في الذكرى العشرين للشهيد الفلسطيني يحيى عياش، ندعوكم أن نذهب سوياً إلى رحلة من البطولة والمغامرة، قام بها الأسير الفلسطيني القسامي (حسن سلامة) في عام 1996، وهي: عمليات الثأر المقدس، التي قام بها ليثأر للرجل الأعزّ والأحب إلى قلبه يحيى عياش، وقد قام سلامة بذكر تفاصيلها كاملةً في سلسلة أوراقٍ كمشروعٍ لكتاب.

حيث يؤكد سلامة في مقدمة كتابه، أنه كان لابد من كتابة تفاصيل هذه العمليات، فيقول:

إن هذا العمل مِلك للحركة، ومِلك لفلسطين، ومن حق الجميع الاطلاع على ما حدث، هو شيءٌ بسيط أقدمه لإخواني الذين عشت معهم فترة العمل، منهم من كان مُدرّسي وقدوتي كالشهيد يحيى عياش، الذي هو صاحب الفضل الأول بعد الله فيما حدث؛ لأنه هو الذي خطط لعمليات الثأر لنفسه.

غزة قبل استشهاد عياش

بدأ سلامة بسرد الأوضاع في غزة في عام 1995، بما في ذلك حاله وحال المجاهدين في القطاع، فبعد خروجه من سجن السلطة في شهر يونيو عام 1995، بعد اعتقالٍ دام ستة أشهر، تم إلقاء القبض عليه مرة أخرى من قبل السلطة الفلسطينية هو وبعض زملائه، ووصف كيف بدأ التحقيق المتعسّف معهم وكيف أنه مكث في السجن هو وزملاؤه وهم لا يعرفون سبب وجودهم هناك، وبعدما خرج سلامة من السجن صُدم بوضع غزة المُخزي خاصةً بالنسبة لمن هم مثله من المطارَدين، فيصف أنّ غزةَ كانت بمثابة سجنٍ كبيرٍ لهم؛ فكان من الصعب التحرك بسبب الحواجز الإسرائيلية المنتشرة على الطرقات؛ وبسبب تقسيم قطاع غزة إلى عدة مناطق مفصولةٍ عن بعضها بواسطة المستوطنات، والحواجز العسكرية، التي تُعتبر بمثابة مصْيدةٍ للمجاهدين، وبالإضافة إلى حواجز العدو، شكّلت مراقبة السلطة التي كانت تَعُد عليهم أنفاسهم قيداً آخر يحدّ من حريتهم؛ فقد كانت السلطة لا تتردد في القبض على المشتبه بهم ويتم حبسهم دون إبداء أسباب، فلا محكمة، ولا محامي، والإفراج عنه مرهون بمزاج من اعتقله؛ فقد كانت غزة – فعلاً – سجناً حقيقياً بجدارين، الجدار الأول تحيط به القوات الإسرائيلية، والجدار الثاني تحيط به الأجهزة الأمنية الفلسطينية.

وقد أفضت تلك العوامل، إلى صعوبة تنفيذ عملياتٍ جديدةٍ ضد العدو، وإن كانت هناك محاولاتٌ لتنفيذ بعض العمليات؛ منها ما نجح، ومنها ما أخفق للأسباب سالفة الذكر.

وحاول سلامة سرد موقف المهندس يحيى عياش مما كان يجري داخل القطاع قبل استشهاده، فعياش كان بين خيارين؛ إما أن يرضخ للواقع، وإما أن يعاند ويصارع، وقد اختار الثانية.

حيث صمد عياش في وجه كل المشاكل وصارعها حتى النهاية، بداية من عدم إيجاد مأوى آمنٍ له، مروراً بالحصار الشديد الذي فرضته السلطة عليه، إلى توزيع صوره على كل الحواجز، وتكليف قوات خاصة من الجانبين للبحث عنه. كل هذا لم يُلِن من عزيمته، ولم يجعله يتخلى عن الجهاد.

وفي محاولة من عياش لتغيير الوضع، حاول التخطيط للعمليات التي حدثت في عام 1995, في شهري يوليو وأغسطس، وبعدما اشتد الحصار من قِبل السلطة إلى أقصى حد، فكر عياش أن ينطلق إلى مكانٍ آخر لمواصلة العمل؛ ففكر في العودة إلى الضفة الغربية، وفي هذا الصدد يشرح سلامة كيف أن عودة عياش إلى الضفة كانت شبه مستحيلة، بسبب التشديد الأمنى على المعابر، والبحث المتواصل عن عياش، لدرجة أنه كان هناك شباب يتم اعتقالهم بمجرد الاشتباه بكونهم يحيى عياش، وقد كانت الطريقة الوحيدة أمام عياش هي التسلل عبر الحدود الفاصلة بين غزة والضفة. وعلى الرغم من أن هذه الحدود عليها من الإجراءات الأمنية الكثير، الذي يجعل من المستحيل الدخول خلالها، أخذ عياش في مراقبة هذه الحدود لعدة شهور لإيجاد الخطة المناسبة، وبالفعل وجدها؛ ولكن حالَ استشهادُه دون تنفيذه لهذه الخطة، التي استخدمها الشباب بعد ذلك في التسلل لدخول الضفة وتنفيذ العمليات هناك.


ما بعد استشهاد عياش

تناول سلامة بعد ذلك، تأثير استشهاد يحيى عياش على المطارَدين والحركة، فيصف كيف كانت اللحظات التي تلت سماع الخبر قاسيةً ورهيبةً جدا، بل أنها أصعب لحظات مرت على الجميع على حد قوله، ويبرهن سلامة على ذلك، بأن جميع أهل القطاع خرجوا في مسيرة لم يشهد لها القطاع مثيلًا من قبل، فالكل يريد أن يرى جثمان الشهيد الأسطورة.

وامتنع سلامة عن سرد تفاصيل استشهاد عياش، حيث قال: «هذا الموضوع طال فيه الكلام واختلفت الروايات»، وإن قام بسرد الموقف الذي أدى لاستشهاده. حيث ذكر أن عياش في تلك الفترة كان شغله الشاغل هو كيفية التسلل للضفة، وبعد أن جهّز كلّ شئ كما ذكرنا آنفاً، ذهب عياش إلى البيت الذي كان يعيش به في غزة، لتلقي مكالمة من أبيه الذي يعيش في الضفة، وعلى الرغم من أن المطارَدين الذين كانوا معه نصحوه بعدم الذهاب إلى هناك؛ لكنه أصر ورفض أن يصطحب أحداً معه، فذهب إلى حيث ينتظرُه قدرُه.

وبعد ذلك، يتحدث سلامة عن تطور فكرة الثأر لاستشهاد عياش رغم الظروف الصعبة. فيذكر أنه قابل (محمد الضيف)، وأخبره عن رغبته في تنفيذ عملية الثأر، لكن (الضيف) رفض وعرض عليه الخروج إلى الضفة ليكون هو المسئول عن العمليات التي ستتم من أجل الثأر لعياش هناك، وألا يكون أحد الفدائيين. فوافق سلامة؛ خاصة وأنه كان ممن سيخرجون مع عياش إلى الضفة، لولا استشهاده.


اللحظة الكبرى

تناول سلامة شرح عملية الثأر لعياش، وذكر أنها كانت مُقسمةً إلى جزأين؛ الأول في قطاع غزة، وقد تكفل به محمد الضيف سواء ماليًّا أو تكتيكيًّا. والثاني داخل الأراضي المُحتلة عن طريق الضفة، وهو الجزء الذي أسهب سلامة في تناوله.

ففي البداية، أخد يوضح أبرز المشكلات المتعلقة بالتسلل من القطاع إلى الضفة، والتي خطط عياش لجزء كبير من حلها، ثم شرح كيف أنه تم التوصل بصعوبة بالغة إلى بعض من قام الشهيد عياش بتدريبهم في القدس؛ ليكونوا ضمن مُنفذي الخطة. فبعد استشهاد عياش لم يتمكنوا من التواصل معهم، إلى أن تم الأمر في النهاية بنجاح.

ويتابع سلامة، أنه لم يبق من الخطة سوى بعض الأمور، والتي تم ترتيبها مع محمد الضيف، وكان أهمها: توفير مبلغ من المال يأخذه معه إلى الضفة، وقد تم له ذلك، وإن كان ما تم جمعه زهيداً جداً مقارنةً بما كانوا يريدونه. واتفق الضيف وسلامة على طريقة التواصل بعد وصول الأخير للضفة، كما تم تحضير كميةٍ من المتفجرات، وقنابل وصواعق، وتم الاتفاق مع الضيف على إرسال ثلاثة إخوة من غزة ليكونوا الاستشهاديين، وانتظر سلامة مكالمة من المجموعة الأولى التي سبقته إلى الضفة، حتى يتم تنفيذ الجزء الآخر والأهم من الخطة.


الوداع

يستقبل سلامة اتصالًا من المجموعة الأولى، والتي تخبره أن الأمور على ما يرام، وأن على المجموعة الثانية الاستعداد للدخول إلى الضفة، وهنا يُفصّل سلامة المتاعب والمخاطر التى واجهتهم ليتمكنوا من التسلل للضفة، وبعد عبور الحواجز والعوائق بشق الأنفس، كانت هناك مخاطرة أخرى وهي كيفية الوصول إلى الشارع الذي ستستقبلهم فيه المجموعة الأولى.

وبعد تمكنهم من الوصول إلى البيارة في أسدود، وتمكنهم من إخفاء متعلقاتهم، وبعد مكوثهم عدة أيام هناك في انتظار وصول الاستشهاديين من غزة، تلقَّوْا الصدمة التي لم يتوقعها أحد، وهي أنه أصبح من المستحيل تسلل أي شخص من غزة إلى الضفة، مما يعني أنه لابد من انتظار وقتٍ طويلٍ حتى يتم تأمين استشهاديين جدد.

ثم بدأ سلامة في سرد تفاصيل حياتهم في البيارة، فيصف كيف كانت الحياة قاسيةً يلزمها القلق والحذر الدائم؛ فهذه المنطقة ليست آمنةً على الإطلاق، خاصة وأنها مكمن لسارقي السيارات، وبعد أن وصلت الأنباء من غزة أنه لم يتمكن الاستشهاديون من الخروج، كان سلامة في حيرةٍ من أمره؛ فلم يكن باستطاعته المكوث أكثر في هذا المكان. ولإصرار سلامة الذي لا يكلّ ولا يملّ لتحقيق هدفه للثأر لعياش؛ بذل كل ما بوسعه للخروج من البيارة إلى الضفة ليبدأ رحلة البحث عن استشهاديين جدد.


تنفيذ العمليات

تمكّن سلامة، بعد رحلة بحث طويلة، من العثور على استشهاديين جُدد، فاستطاع أن يصل إلى استشهادييْن اثنين وهم من قاموا بالعملية الأولى والثانية بعد تجهيزهم وتدريبهم على كل شيء، ومع اقتراب ساعة الصفر لتنفيذ العملية الأولى والثانية، وبعد تجهيز كلّ شئ قام الاستشهاديون في الساعة والوقت المحددّيْن بتنفيذ العمليتين بنجاح، وقد كان هذا اليوم من أصعب الأيام على اليهود كما قيل في الأخبار.

حيث نجح الاستشهادي (مجدي أبو وردة) في تفجير نفسه داخل حافلة إسرائيلية تعمل على خط رقم 18 المؤدي لمقر القيادة العامة لكلٍّ من الشرطة الإسرائيلية وجهاز المخابرات العامة داخل الأراضي المحتلة. وبعد 45 دقيقة، تمكّن الاستشهادي (إبراهيم السراحنة) من تفجير نفسه عند مفترق الطرق في مدينة عسقلان.

ويذكر سلامة كيف كان مُتحمساً لتنفيذ عملية ثالثة وهو ما كان شبهَ مستحيل؛ نظراً للإجراءات الأمنية المُشدّدة التى اتُّخذت من قِبل الجانب الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية، إلا أن سلامة أصر على تنفيذ عمليةٍ ثالثة، وبأسرع وقت ممكن، لتكون ضربةً موجعةً وقويةً للكيان الصهيوني.

وبالفعل استطاع أن يصل لاستشهاديّ يقوم بالعملية وهو (رائد الشرنوبي)، الذي قام خلال نفس الأسبوع بتفجير نفسه في حافلةٍ على الخط رقم 18، خاصة وأن قوات الاحتلال استبعدت أن تتم عملية جديدة على نفس الخط وخلال نفس الأسبوع.


ما بعد العمليات حتى الاعتقال

عقب تنفيذ عمليات الثأر، قامت السلطة بحملة اعتقالاتٍ واسعةٍ جدًّا، خاصة في قطاع غزة، وقد كان وضع القطاع والحركة سيئًا للغاية؛ نظراً لتلك الاعتقالات الواسعة التي تصاحبها تحقيقات من أبشع ما يمكن، ويوضح سلامة كيف ساعد هذا الأسلوب الوضيع على كشفه للسلطة ومعرفتهم أنه هو المخطط والقائد لتلك العمليات، فبدأت حملة المداهمات والتفتيش عنه في كل مكان.

ويشرح سلامة كيف كانت الأوضاع صعبة للغاية على الجميع؛ فقد كان يتم اعتقال كل المشتبه بهم، ويتم اقتحام المنازل التي يشكّون أنه فيها، فالأوضاع كانت متوترة وغير آمنة؛ لذلك اضطُر سلامة لأن يغادر إلى الخليل التي كانت تحت السيطرة الإسرائيلية، فيقول “إن وجودنا تحت المناطق التابعة للسيطرة الإسرائيلية أفضل من بقائنا تحت السيطرة الفلسطينية”، وهناك في الخليل، فكر سلامة في عملية اختطاف جنديّ إسرائيليّ، كي يحرر به بعض الأسرى الفلسطينيين. ويصف سلامة حجم معاناته أثناء التخطيط لهذه العملية؛ ولكن باءت العملية بالفشل، وتم اعتقاله، حيث قامت السلطة بتسليمه للعدو، ليحكم عليه بـ 1175عام، ثمناً لثأره من قتلة الشهيد يحيى عياش، ودفاعه عن أرضه المحتلة.