هذه نصوص قصيرة، داومت على كتابتها على فترات متباعدة، وضمّنت بعضها مجموعة قصاصات، إنها مجرد خاطرة مثل خواطر الشعراء، تعن لك فجأة ثم تترك وترحل. لا أستطيع تصنيفها، لا أعرف إن كانت قصصًا أم قصائد نثر. إنها حالات خاصة قد تقترب أحيانًا من شكل القصة القصيرة جدًا، وأحيانًا لا تكون إلا مجرد فكرة، أو ما يشبه قصيدة النثر. أظن أنها تستجيب لميلي القديم لكتابة الشعر، فلها نفس وقع القصائد عندما تتراءى لي، ونفس سطوتها، فهي تستبد بي أحيانًا وأجد نفسي ألاحق تلك الخواطر الشاردة. الحقيقة أنني أُفرِّق بينها وبين القصص القصيرة بحدس داخلي، لا أتمكن من الإمساك به وصوغه في كلمات، لكنها في النهاية لحظة مُكثفة أو انطباع أو موقف أو حتى فكرة، تثير انتباهي ورغبتي في تشكيلها.

إعاقة

تجلس وحدها في بيت العائلة الذي يطل على موقف الحنطور القديم، من نافذة المطبخ الواسع تشاهد جسر السكة الحديد، تغمره الشمس في العصر والقطارات تعبر مسرعة أو متمهلة.

لا مفر من أن يصدق المرء أنها خلقت حياتها على هذا النحو، وأنها تشبثت بإعاقتها كأعز ما منحت، واستغلت بذكائها الفطري، أهمية ذلك الضمور الخلقي في عضلات الساق والقدم اليسرى، من أيام المدرسة الابتدائية، عندما كانت تطلع السلم ببطء، فتحجز الأولاد والبنات خلفها. تمد يدها اليسرى لتستند على الدرابزين واليمنى على الحائط لتحفظ توازنها. تسمع صياحهم وتعجلهم، لا تعبأ بهم. تجد متعة في أن تصعد متمهِّلة.

تتحرك في البيت الواسع، حركة أكثر بطئًا من المعتاد، وعندما ترتدي الشبشب يصبح لخطواتها حفيف مسموع في أرجاء البيت، وفي لحظات الغضب، تزيد من الحركة إعلانًا عن وجودها.

اكتشفت باقي الفوائد عندما أخذت أمها تُلبي كل طلباتها مدفوعة بإحساس بالذنب بأنها منْ أنجبتها، وورث الأب عن الأم إحساسها بالذنب، فقد أسهم هو أيضًا في مجيئها إلى الدنيا، ولسبب ما اعتبرها بركة، فكان يشتري لها عددًا من القراريط ويكتبها باسمها، يُحيطها بحنان حزين يغص بالخوف على مستقبلها، مُدركًا أنه ميّت وهي ستعيش بعده وحيدة، وربما مهجورة من إخوتها الصبيان بسبب نصيبها من الأرض.

لكنها عرفت أيضًا الخسائر الهائلة في سنوات الصبا، عندما لم تحظ بانتباه أي شاب ممّن كانوا يرابطون على باب مدرسة البنات. وسنوات الجامعة كانت صعبة، تتذكر حرارة الجو في يونيو، أيام الامتحانات، عندما تفوح رائحة جسدها قوية مُنفِّرة كأنه كتلة من اللحم المُتهرئ، عندها تسمح للحزن أن يسكن قلبها وتتحسر على نفسها، وتتمسك بإعاقتها وتُعلنها بوسائل خفية، وتفرح بهذا التحكم السري في حياة منْ حولها، وتتفنّن في بعث مخاوفهم عندما لا يُنفِّذون لها ما تريد.

تعلمت أن تستخدم كل ما لديها من حيل لكي تُذكِّرهم بنفسها، لقد كان ذلك أمرًا طبيعيًا، ولكنه في النهاية أنتج حياتها الآن، فهي تجلس وحدها في بيت العائلة، ومن نافذة المطبخ ترى القطارات ترحل وتجيء وتتذكر أباها وأمها.

فلو افترضنا أنها تقّبلت إعاقتها باعتبارها مجرد إعوجاج في الفرع، وأنها يمكن أن تعيش حياة عادية، لو حدث ذلك لأخذت الأمور مسارًا مختلفًا، لكنها استعذبت الحس بالذنب من جهة الأم والأب، ومن دون وعي راحت تضغط على حس الذنب في العائلة، فعندما تدّعي الغضب منهم وتفتعل خصامهم، يخافون من زعلها، لأنها إن دعت على الواحد منهم فسيحدث له مكروهًا بلا ريب، فدعوتها مستجابة لأن الطبيعة متعاطفة معها، لأنها أسهمت في إعاقتها وحرمانها من حياة عادية مثل بقية الخلق.

في المطبخ أمام النافذة المفتوحة تقضي أمسياتها تراقب القطارات تمضي وتجيء، وشمس العصر تغمر خط السكة الحديد، بعدما يتباعد هزيمهم مسرعين إلى بلاد بعيدة.

دراجة عم عبده

كل يوم في السادسة والنصف يأتي «عم عبده» من قريته على دراجة قديمة، تهالكت وتحوّلت إلى خردة تقريبًا. «عم عبده» أصبح على المعاش منذ خمسة أعوام. سمحت له مديرة المدرسة أن يعمل بأجر تُوفِّره له، آخر الشهر، من تبرعات المدرسين.

في الصباح الباكر تراه مقبلًا من نهاية الشارع يقود دراجته. يفتح باب المدرسة الرئيسي ويستقر بجوار باب دخول البنات. يربط الدراجة في ماسورة المياه جنب السور، ويفتح الباب على مصراعيه ويجلس صامتًا.

تُمازِحه البنات، لا يرد عليهن كثيرًا، ويبتسم بسمة محايدة كجد عجوز. مرّت عليه أجيال كثيرة. يقول بفخر إن المديرة نفسها كانت طالبة في نفس المدرسة، تعبر نفس الباب.

يهتم «عم عبده» بالدراجة كرفيق من الصعب الاستغناء عنه. يسأله بعض المدرسين: «لم لا تركب ميكروباص؟».

يقول باستغراب: «لن أحشر نفسي في علبة سردين. أنا حر ومعي ركوبتي»، وينظر إليها بإعجاب، هادئة مربوطة بجنزير في ماسورة المياه.

لا تُفارق الدراجة بصره. يصحبها في الرجوع مثل حمار أليف. يُشمِّر جلبابه الفلاحي ويقفز عليها آخذًا طريقًا مغايرًا لمسار السيارات، غير عابئ بنصيحة مُدرِّس الزراعة الذي يقول له: «العجلة أخطر من الميكروباص، وسنك لا تسمح».

العمر واحد والرب واحد.

يرد وهو يدفع الدراجة إلى الأمام في طريقة إلى قريته.

منذ أيام قالت المديرة: «ارفع هذه الكهنة من هنا، سوف تزورنا لجنة من مصر. اربطها بجوار كشك العيش خارج المدرسة». في هذا اليوم أخذ «عم عبده» الدراجة وخرج بها من باب المدرسة، وفي اليوم التالي لم يأت ليفتح باب البنات.

مرّ أسبوع من دون أن يظهر. أرسلت المديرة، أحد المدرسين ليسأل عنه. عاد قائلًا إنه مريض، وعندما يُشفَى سوف يجيء.

لم يعد عم عبده إلى المدرسة.

حب قديم

رأيت فتاة في شارع الفاتح عند سوق الجملة. تمشي مع زميلاتها عائدة من الدروس الخصوصية في المساء. كنت غارقًا في خواطري، عندما لمحت جانبًا من وجهها. جذبتني ملامح الوجه، ورغبت أن أنظر إليها ثانيةً.

عرفت مثل هذا الوجه في يوم من الأيام، ربما تشبه جارة أو قريبة؛ غمّازات الخدين تستحضر ذكرى قديمة لكنها تفلت مني، وكذلك النمش الخفيف على الأنف الدقيق. أحببت أن أبقى في مجال المشاعر التي أثارها الوجه.

سبقت مسافة كافية ودخلت صيدلية لأسأل عن دواء، ناقص في السوق؛ حجة حتى تقترب هي ورفيقاتها. مرة أخرى رأيت الوجه المستدير وبعثت الغمازات في كياني رجفة. لقد أحببت هذا الوجه في يوم من الأيام، إنه يشبه وجهًا قديمًا أعرفه، له نفس الانطباع المُحبَّب.

تفرقت البنات عند عمارة على ناصية الشارع، وعدت وحدي أمد خطوتي -مُستثارًا وانطباع الوجه يحمل آثارًا قديمة- في حالة حيرة منْ يوشك العثور على حل للغز، لكنه يفر منه في اللحظة الأخيرة.

رافقت مشاعري بهجة حاولت استبقاءها قليلًا، علّها تشير إلى مصدرها. في لمحة خاطفة، ظهر الوجه القديم، وجه «سناء» بنت الأستاذ «سعد»، زميلتي في ستة ابتدائي. هلّت الذكرى، وجاءت البهجة القديمة ورافقتها دهشة لمدى الحب الذي أحببته لهذا الوجه، دون أن أدرك وقتها كلمة «الحب».

لا بد أن تلك البنت الآن في بيتها بعد دورس المساء. أشعر بامتنان لها، وللحظة توافق نادرة لم تكن في الحسبان، بعد أربعين عامًا، تأتي صدفة لتبعث مشاعر قديمة وتمنحها اسم «الحب».

لولا رؤيتي لهذه البنت في هذا المساء، لما تعرّفت على حب قديم ظل غافيًا أربعين عامًا، من دون اسم، حتى ظهرت تلك البنت فأعطته اسمًا ومنحته الوجود.

حضورها غير المتوقع رفع الغطاء عن مشاعر قديمة وحرّرها من غفوتها، واستعدت فرحتي برؤية «سناء» ذات الضفائر والغمازات والنمش على الأنف، تبتسم فتثير بهجة تلقائية ومرحًا عذبًا في الصباح.

حديث الذاكرة

في المساء يجلس على مقعد خشبي بجانب الصيدلية، يتحدث مع العابرين. يحكي عن تلك المنطقة أيام زمان. لم يكن أحد يعبر من هنا في الليل. في بيت «عبد العزيز بك» كان يُعلَّق فانوس كبير. في سكون ليالي الشتاء، كان يمكن سماع صوت ذئب.

يحكي كيف تحولت بالتدريج تلك المنطقة إلى مكان صاخب على هذا النحو. يتعجب من العمارات العالية ومن كمية البشر، ويقول كلمته المشهورة: هي الناس دي عايشة ليه؟

يحكي عن طاحونة وشونة غلال، هناك بالقرب من الترعة الكبيرة، حيث ظنّ الناس لفترة طويلة أن هناك جنيّات تصحو في الليل وتسري في المكان أصواتهن الناعمة.

لكن حديثه المفضل كان عن حرب اليمن. يحكي كثيرًا عن الجبال ومشايخ القبائل، ويبدو أنه يتذكر كل التفاصيل. تلك أيام تبدو الآن بعيدة لا يمكن الاقتراب منها، أيام عزيزة على النفس، كأنها الحياة التي فقدها المرء، يراها لكنه لا يمكنه استعادتها، لماذا تصبح للذكريات تلك القوة الغريبة، ولماذا كلما كبر المرء في العمر يتحدث عن الماضي، هل لأنه لم يعد له مستقبل؟

في الصباح نراه جالسًا على قطعة من الحجر أمام بائعة الجرائد، على الناصية. عدا يوم الجمعة فيصحو على الصلاة.

في أصباح الجُمع ينزل الموظفون بالبيجامات، ويقفون أمام عربة الفول ويشترون أهرام الجمعة، ويصبح النهار صافيًا والناس متراخية.

يطل «منصور» من شرفته، ويمازح «أم السيد» بائعة الجرائد قائلًا:

الله … اليوم جمعة، سوف نستريح من حكايات «عم مرعي».

فتقول له غاضبة: «بطّل رخامة»، وتحكي عن أنه معذور وأنه شقي في حياته، لقد حارب الحروب جميعًا، وكان متزوجًا من بنت خاله وماتت أثناء وجوده في حرب اليمن، ومن يومها لا يعرف رأسه من رجله، توقف به الزمن هناك، ويتعجب من أن الناس ما زالت تعيش، كأنه لا يعيش بينهم.

منتهى البؤس

سوف تُفكِّر في أوقاتك الطيبة، في سفرك إلى الشواطئ وزياراتك لمعبد الأقصر وسهرك مع الخواجات على مركب في النيل، سوف تتذكر تلك البنت التي وقفت تنتظرك بجوار سور نقابة الصحفيين وسوف تعتذر لها، مُخفيًا عادتك السيئة في التأخر عن مواعيدك. سوف تدخلان السينما، فيلم «عبود على الحدود»، وسوف تضحكان ملء قلبيكما، لكن عندما تخرجان لتتناولا الشاي في محل قريب، سوف ترتديان ثياب الجد وتتحدثان عن الكوميديا غير الهادفة، وتُحدِّثك عن أبيها الذي أصرّ على مواصفات معينة في الزوج حتى تأخرت السن بها.

ستتذكر تلك الفتاة، التي لم ترها من فترة طويلة، وتتمنى أن تسمع صوتها، ستقوم وتبحث عن رقم تليفونها وتتصل بها وترد عليك سيدة عجوز قائلة: «مفيش حد عندنا بالاسم ده».

كل ذلك لن يُخفِّف من وطأة الحزن الذي تشعر به كعنكبوت ينسج خيوطه في كيانك.

تقوم وتبحث في الشرائط القديمة عن شريط «رق الحبيب»، وتستغرق فترة طويلة تحاول أن تتذكر أين وضعته آخر مرة، ثم فجأة تتذكر أن أحد اصدقائك أخذه، وأنت نسيته، لأنك لا تحب هذا الشخص. في كل مرة يأتي ويأخذ شيئًا، مُعتمدًا على أنك لا تحبه، وتريد أن تتخلص منه.

كل تلك المحاولات لا تنفع لكي تمر من تلك اللحظة الصعبة. تفكر في الحزن على أنه يشبه الزلط، من الصعب مضغه، وأن هناك أسبابًا للحزن، ولكن الحزن الذي لا سبب له، مُحيِّر كأنه جنون.

تدرك عندها أنه الأبواب والنوافذ قد أُغلقت، وعمَّ ضوء شبحي كضوء المساء، مهما سمعت كلاكسات السيارات وصوت المارة في الشارع ومجموعات الشباب يصيحون وهم خارجون من المدرسة، لن يؤدي كل ذلك إلا إلى فكرة عن أنك وحيد، شعور كثيف بوحدة هائلة لا حدود لها.

كل الأوقات الطيبة، في لحظة الحزن، تبدو عادية، ألقى عليها المرء، أثناء عيشها، طيفًا لامعًا، لكي يواصل حياته. ما الذي يمكن أن يفعله الإنسان في تلك اللحظة الراكدة التي تتوقف فيها الرغبة في الحياة؟

يستخرج لفة التبغ والبايب ويُدخِّن، لكنه لا يجد التدخين ممتعًا، رغبة مجردة في التدخين، والعادة تنظر في عينيه مباشرةً، خالية من المتعة، مجرد حركات يُنفِّذها المرء، متوهمًا أنها تساعد في المرور من التوتر والحزن، تشبه رداء بلا جسد، ويعرف أنه واقع تحت تأثير الحالة، ومتفهمًا لزيفها في الوقت نفسه، ويبدو له ذلك على أنه لعبة سخيفة، تُجسِّد منتهى البؤس.

مجرد وهم

أستاذ من أساتذة المدينة الصغيرة الذين تعلمنا منهم في فترة المراهقة، لم أكن قد قابلته من فترة طويلة، وفي صخب أحداث عام 2011، رأيته يجلس في «قهوتي»، في ميدان الساعة. لمحني أدخل المقهى، فقال مُتهللًا:

كنت أبحث عنك، لكي أسمع رأيك فيما يجري.

كالعادة فإن رغبته في سماع رأيي، هي رغبة في أن أسمع تنظيره ورؤيته لما يحدث، وانطلق بنبرته الفخمة يتحدث ويفسر كل شيء:

الثورات حالة اقتراب من المثل الأعلى. الأماني البشرية القديمة (العدل الحرية) تحلق بعيدًا عن التحقق، حتى يلوح لمجموعة من البشر في لحظة ما، أنه يمكن أن تتحقق على الأرض، فيندفعون في اتجاهها. في تلك الحالة تصبح حياة المرء أقل أهمية من العدل والحرية، والأفراد يعتبرون أنفسهم مجرد نقط صغيرة بالقياس إلى روح العدل التي تحط على الأرض، لكن تلك المثل كلما اقتربت من الأرض تلوثت بالأهواء وبالشرور البشرية، وأفلتت من تحقيق نفسها بنفس السمو الذي تلوح به في الفكر. تلك أخصب سنوات البشر، وأكثرها ألمًا وجدية، ولكن الأمر لا يستمر طويلًا، يبدأ الناس في اليأس، فينصرفون إلى شئونهم. تَخفُت الحالة الثورية، وتتوارى، ويعود الناس إلى حياتهم الأرضية، نافضين يدهم من كل ذلك، مُضمرين أنها مجرد فكرة طيبة مثل الخير في الكتب المقدسة، يمكن الحديث عنه لا يمكن تطبيقه.

صَمِت مُنتظرًا ردي.

لم تكن أحوالي طيبة، ولم تكن آرائي لتعجبه، حيث إنني كنت مُتعبًا وأشعر أن الحوادث تنحرف عن مسارها، والدماء التي بُذلت ستكون هباءً مثل كل الدماء التي بُذلت في كل الثورات، الغلبة للأقوياء ومنْ يملكون السلاح.

كنت أنظر عبر نافذة المقهى باتجاه الميدان، الشمس تُفارقه وأتوبيسات المدينة تعبر متمهلة ومُكدسة بعشرات الريفيين العائدين إلى قراهم، كأن كل شيء دليل على أن العدل مجرد وهم، منذ بداية الخلق.