لا تملك الجرأة لأن تتقدم خطوة إلا حين تحسّ بثقل خطوتك، وحين تريد التقدم خطوة يُعيدونك إلى ما وراء ألف خطوة، يرميك السياسي بضحالة ثقافتك السياسية، والفقيه بعدم إتقانك لمذهب ما، والأصولي بعدم جدوى سعيك، يُطلق الفيلسوف ضحكته مدوية ممتدة على اقتصار أبعادك ومحدودية ما استنبطته من دلالات.

جميلٌ أن نمرر مُخرجاتنا بضوابط ومعايير تُقصي الرثّ وتذر القيّم، بيد أن المعضلة تكمن في تعدد أدوات التقييم، كلٌ يرى من ثقبه، وكل ثقب يرى بأنه الأكثر اتساعًا، وكل اتساع يرى بأنه الأوضح رؤية، وكل رؤية ترى بأنها الأكثر اتساقًا مع العالم، والعالم يسخر من ضآلتهم أجمع.

لمَ النخبة في ضيق مستمر إزاء امتلاء الحافلة؟

القمعية التي نمتعض منها حين نتكلم وتُسكتنا يد الجنرال، هي ذاتها المستخدمة لتقييم ما نكتبه كمبتدئين. لا أعني بذلك العوام، أريد الباحثين عن النور، المتيمنين بالفُصحى، المتشبثين بتلاليب الفكر والفلسفة. ما الإشكالية في محاولة خلق بيئة ملائمة لعملية النضج بسبب غيابها في مجتمع عربي كهذا؟، ما العيب في أن نتكلم؟، سيّما وأن المنصات العربية لا تصل لمستوى جدية نشر كتاب، وقتها اشجب واستنكر كما يحلو لك.

قبل أن تشغل حيزًا في فراغ النخبة، كنت غضًا طريًا، أفسَح لك الآخرون الطريق، رغم بقع الوحل التي تتركها آثار أقدامك، عبّدت الطريق تارة، وأفسدته تارةً أخرى، هل لامك أحد؟


لا يعجبني الشباب الذين يقومون بحساب كل شيء كالكبار، ليسوا مستعدين للمغامرة.
علي عزت بيجوفيتش

إن القيمة كلّ القيمة لا تكمن في استعمال ألفاظ مقعّرة ومصطلحات يتلقفها المتخصص فحسب، وهل فر الناس من الفلسفة إلا من صعوبة وتشابك مصطلحاتها؟

حين تنساب الكلمات منا باندلاق طفولي فإننا نؤرخ اللحظة الآنية، كحق إنساني محض، نحاول صياغة ما لم يلتقطه رشدك وسعة اطلاعك من تناهي صغره، نستجدي تقليص الهوة وشقة الحوار بيننا وبينكم، لم نُخلق لنكتب فحسب، لكننا نكتب لنُخلق من جديد.

إنّ أثقل ما قد يحمله الإنسان؛ الكلمة التي ضاعت فرصة قولها في الوقت المناسب.

هذه الرغبة في تأصيل مفهوم المراهقة وتبعاتها النّزقة، إنما هي ترسبات فكرٍ مستحدث، ليست منا في شيء، وأظنك -عزيزي القارئ- قد سئمت من سوق عشرات النماذج الإسلامية التي ما كانت المراهقة يومًا مصطلحًا في قواميسها، يكفيك أن تعرف أن النووي عندما بدأ برحلة طلب علمه الشرعي كان في التاسعة عشر من عمره، وفي معايير زمانه كان ذلك العمر عمرًا متأخرًا في طلب العلم!، إذ أن الأمام مالك -على سبيل المثال لا الحصر- تأهل للفتيا وهو ابن ثماني عشرة سنة.

الحياة في مُجملها سلسلة من الخيانات، ربما تتوارى خلف لفظ «التنازلات»، لكنها تبقى خيانة، تخونُ الكاتب الذي أدهشك وعرض ما لن تتمكن من معرفته إلا بشق الأنفس في صفحات، تخونه وتسجل الخلاصة باسمك، كما سجلها هو بعد خيانة عشرات الكتب، تخونُ العابر الذي علمك مما علم رشدًا، تنساه، تسهب في أفكاره بعد حين بمقال، تُمتدح، ويُنسى هو، تخون تجليًا لله انتشلك من مستنقع الخطايا، فتقع ثانية، تتخطفك الأيدي، وتنهض مستلاً سيف البسالة مدعيًا أنه من عند نفسك، تستلقي على سريرك الآن، تمارس الخيانة ضد كل مقاتل، مُعتقل، نازح، سقف منخور وسرير غيض به، ضد كل عين لم تنم، يخونُك مثلك الأعلى إن ضاق به نسيجك المتخيل عنه، حتى الأقل الخيانة، الميت، يخونك، حين تناديه وليس يستجيب، تتسمر أمام مبنى معماري سادرًا فاغرًا فاك، تفكر -فقط- في من «رسم» هذا المبنى، ماذا بشأن الذي لم يؤذِ عينيك بخلل بنيوي؟، بشأن المكتوي بلهيب الشمس؟ ماذا بشأن الصغار؟

سيوران يرى بأنّ الخوف من العقم يدفع الكاتب لأن ينتج فوق طاقته، الخوف من العقم ينتج شخصية زائفة، مدنًا زائفة، خيانات لا تنتهي، ونخبة تفسر باندفاع شديد الممارسات السلطوية للدولة من جهة، وتأتيها من جهة أخرى.

دعوا المُضغ تسلك طريقها لأن تكون علقة فتنسج هيكلها العظمي على رِسلها، الكسوة النهائية يجيء دورها بعد حين، امنحوا العظام فرصة لتشتدّ وتقوى شكوتها، حتى إذا ما نزلت بنا النازلة، وجدتم ظهيرًا شبابيًا يُخفف أحمالكم، هوّنوا عليكم واطووا عنا البُعد، خلقنا أطوارًا ، هلا كففتم استكباركم وتركتمونا نُبعث من جديد؟

للجسم رقصته ولو بين الحبال للروح شهوتها ولو فوق الصليب
مريد البرغوثي