ليس من الحكمة الوثوق بالعقل فقط لفهم الحياة، هناك أدوات أخرى للإدراك كالغريزة والخيال والحدس.
إيزابيل الليندي

أغلب الظن أن السيد «نيستور جونكالفيز» لا يعلم شيئًا عن إيزابيل الليندي ومقولتها تلك. فقد قضى الرجل أغلب حياته بين ملاعب كرة القدم، فهو لاعب كرة، ووالده من أشهر لاعبي بينارول ومنتخب الأوروجواي. لكن كرة القدم كانت كفيلة له ليؤمن تمامًا بما يسميه الناس الحدس.

منذ قرابة الأربعة عشر عامًا كان نيستور يشغل منصب رئيس الكشافة في نادي بينارول، وبحكم عمله كان يستقبل عشرات التوصيات لرؤية لاعبين صغار يوميًّا. من بين تلك التوصيات كانت مكالمة من مصور يغطي مباريات الناشئين يدعوه فيها لمشاهدة لاعب استثنائي ذي رجلين كالأغصان الهزيلة.

وحده الحدس ما جعله يقرر الذهاب لرؤية هذا الصبي ذي العشر السنوات، والذي يدعى «فيدريكو فالفيردي».

فالفيردي: عصفور مونتفيديو الهزيل

في  اليوم التالي خطت أقدام الصغير ملعب بينارول للحكم عليه من قبل المسئولين في النادي. كان جونكالفيز الأب قابعًا في مكتبه ذي النافذة الزجاجية التي تسمح له برؤية نصف ملعب التدريب فقط، لكن تلك المساحة كانت كفيلة لرؤية الحصة التدريبية الأولى للصبي فيدي، بل الحكم عليه.

اتصل جونكالفيز بولده في نهاية التدريب ليخبره أنه قد شاهد لتوه صبيًّا في العاشرة يجيد كل مواصفات لاعب خط الوسط، ابتسم الابن وأخبره أنهما متفقان في الرأي نفسه.

كان لديه القدرة على اتخاذ قرارات مفاجئة. نقرأ المباراة من الخارج ونتوقع قرارًا معينًا، لكنه فجأة يتخذ قرارًا آخر لم يكن لدينا. تخيل ذلك من طفل في عمر 10 سنوات.
نيستور جونكالفيز

ظهرت مشكلة فالفيردي بعد ذلك بسنوات، لقد برع في المساحات الضيقة في ملاعب صغيرة، حيث يتكون الفريق من سبعة لاعبين، وذلك بفضل قدرته الرائعة على قراءة المباراة.

لكن عندما لعب في ملعب كامل الحجم بدا الأمر كأنه أصبح تائهًا تمامًا. أدت بنية فالفيردي الهزيلة إلى انخفاض ملحوظ في مستوى أدائه. بينما كان زملاؤه في الفريق يتطورون، تراجع هو في المقابل وفقد ميزته التنافسية وكان أقرب إلى ترك الكرة للأبد.

لكن كان هناك ملاك يرعى فيدي الصغير، ويؤمن هو الآخر بما لديه من حدس أن هذا الصبي قصته لن تنتهي هكذا. إنها السيدة «دوريس» والدة فيدريكو.

دوريس: ملاك حارس

حظي فالفيردي على دعم غير مشروط يتمثل في والدته «دوريس». رافقت السيدة التي تمتلك كشكًا لبيع الألعاب والملابس ابنها في جميع المباريات، وعرفت جيدًا كيف أن فيدي ينقصه العامل البدني، وأن لا حل لذلك سوى أن يكون مطيعًا لمدربيه في كل ما يطلبونه من تدريبات لأبعد الحدود، ويقوم بكل ما لا يفهمه حتى يجيد ما يفهمه بعد ذلك.

كانت دوريس تُلزم فيدي الصمت والطاعة، لكن وراء الكواليس تتحدث مع المدربين عما ينقصه وتعمل على جعل الولد متكاملًا. كان فالفيردي يميل دومًا للعب بمحاذاة خط النصف، ولا يحب أن يكون مهاجمًا، لكن بمزيد من العمل والفم المغلق وتشجيع والدته أجاد التصويب وتسجيل الأهداف.

لا ينسى فالفيردي يوم أن هاتفها من البرازيل، حيث تقام منافسات الشباب، وأخبرها باكيًا أنه سيترك المنتخب ويعود لأنه لا يشارك. يومها طلبت من رئيس نادي بينارول الحديث مع مدرب المنتخب تحت 14 سنة ليقوم بإشراك فيدي ولو لدقائق ثم يحكم عليه. قدم رئيس النادي اقتراحًا لمدرب منتخب الشباب، وهو لعب مباراة ضد فريق بينارول للشباب بقيادة فيدي، يومها لعب فالفيردي وأبهر الجميع ولم يخلع قميص المنتخب مرة أخرى.

كرة القدم ضرورية لأوروجواي، عندما تكون طفلًا فإن أول شيء يُرمى لك هو كرة. لدينا مثل هذا العدد الصغير من السكان 3.5 مليون، لذا فإن إنتاج العديد من اللاعبين يجعل أوروجواي تشعر بالفخر.
فالفيردي

اركض حتى تنفجر قدماك

قبل أن نغادر مونتفيديو عليك أن تعرف تلك القصة، عن رجل أخبر فالفيردي أنه يجب أن يركض، فقرر فيدي أن يفجر قدميه. نحن هنا نتحدث عن السيد «بيردومو» مدرب المواهب الشابة في بينارول لسنوات، والذي عمل مع فالفيردي عندما كان عمره 15 سنة.

احتل فالفيردي صدارة اختبارات السرعة والقفز والمقاومة، وتفوق في الواقع على العديد من أعضاء الفريق الأول. لكن مع ذلك كان مصممًا على لعب دور اللاعب رقم 10 دون أي مسئوليات دفاعية، كان ببساطة لا يحب أن يركض.

قرر بيردومو اللعب بخطة 433 مثل بعض الفرق الأوروبية، رفض فيدي اللعب بجوار خط الوسط الذي هجره منذ سنوات، لكن قرار مدربه كان بقاءه على دكة الاحتياط.، بعد عدة مباريات قرر فيدي العودة للوسط وطلب منه مدربه الركض كثيرًا.

ظل فالفيردي يركض حتى إنه أطلق تصريحًا شهيرًا بعد ثناء زين الدين زيدان عليه إثر فوز ريال مدريد على غرناطة. قال فالفيردي: «سأركض دائمًا حتى تنفجر ساقاي من أجل ريال مدريد».

وفي مدريد النصف الثاني من القصة.

مدريد: تطور مثالي

لا يمكن أن نقول إن ريال مدريد كان ذكيًا باقتناص فالفيردي وهو في السابعة عشرة. كان فالفيردي نجم شباب أوروجواي وصفقة منتظرة في أرسنال وليفربول. لكن ما يجب الإشارة إليه هنا أن ريال مدريد قديمًا لم يكن الفريق الذي يحارب من أجل تلك الصفقات.

لكن سياسة مدريد المتعلقة بالمراهنة على المواهب الشابة بعد ظهور أندية الإنفاق المطلق مثل السيتي وباريس كانت ذكية بما يكفي لنرى فينيسيوس وفالفيردي ورودريجو. لكن فيدي كان أقل هؤلاء ثمنًا، فلم يكلف خزينة مدريد سوى خمسة ملايين دولار فقط.

حرص مدريد على ضمان انضمام فيدي إليه بمجرد بلوغه 18 عامًا. ومنذ وصوله إلى مدريد أثار إعجاب فريق الشباب، ثم رُحِّل على سبيل الإعارة إلى ديبورتيفو لاكورونيا لاكتساب بعض الخبرة في الليجا، وبعد عودته قرر زيدان أن يتدرب مع الفريق الأول.

أصبح فالفيردي لاعبًا في مدريد، وكان عليه التكيف على اللعب في مستوى القمة، بل في قمة هذا المستوى نفسه.

يمكنك متابعة صعود فالفيردي من نجم محتمل إلى نجم ريال مدريد الأهم في الوسط لتتأكد كيف استطاع هذا الشاب الاستفادة من كل شيء ليتطور باستمرار.

ظهر فيدي في البداية كلاعب خط وسط ثابت دون أي إضافة. مع الوقت أصبح يسيطر على الجهة اليمنى، ويزدهر في هذا الدور إلى مستوى يجعله من بين الأفضل في الليجا ودوري الأبطال.

استغل فيدي أولًا قدرته على الركض دون توقف وكأنه يمتلك فوق رئتيه مصدر هواء غير مرئي. هذا جعله في البداية خيارًا منطقيًّا اخترق ثلاثي مدريد الثابت حينئذٍ مودريتش كروس كاسيميرو، الذي كان يغلب عليه ارتفاع العمر. مع التطور في فعاليته الهجومية بينما لا يزال يقدم مساهمات مهمة في الجانب الدفاعي زاد من ظهوره بشكل متزايد.

ومع قدوم أنشيلوتي فطن إلى أن هذا الرجل ركيزة أساسية في فرقته. إن قدرة فالفيردي على أن يكون حاسمًا على طرفي الملعب فتحت الأبواب التكتيكية لكارلو أنشيلوتي، الذي عرف أنه مع وجود فالفيردي في الملعب سيكون هناك توازن في الهجوم وخط الوسط والدفاع.

إذا لم أتمكن من جعل فيدي فالفيردي يسجل عشرة أهداف هذا الموسم، فسأقوم بتمزيق شارات التدريب الخاصة بي.
أنشيلوتي

تطلق عليه العائلة لقب الباجارو، وهو يعني الطائر أو العصفور بالإسبانية، وكان أول ما تحدث به مكتشف فيدي لوالدته هو: «هل أنتِ والدة هذا الطفل الذي يطير في الملعب؟»

حسنًا لقد طار هذا العصفور الضعيف من مونتفيديو إلى مدريد، ثم قرر أن يجوب العالم ليسحره بما يمتلك.