوم عبئًا على أبيها الشيخ إبراهيم البلتاجي، مؤذّن مسجد قرية طما الزهايرة، ومُنشد التواشيح الدينية في الليالي والموالد. فتحت إلحاح من أمها لإيجاد وسيلة توفّر قرشًا واحدًا في الأسبوع تدفعه الفتاة الصغيرة لشيخ الكتاب، وافق الشيخ إبراهيم على مضض استكمال تعليمها، فقد كان كل دخله الشهري بالكد والتعب عشرين قرشًا.

في الخامسة من عمرها وبالصدفة، لفت نظر والديها موهبة أم كلثوم في حفظ وتقليد تواشيح الأب. وفي السادسة، على كنبة في بيت شيخ البلد وقفت أم كلثوم تُحيي أولى حفلاتها، غنّت لأول مرة في حياتها أمام جمهور من خمسة عشر فردًا، لم يبخل أحدهم عليها بالتصفيق استحسانًا لصوتها.

في ليلة أخرى انتقل التصفيق من بيت شيخ البلد إلى بيت العمدة، ثم إلى ليالي وموالد القرى المجاورة. ذاع صيت أم كلثوم وتحولت إلى مشروع عائلي ومصدر دخل لأسرتها من الغناء في أفراح الأسر المتوسطة.

وفي كتاب «ملحني أم كلثوم: حكايات وأسرار فنية وأغنيات ونوتات موسيقية»، يرصد الكاتب «فوزي السعداوي» رحلة أم كلثوم إلى المجد.

الأستاذ الأول

في زيارة لعزيزة بنت العمدة، تعرّفت أم كلثوم لأول مرة على الشيخ «أبو العلا محمد»، تسلل صوته من الفونوغراف يملأ الدوار بقصيدة «أفديه إن حفظه الهوى أو ضيعه»، لتُعيد سماعها أم كلثوم مرة تلو المرة.

على رصيف قطار جاء اللقاء صدفة عندما ساد الهرج بمجرد انتشار خبر وجود الشيخ أبو العلا محمد، كانت أم كلثوم في انتظار قطار العودة من فرح في قرية قريبة بصحبة أبيها وأخيها. لم تستسلم إلا والشيخ يستجيب تحت إلحاح منها إلى دعوة غذاء في منزل أسرتها.

كان هذا التعارف بمثابة اللبنة الأولى في هرم أم كلثوم، على يدي الشيخ أبو العلا، الذي قرّر أن يصبح راعيها ومُعلِّمها. تخلّصت من عبء الغناء -من باب أداء الواجب- لقصائد المديح والموشحات التي لقّنها إياها والدها. انتصر رأي الشيخ أبو العلا، الذي تنصاع له أم كلثوم على رأي والدها، في الخروج من نطاق القرى إلى القاهرة.

أول زيارة للقاهرة كانت فرصة للغناء في حفل كبير يحضره الأعيان والأكابر في قصر الوجيه «عز الدين يكن» بحلوان، لم يكد الأخير يراها بملابسها البسيطة: بالطو وعقال وكوفية، حتى ثار رافضًا إحياءها للحفل، وطلب إحضار الشيخ إسماعيل سكر، قبل أن يضعها في البدروم مع الخدم.

أعطى نجاح الحفلة بفضل صوت الشيخ إسماعيل سكر، الذي رفع مزاج المدعوين إلى عنان السماء، فرصة لأم كلثوم للغناء كفقرة إضافية في نهاية الليلة، انتزعت إعجاب الجميع وعلى رأسهم الشيخ سكر، لدرجة أن سيدة القصر طلبت رؤيتها في الحرملك.

انتقلت أم كلثوم من نجاح إلى نجاح تحت رعاية أستاذها الشيخ أبو العلا، الذي كان يحرص على الذهاب معها إلى مسرح «ماجستيك»، بعد أن اتفقت مع «علي الكسار» على تقديم وصلة هناك للسيدات كل يوم ثلاثاء.

خطوة جديدة على طريق المجد

جذب فن الفلاحة البسيطة، البعيد عن الابتذال وإثارة الفتن، اهتمام الجمهور وعداء المطربة «منيرة المهدية» وأمثالها. شنّت الصحافة حملة مدفوعة وصلت إلى حد اختلاق شائعات تخوض في الشرف والأعراض لا أساس لها من الصحة، لكنها وجدت من يُرحِّب بحضورها الدافئ ويدعمها، بسبب موهبتها ودماثتها.

الأول كان «مصطفى باشا عبد الرازق»، الذي أصبح فيما بعد وزيرًا للأوقاف، قبل أن يتخلّى ذات يوم عن لقب البشاوية لتولي مشيخة الأزهر، لأن لقب شيخ الأزهر لا يجتمع معه لقب آخر. والآخر، «علي بك البارودي»، الذي نصّب نفسه هو الآخر راعيًا لمصالحها.

تعرّفت أم كلثوم عن طريق الشيخ أبو العلا على شاعر شاب يُدعى «أحمد رامي»، وأقنع علي بك البارودي الملحن «أحمد صبري النجريدي» بالتلحين لها، فانتقلت إلى نقطة أخرى تمامًا.

توالت قصائد أحمد رامي وألحان أحمد صبري النجريدي. كوّن لها هذا الأخير فرقة موسيقية من أكبر العازفين وأشهرهم، من أمثال «محمد القصبجي». أقنعها بتغيير العقال والبالطو لترتدي ملابس على الموضة، قبل أن يدفعها توتر أصابها أثناء أداء إحدى الحفلات لتمسك منديلًا، صار عادةً مُلازمة لها.

صنع أحمد صبري النجاح لأم كلثوم، حتى أتت أغنية «شوفت بعيني». وعلى عكس مؤلفها أحمد رامي الذي عاش قصة حب من طرف واحد لأم كلثوم امتدت طوال نصف قرن، طلب أحمد صبري الزواج منها، فكان ردها: «أنا مليش في حكاية الجواز دي… إحنا فلاحين ولينا تقاليد… اسأل أبويا». وكان فشل مشروع الزواج هذا، نهاية تعاون أم كلثوم وأحمد صبري، بعد ثلاثة عشر لحنًا.

مع تقدمه في السن وضعف صحته وقلة حركته، ضعف وقود الشيخ أبو العلا في قطار أم كلثوم. أجهزت عليه زيارة من منيرة المهدية إلى منزله كالت له فيها إهانات بسبب غيرتها الشديدة من نجاح أم كلثوم ومعاونته لها، لم تتحملها صحة الشيخ أبو العلا فأصيب بالشلل.

في جنازته، كانت أم كلثوم السيدة الوحيدة التي سارت فيها. وفي أكثر من حفلة غنت أعماله وذكرت اسمه اعترافًا بفضله أمام الجمهور.

انتزاع الصدارة

كان محمد القصبجي معركة أخرى بين منيرة المهدية التي غنت أول ألحانه، وأم كلثوم، حسمها صوت الست، ليستمر تعاونهما أربعين عامًا. نقلها القصبجي من الغناء في الصالات العادية مثل: البسفور وسانتس، إلى دار التمثيل العربي، حيث تغني منيرة المهدية.

لم تدم رئاسة القصبجي لفرقة أم كلثوم، والتي عهدت بها إلى «محمد عبده صالح»، لكن على الرغم من ذبحة صدرية وقرحة أمعاء وصداع لا علاج له، لم يتخلّف القصبجي عن حضور حفلاتها جالسًا إلى يسارها بعوده.

استمرت أم كلثوم تنتزع الملحن تلو الآخر من منيرة المهدية. فبعد القصبجي وداوود حسني، انضم رياض السنباطي بأغنية «النوم يداعب عيون حبيبي»، ليُشكِّل أحد أعمدة الهرم الثلاثي.

وفي أول جلسة تعارف مع محمد الموجي، أعطته ورقة تحوي قصيدة الجلاء قائلة: «الحفلة بعد 15 يوم»، فقام الموجي بتلحينها –مذهولًا- بعد يومين فقط.

وفي مكالمة هاتفية أخبرها الموجي أنه لم ينتهِ من لحن أغنية لها، فأغلقت السماعة بهدوء، ليتفاجأ بإنذار منها على يد محضر تُطالبه باللحن، ذهب إليها مُعاتبًا، فاستقبلته ضاحكة: «وأنا أعمل ايه يا محمد… كل يوم شايفاك بتلحِّن لشادية وصباح ووردة وسايب الأغنية… قلت أجيبك بالمحكمة»، فجاءت أغنية «للصبر حدود» وبعدها «الأطلال».

غضبت أم كلثوم من مطالبة «سيد مكاوي» بالاتفاق على أجره قبل أن يبدأ العمل، لتلحين أغنية «أنساك»، فطارت الأغنية إلى بليغ حمدي، الذي أدخل الأورج الكهربائي لأول مرة في ألحان الست، لتُغني بعدها «سيرة الحب» و«فات الميعاد».

زال الخلاف مع سيد مكاوي، فأعادها مرة أخرى إلى التخت بأغنية وحيدة غنّتها له هي «يا مسهرني». دفع نجاحها أم كلثوم كي تسحبه من يده لتقدمه على المسرح إلى الجمهور.

«إنت عمري»

أمّا «محمد عبد الوهاب» فكان قصة أخرى. أشعلت الصحافة الغيرة بينهما لأعوام طويلة، فشل خلالها كل محاولة لتقديم عمل فني يجمعهما.

دخلت أم كلثوم إلى المسرح ذات مرة تُغني، فوجدت ضابطًا يستوقفها ليقدم لها مظروفًا مغلقًا، يحوي طلبًا من ضباط كتيبة مُحاصرة في الفالوجة، بسماع أغنية «غلبت أصالح في روحي»، فلم تتردد في قطع وصلتها الأولى لتقديمها. وبعد انتهاء الحصار وعودة الكتيبة، وجّهت الدعوة للأبطال لزيارتها، وقفت تستقبل حوالي ٥٠ ضابطًا في صالون فيلتها الكبير بالزمالك، فكان جمال عبد الناصر أحدهم.

بعد الثورة، أخبر «صلاح سالم» عبد الناصر قرار الست اعتزال الفن، بسبب مساندة بعض ضباط الثورة لمحمد عبد الوهاب ضدها في انتخابات نقابة الموسيقيين. في منتصف الليل رنّ هاتف منزلها، وجدت منْ يخبرها بموعد مع عبد الناصر في الصباح. جاء إلى صالون فيلتها في الزمالك بصحبة صلاح وجمال سالم وعبد الحكيم عامر وآخرون، فسُويت المسألة.

توطدت العلاقة مع جمال عبد الناصر، الذي لم يجد أثناء العدوان الثلاثي مكانًا في مصر كلها أكثر أمنًا من فيلتها في الزمالك، كي يرسل إليها أسرته.

وفي حفل نادي الضباط بمناسبة احتفالات ثورة يوليو، دعا عبد الناصر أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب للعشاء على مائدته، فلحّن عبد الوهاب «إنت عمري».

غنّتها أم كلثوم على مسرح الأزبكية، فألغت دمشق نشرة الأخبار لتذيعها، وتعطّل المرور في شبرا طوال ساعتين فشلت خلالها كل محاولة لتفريق الجمهور الذي تجمع على ناصية شارع مسرة وشبرا، بعد أن أستأجر تاجر خردوات ميكرفونًا أذاع فيه شريطًا مُسجلاً للأغنية.

ذهب عبد الناصر وجاءت السبعينيات، تدهورت صحة أم كلثوم وتبخّر مشروعها الخيري. حاولت الاستمرار فكانت أغنية «ليلة حب»، التي لحّنها محمد عبد الوهاب، آخر أغانيها.

فوجئ جمهورها العريض على شاشة التلفاز، الذي كانت أول منْ غنّى فيه بعد افتتاحه، بـ «يوسف السباعي» ينعي رحيلها، وذلك بعد أن صعدت روحها إلى رب كريم، في تمام الساعة الرابعة عصر يوم الإثنين 3 فبراير/شباط عام 1975، في حجرة رقم 501 بمستشفى المعادي.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.