عام 2010 نشر موقع ويكليكس وثائق سرية مسرّبة بخصوص روسيا. إحدى تلك الوثائق تعود لقاض إسباني يُبلغ فيها السفارة الأمريكية في مدريد أن روسيا والشيشان وروسيا البيضاء قد صاروا جميعًا تحت حكم المافيا. كذلك وُجدت برقية رسمية أخرى يتساءل الدبلوماسيون فيها حول شكوكهم في أن بوتين له علاقة بالمافيا الروسية. كذلك كشفت برقية بين رجل أعمال أوكراني ومسئولين أمريكيين عن وجود علاقات بين الأوكراني والمافيا الروسية، ووصفها بأنها هى التي تُسيّر الحكم في روسيا.

في ورقة أخرى نجد وصفًا صريحًا يقول إنه في روسيا لا يمكن التفريق بين نشاطات الحكومة ونشاطات عصابات الجريمة المنظمة، أو براتفا. وينقل المدعي العام الإسباني في برقية أخرى قوله إن لديه معلومات مؤكدة أن بعض الأحزاب السياسية الروسية تعمل يدًا بيد مع المافيا. كما نقل الموقع عن آخرين أقوالهم إنهم احتاجوا لموافقة زعماء المافيا الروسية كي يعقدوا صفقات عمل رسمية مع الحكومة الروسية.

بالطبع لاقت تلك الوثائق نفيًا روسيًا قاطعًا. وصرّح المتحدث باسم بوتين بأن ما تم نشره لا يثبت سوى أن بعض الدبلوماسيين جهلاء، لا يعرفون أبعاد الوضع في روسيا. لكن لم تنفِ روسيا تفاصيل ما جاء في الوثائق، لأن محتواها معروف بالفعل منذ وصول بوتين للسلطة. فقد استطاع بوتين أن يغزل ضفيرة متجانسة من رجال المافيا والساسة، فصارا معًا أبرز الأعمدة التي يعتمد عليها بوتين، في مقابل أن يحتفظ رجال المافيا بأعمالهم بلا مساس.

لهذا نجد أن من ضمن المصطلحات التي أطلقت على حكم بوتين مصطلح دولة المافيا. يقوم بوتين بتسهيل أعمالهم، ومنحهم بعض المناصب الرسمية أحيانًا. والأهم أنه يوفر لهم قنوات للتحايل على العقوبات الدولية المفروضة عليهم. وفي المقابل تنفذ المافيا الروسية المعروفة باسم براتفا، أو الإخوة، العديد من الخدمات غير الشرعية للدولة كي لا تتورط الدولة في تلك الأنشطة غير القانونية، وبالتأكيد لن تتم محاسبة المافيا فهى مجرد شبح لا وجود له رسميًا.

ولادة المافيا الروسية

لم يكن الاتحاد السوفيتي متآلفًا مع مصطلح أو مهام المافيا، لكن بعد انهياره وتفكك مكوناته بدأ المصطلح يغزو روسيا. خصوصًا مع دخول العولمة مدارها الأكبر، وانتشار ثقافة السوق، وخصخصة الحماية الأمنية. في تلك اللحظة دخل الفساد إلى الوسط الروسي تحت مصطلح جديد وهو المافيا. حتى صارت المافيا طبقًا لوصف أركادي فاكسبيرج، مؤلف كتاب المافيا الروسية، هى النظام السلطوي الروسي بأكمله.

يلفت أركادي النظر إلى أن الإرهاص الأول لفكرة تحالف المجرم مع الدولة كان مع تجربة معسكرات العمل القسري. تلك المعتقلات أنشأها لينين، عام 1917، وازدهرت أكثر في فترة حكم ستالين. في تلك الفترة ظهر تعاون بين المسئولين الفاسدين والمجرمين. قبل تلك المعسكرات كان يُلقب من يتعاون مع السلطة باسم السوكي، أو الساقطات. لكن مع الظروف القاسية بدأت تلك النظرة تخفت، وبات من حق الجميع البحث عن وسيلة لتخفيف مأساته.

لاحقًا بدأ الكرملين يقوي روابطه شخصيًا مع هؤلاء المجرمين. ودخل على الخط جهاز الاستخبارات الروسية وأجهزة الأمن الروسية لتستخدم تلك المجموعات كأدوات للتأثير الخارجي، أو لتنفيذ أنشطة استخباراتية.

استفحل الأمر تمامًا حتى أعرب بوريس يتليس عن قلقه أن الأمر قد بلغ حدًا مخيفًا، وأن روسيا قد أصبحت قوة عظمى للجريمة، على حد تعبيره. المفاجئ أنه حين صار بوتين رئيسًا لروسيا بالإنابة عام 1999، ثم تأكد وجوده رئيسًا عام 2000، تراجعت حروب العصابات بشكل كبير. وبدأت المافيا الروسية في حصر أدوارها لأنشطة أقل حدة وتأثيرًا. هذا التراجع يفسره الخطاب العنيف الذي استخدمه بوتين في بداية حكمه بخصوص تطبيق القانون وعقاب الخارجين عنه، والتوعد الشديد لرجال المافيا الروسية.

لكن بتتابع الأيام بدأت المافيا في العودة لممارسة أنشطتها تدريجيًا. ومع الإفلات المستمر من العقاب اكتشفت أن بوتين ينوي عكس ما يقول بخصوصها. حتى أطلقت المافيا يدها بصورة كاملة حين حدث ما يشبه الاتفاق بينها وبين بوتين، وأصبح للمافيا دور رسمي في العهد الجديد تحت حكم بوتين.

هيكلة العلاقات مع المافيا

طبقًا لكتاب المافيا الروسية فإن تلك الفترة شهدت إعادة تأطير للروابط بين السلطة ممثلة في بوتين والمافيا، فصبغ بوتين المافيا بطابع مؤسسي طالما التزمت المافيا بأداء وظائفها طبقًا لهوى بوتين. لهذا نجد رجال المافيا الروسية في صفوف الجيش الروسي في حرب أوكرانيا دون تردد. ليس فقط لأن بوتين خاطب وطنيتهم، لكن لأن الصفقة من البداية تقتضي ذلك.

لهذا منذ اللحظات الأولى لاندلاع الحرب الروسية الأوكرانية عمدت أوكرانيا لتصفية المافيا الأوكرانية المشتبه في موالاتها للمافيا الروسية. سواء باعتقال كبارئها، أو بالقيام بزيارات أمنية مفاجئة على معاقل تلك العصابات لتفحص وجودهم في أماكنهم، وعدم قيامهم بأي عمليات تهريب أو استطلاع لصالح القوات الروسية.

ورغم العقوبات الغربية الضخمة المفروضة على روسيا في الفترة الأخيرة فإن دعم المافيا له لم يتغير. لأنه مهما كان حجم الخسائر التي طالت المافيا فإنه يمكن تعويضها، لأنها لن تمس وجود المافيا نفسه. بينما لو تغيّر دعمهم لبوتين فهناك احتمالية أن يكون الرئيس الروسي الجديد مناهض لسيطرة المافيا بهذه الصورة. أو أن يقضي أعوامه الأولى في محاربة الفساد وتقويض أركان المافيا، حينها ستكون الخسائر أكثر فداحة، وأصعب في الترميم والتعويض.

فالمكاسب التي جنتها المافيا من بوتين تجعل لديه رصيد هائل عندهم. فمثلًا فلاديمير بارسكوف، المُلقب بآل كابون روسيا، حين خضع للمحاكمة منذ عدة سنوات دارت الأقاويل، التي لم يُعثر لها على دليل قطعًا، أن بوتين على علاقة بالرجل منذ كان بوتين نائب عمدة في مدينة سان بطرسبرج، وكان بارسكوف هو الحاكم الفعلي لها. وغض بوتين الطرف عن رشوة بارسكوف لمسئولين حكوميين. لاحقًا غض بوتين الطرف عن قيام الرجل بالتخلص من مسئولين حكومين يعارضون فساده. كما منح بوتين تسهيلات لشركة النفط التابعة له.

صعوبة الفصل بين الدولة والمافيا

إذن فما قام به بوتين ليس مجرد مجرد ترويض لعالم الجريمة، بل احتواء كامل لها. هنا يمكن أن نقتبس تعبير مارك جاليولتي في كتابه المافيا الروسية الجبارة، بأن ما حدث في روسيا هو تأميم للمافيا جزئيًا، وأن الدولة على الطرف الآخر تبنّت العديد من أساليب المافيا رسميًا.

لهذا نجد أنه من أبرز المظاهر التي تغيّرت في مافيا بوتين أنها لم تعد ذات الشكل التقليدي الذي نعرفه، رجل ضخم الجثة يكسو الوشم جسده. بل صاروا أشخاصًا أكثر ذكاء وأناقة، وعلى علاقة جيدة بالمسئولين الرسمين في روسيا وغيرها. والأهم يمتلك بعضهم خلفية تكنولوجية عالية تساعد بوتين في حروبه السيبرانية المتعددة. لذا فمن المنطقي أن نقول إن في عهد بوتين قد انصهرت المافيا والدولة في كيان واحد يصعب الفصل بينهم.

الصعوبة في الفصل تؤدي إلى الصعوبة في مقاومة تلك المافيا. فمثلًا في القضية الشهيرة لسفينة البضائع أركتيك سي، حين ادعت الحكومة الروسية أن قراصنة استولوا على السفينة قرب السواحل السويدية. وبالفعل أرسلت موسكو بحريّتها لتحرير السفينة. لكن الواقع أن السفينة قد استخدمت بعلم المخابرات الروسية لتهريب السلاح، ولم تكن فكرة الاستيلاء والتحرير سوى للتغطية على تلك العملية بعد أن كشفتها مخابرات إحدى الدول الأجنبية.

مثلّت تلك الحادثة رسالة للعالم الغربي أنه من المستحيل التفريق بين الدوافع الأمنية والجيوسياسية للدولة الروسية، والهدف الربحي للمنظمات الإجرامية، فقد بات الاثنان كيانًا واحدًا. ووجود بوتين يضمن استمرار هذا الكيان، ثم يضمن الكيان بشكل عكسي استمرار بوتين. في حلقة لا تنتهي من المصالح المشتركة.