يُحكى عن أحد التجار الكبار أن امرأة دخلت عليه محله وهي تصيح وتصرخ وتسب وتلعن المحل وصاحبه بألفاظ نابية وكلمات شديدة وعبارات خارجة، فقام لها الرجل صاحب المحل وسألها بكل أدب وذوق عن حاجتها، فقالت: «يا نصَّابين يا حرامية، اشتريت من عندكم عباية امبارح وطلعت مقطوعة وجاية أبدلها وآخد واحدة سليمة!»

فما كان من الرجل صاحب المحل إلا أن ابتسم لها وأخذ منها العباءة المعيبة وأعطاها أخرى سليمة وأعطاها فوق ذلك ما دفعته من مال، وقال لها: «العباية هدية من المحل يا ست الكل»، فأخذتها المرأة وانصرفت.

وهنا تساءل العمال والموظفون في المحل: لماذا قبل صاحب المحل بهذا السلوك الوضيع من المرأة، رغم أنه كان يمكن أن يطلب من أمن المحل أن يخرجوها بالقوة، أو أن يطلب لها الشرطة، أو أن يحرر محضرًا بالسب والقذف، وشهود الواقعة كثيرون، والمرأة مخطئة متعدية ظالمة لا شك في ذلك؟. ولكن الرجل كان حكيمًا بما يكفي لكي يعلم أن من الناس من لا شيء عنده يخسره، وأن مجرد الدخول معه في معركة يعتبر خسارة كبيرة جدًا حتى ولو كانت نهايتها الانتصار؛ لذلك قال لهم بلسان رجل مجرب عاقل: «مش فاضيين للخناقات يا جماعة، ورانا شغل!».

لذلك نجد الإمام الشافعي رضي الله عنه يعطينا بعض الدروس المهمة في هذا الموضوع، فيقول مثلا:

إذا نطق السفيه فلا تُجِبْه
فخيرٌ من إجابته السكوتُ
فإن كلَّمتَه فرَّجتَ عنه
وإن خلَّيتَه َكَمَدًا يموتُ

ويقول أيضا:

إذا سبَّني نذلٌ تزايدتُ رِفعةً
وما العيبُ إلا أن أكونَ مُسابِبَه
ولو لم تكن نفسي عليَّ عزيزةً
لمكَّنتُها من كلِّ نذْلٍ تُحارِبُه

ويقول أيضًا:

قالوا سكتَّ وقد خوصمتَ، قلتُ لهم:

إن الجوابَ لباب الشرِّ مفتاحُ
والصمتُ عن جاهلٍ أو أحمقٍ شرفٌ
وفيه أيضًا لصونِ العِرض إصلاحُ
أما ترى الأُسْدَ تُخشى وهي صامتة
والكلب يـُخسَا لَعَمري وهو نبَّاحُ

ويقول كذلك:

يخاطبني السفيه بكل قبح
فأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهةً فأزيد حلما
كعود زاده الإحراق طيبا

هذه كلها كلمات من الحكمة الصافية خرجت من فم وقلب سيدنا الإمام الشافعي رضي الله عنه يريد بها أن يصرف أفكار الناس من الكلام إلى البناء، ومن تضييع الأعمار في الجدال إلى استثمارها في الأعمال، فإن الجدل مع الأحمق شر لا فائدة فيه، كما قال الإمام الشافعي نفسه في كلمة أخرى حين قال: «إن ناقشتُ العالمَ غَلَبتُه، وإن ناقشني السفيه غلبني»، أو في قوله: «لا تناقش الأحمق فيُسَوِّي الناس بينكما»، أو في قول المتنبي:

لِكُلِّ داءٍ دَواءٌ يُسْتَطَبُّ بِه
إلا الحماقَةُ أعيَتْ مَن يُداويها

والسبب الذي يجعل النقاش مع الأحمق مضيعة للأوقات هو أنه لا يدخل في النقاش باحثًا متأملًا ممتلكًا للأدوات التي تمكنكما معا من الوصول إلى الحق الذي تنشدان الوصول إليه، بل يدخل في النقاش متسلحًا بالصوت العالي والرغبة في إسكاتك بالحق أو بالباطل وفقط.

ورغم ما في النقاش مع أمثال هؤلاء من الصعوبة الشديدة، فقد تصدَّر له مرة أحد الصحابة الكرام من أصحاب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه عندما ظهرت فتنة الخوارج في زمان سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فاستأذن عبد الله بن عباس أن يذهب إليهم ليناقشهم ويبين لهم لعلهم يقتنعون بالحق ويعودون إلى الصواب ويتركون ما هم عليه من التشدد والغلو وتكفير المسلمين عن جهل وقلة بصيرة، ودعونا نستعرض متأملين متفكرين هذه القصة المدهشة مع سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه وسأجعل التعليق على كل موضع بين قوسين ( ) ثم نعود فنواصل القصة بلسان سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه.

وهدفنا من استعراض هذا الحوار المهم بين هذا الجبل الفكري والعلمي في تاريخ الأمة وهو سيدنا عبد الله بن عباس وبين هذه الأفكار الخبيثة التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا قبل أن تظهر، وقد أضرَّت الأمة ضررًا بالغًا من ساعة ظهورها وحتى الآن، وهي أفكار الخوارج الذين جعلوا دين الله تعالى عنفًا وتخويفًا وتشددًا وتفسيقًا للصالحين وتكفيرًا للمسلمين واتهامًا مستمرًا لهم بأن أفعالهم وأقوالهم وتصرفاتهم كلها كفر وشرك والعياذ بالله – أن هذه الأفكار التكفيرية والتفسيقية لا تزال سارية إلى اليوم ولعلها ستبقى في الأمة كثيرًا فلا تتعجبوا عندما تسمعون من أمثال هؤلاء أن الشيخ الشعراوي مثلا -رحمه الله- كان مشركًا أو ناشرًا للشرك أو الكفر، أو أنه مختلُّ العقيدة فاسدُ الفكر يدعو إلى عبادة غير الله إلى غير ذلك من الأكاذيب التي تشاع عن الشيخ رحمه الله وعن إخوانه وأبنائه وعن كثير من العلماء وطلاب العلم من قِبل أمثال هؤلاء، عن قلة علم وكثرة اعتداء وبغي وظلم عافانا الله وإياكم من الجهل وأهله.

ونبدأ الآن الخبر العجيب بين سيدنا عبد الله بن عباس وبين الخوارج من أوله على لسان الصحابي الجليل، فنجده رضي الله عنه يقول:

لَمَّا خرجت الحَرُوريَّة، (أي الخوارج: وسُمّوا بذلك لأنهم اعتزلوا الناس في مكان اسمه حروراء) اعتَزلُوا في دارٍ على حدتهم، وكانوا ستَّة آلاف، فقلت لعلي: «يا أمير المؤمنين، أبرِد بالصلاة، لعلِّي أكلِّم هؤلاء القوم» (وقوله: «أبرِد بالصلاة» أي أخّرها حتى تنكسر الحرارة قليلًا ونلتمس بعض الظل ليصلي الناس فيه، والإبراد بالصلاة من سنن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الظهر كي لا يصلي الناس في وقت اشتداد الحر عند الظهيرة، وهذا أمر قد ينكره بعض هؤلاء الخوارج ويقولون للصحابة: «إنكم تؤخرون الصلاة عن وقتها»، ولكن اعتراضهم ليس له سبب إلا قله فقههم وضعف علمهم بدين الله تعالى، ولكن سيدنا عبد الله بن عباس يعمل بالسنة ويتجاهل كلام أهل الجهل والحماقة ويقول لسيدنا علي بن أبي طالب: أبرد بالظهر لعلي أكلم هؤلاء القوم، أي أناقشهم وأناظرهم)، فقال له علي رضي الله عنه: «إني أخافهم عليك».

يقول ابن عباس: قلت: كلاَّ إن شاء الله. فلَبِستُ أحسنَ ما يكون من حُلَل اليمن، وترجَّلتُ (وهذا تصرف جليل جميل من سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن يلبس ثيابًا جميلةً، ويزين شعره ويتطيب قبل الذهاب إليهم رغم أنه يعلم أنهم سينكرون هذا بسبب تعنتهم وتشددهم وغلوّهم، فهم قوم قد أخذوا أنفسهم بالشدة والحياة الخشنة وما ألزمهم الله بهذا لكنهم ألزموا أنفسهم به ثم يريدون من الجميع أن يكونوا مثلهم، بل ويعتبرون أن الذي يتمتع بهذه الزينة المباحة ناقص الإيمان قليل التقوى والورع، فذهب إليهم بهذه الهيئة الجميلة ليكون صادمًا لأذواقهم الفاسدة من البداية لعلهم يتفكرون أو يتأملون).

يقول ابن عباس رضي الله عنه: ودخلت عليهم في نصف النهار وهم يأكُلون ، وفي رواية: وهم قائلون (أي: نائمون يرتاحون في وقت الظهيرة بسبب الحر).

فقالوا: مرحبًا بك يا ابن عباس، فما هذه الحُلَّة؟ (صدقت توقعات الرجل رضي الله عنه).

قلت: ما تَعِيبون عليَّ؟، لقد رأيت على رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- أحسنَ ما يكون من الحُلَل، ونزلت: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ» {الأعراف: 32} (وهكذا يظهر من البداية مخالفتهم لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يزعمون أنهم ينصرون الدين ويحفظون السنة وأنهم أتقى من غيرهم وأنقى وأورع).

فماذا كان من قصة سيدنا عبد الله بن عباس مع هؤلاء الخوارج في هذا الموقف العجيب؟.

هذا ما نعرفه في اللقاء المقبل إن شاء الله تعالى، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله.