في مستهل نوفمبر/ تشرين الثاني 2016 أعلن أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الحرب على تركيا، وأكد ضرورة استهدافها بالهجوم وزعزعة أمنها وزرع الرعب داخلها، وجرها إلى ساحات معارك التنظيم. ثم بعد شهرين تمامًا وفي الساعات الأولى من أول يناير 2017؛ اقتحم مسلح ملهى رينا الليلي في إسطنبول وفتح النار على المحتفلين برأس السنة، ومعظمهم من السائحين والمشاهير، وأوقع على الفور 39 قتيلًا و79 جريحًا.

وبعد عامين على الحادث وازدياد الانخراط التركي في الحرب السورية يثور التساؤل داخل الأوساط الأكاديمية الأمريكية حول مدى صحة تخلي الولايات المتحدة عن دورها في محاربة داعش لصالح تركيا. فخطة الرئيس ترامب الأخيرة لسحب القوات الأمريكية من سوريا تعني إلقاء عبء المواجهة في مناطق الأكراد وعلى طول الحدود التركية السورية على كاهل تركيا وحدها، وتركيا لديها أولويات أخرى، ما سيعطي التنظيم فرصة لإعادة إحياء نفسه في وسط مرحلة حرجة من القتال.

ومنذ أيام نشرت مجلة فورين بوليسي تحليلًا مهمًا بعنوان «لا يمكن أن تعتمد الولايات المتحدة على تركيا لهزيمة داعش»، للدكتور كولين ب. كلارك (Colin P. Clarke) أستاذ العلاقات الدولية والسياسات الأمنية بجامعة بيتسبرغ. والدكتور أحمد س. يايلا (Ahmet S Yayla) أستاذ الدراسات الأمنية بجامعة جورج واشنطن، ورئيس قسم علم الاجتماع في جامعة حران في تركيا سابقًا، والقائد الأسبق في قوات مكافحة الإرهاب التركية.


تركيا وداعش كلاهما لا يرغبان في التحارب حاليًا

يرى المؤلفان أن أردوغان لا يريد المواجهة المباشرة مع داعش في الوقت الحالي، مركزًا جهوده على مواجهة الأكراد السوريين ومنعهم من إنشاء ممر لهم موازٍ للحدود التركية الجنوبية. بينما يشكل القضاء على تنظيم الدولة داخل سوريا تهديدًا لأمن تركيا؛ حيث سيتجه الفارون من التنظيم وبقاياه إلى الأراضي التركية، مما سيعرض الجنود والمدنيين الأتراك للخطر في الداخل، مع بقاء إمكانية اتخاذ بعض الأراضي التركية الحدودية كنقطة انطلاق مستقبلية للتنظيم.

ويعلم قادة تنظيم الدولة أن الحدود التركية قوية ومنيعة إلى حد كبير إلى جانب توافر القدرات العسكرية والاتصالات الحديثة والصلات القوية بين تركيا والاقتصاد العالمي، لذا يركزون جهودهم على منطقة الصراع السورية التي توفر للتنظيم مساحة عملياتية وتنظيمية كبيرة. وفي نفس الوقت تركيا منشغلة بمحاربة حزب العمال الكردستاني منذ أربعة عقود، وليس من مصلحة التنظيم إنشاء جبهة أو منطقة معارك داخل تركيا والتورط في حرب ضدها، خاصة أن الولايات المتحدة ترعى الميليشيات الكردية التي تخوض حربًا شرسة ضد تنظيم داعش، وتركيا في نفس الوقت.


أمريكا وتركيا وتبادل الاتهامات برعاية الإرهاب

هذه النقطة الأخيرة تحديدًا هي من أساسيات الخلاف بين الولايات المتحدة وتركيا منذ بداية التدخل الأمريكي في سوريا، فأردوغان وحكومته يرون أن وحدات حماية الشعب والميليشيات الكردية التي تدعمها أمريكا هي امتداد لحزب العمال الكردستاني، ما يجعل الولايات المتحدة راعية رسمية للإرهاب داخل تركيا وضد مصالحها الوطنية.

بينما الولايات المتحدة لا تلقي بالًا لتلك الاتهامات، ويتهم محللوها تركيا بأنها تنظر إلى داعش كعمق استراتيجي لها ضد الأكراد، وليس من مصلحتها انتصار الكرد على التنظيم. ولتأكيد هذه النقطة يُذَكِّر المؤلفان بموقف المخابرات الباكستانية في الاعتماد على طالبان في تأمين مصالحها، رغم هجماتها على مواطنين باكستانيين.

النقطة التالية في نقد الموقف التركي هي مسألة الطائفية، فالاتهام موجه لأردوغان بأنه يعمل على تعزيز صورته كمدافع قوي عن الإسلام السني بالمنطقة ويدعم المقاتلين السنة في سوريا، وعلى رأسهم تنظيم الدولة، ضد نظام بشار الأسد المعتبر رمزًا للإسلام الشيعي. بينما تؤكد تركيا أن ما صنعته الولايات المتحدة جعل الميليشيات الكردية تتشجع وتطلب من نظام الأسد نشر قوات من الجيش السوري قرب الحدود التركية.

ويدرك الكثير من صانعي السياسة في الولايات المتحدة أن التقارب المتنامي الكردي السوري قد أحدث ضررًا كبيرًا بالسياسة الأمريكية في سوريا، وأن الميليشيات الكردية تتباهى بقدرتها على ضرب الداخل التركي وتنفذ بالفعل العديد من الهجمات على الترك. ما يدفع الجيش التركي لتركيز عمله على مواجهتهم، وهو ما ينعكس بالتأكيد على نية وقدرة تركيا على مواجهة تنظيم داعش. خاصة في ظل دعوة ترامب إلى سحب القوات الأمريكية من المكان، وترك تركيا وحدها في المواجهة.

ويذهب المؤلفان إلى إلصاق تهمة دعم داعش بالشعب التركي، أو على الأقل بفئة منه، حيث يقرران أن ما بين 8000 و10000 تركي قد انتقلوا إلى سوريا والعراق وانضموا إلى تنظيم الدولة كمقاتلين أجانب، ووفقًا لـ تقرير وكالة رويترز العالمية حول استطلاع الاتجاهات الاجتماعية الذي أجرته تركيا عام 2015 وشارك فيه 1500 شخص من جميع أنحاء تركيا، فإن حوالي 10% من الأتراك يرون أن تنظيم الدولة ليس منظمة إرهابية، وأن أكثر من 5% من المشاركين يؤيدون أفعال التنظيم، بينما 21% يرون أنه يمثل الإسلام، و 9% يعتقدون أن التنظيم هو دولة بالفعل، بينما عبر غالبية المشاركين عن مخاوفهم من الإرهاب الذي يمثله حزب العمال الكردستاني.


الانتخابات واستغلال تناقضات الحرب السورية لحشد الأنصار

ومع اقتراب موعد انتخابات المحليات في تركيا في نهاية مارس/آذار 2019، وفي ظل الظروف الاقتصادية التي تعاني منها تركيا حاليًا، يرى التقرير أن القتال ضد حزب العمال الكردستاني هو أداة كبيرة في يد أردوغان لتعبئة قاعدة الناخبين القومية التركية. وقد تحالف حزب العدالة والتنمية التركي بالفعل مع حزب الحركة القومية من أجل خوض هذه الانتخابات سويًّا، وبالطبع هذه السياسة الداخلية هي مبرر قوي لموقف أردوغان.

في النهاية يخلص المحللان المخضرمان إلى أن تركيا لا تستطيع إنفاذ وعدها للولايات المتحدة بمواجهة داعش في سوريا، فمن ناحية تقع غالبية الجيوب المتبقية من التنظيم على بعد أكثر من 300 ميل من الحدود التركية، ويكاد يستحيل على الجيش التركي بلوغ هذه المناطق محافظًا على فعاليته القتالية. كذلك فإن اعتماد أردوغان على الجيش السوري الحر يثير القلق بعد انضمام عدد من قيادات داعش إلى الجيش الحر وصعودهم إلى مناصب قيادية.

والواقع أن مغامرة ترامب بالانسحاب من سوريا لن تؤتي ثمارها ما لم يتأكد موقف تركيا من القضاء على داعش، فليس لدى أردوغان أي دافع للتورط في حرب خاسرة. والسياسات المتقلبة للولايات المتحدة في ظل إدارة ترامب تدفع التحالفات داخل الصراع إلى التغير والتبدل المتوالي. ويبدو أن المستفيد النهائي من كل هذا التخبط العلني والخفي هو تنظيم الدولة الذي استطاع تأسيس قاعدة كبيرة له في المنطقة الحدودية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.