في الساعات الأولى من فجر الثلاثاء، ظهر زعيم المعارضة الفنزويلية خوان جوايدو في قاعدة لاكرلوتا الجوية العسكرية في العاصمة كاركاس مصحوبًا بمساعده ليوبولدو لوبيز ومحاطًا بحشد من عشرات العسكريين. في التسجيل الذي استمر لثلاث دقائق أعلن جوايدو أن مهمة الجنود الذين سيخرجون إلى الشوارع هي حماية الدستور الفنزويلي، قبل أن يدعو السكان للتوجه إلى القاعدة والخروج إلى الشوارع لاستعادة الديمقراطية والحرية.

الرد الرسمي أتى على لسان وزير الدفاع الذي أكد مواصلة القوات المسلحة الدفاع عن الدستور، بينما دُعي أنصار مادورو إلى الاحتشاد عند القصر الرئاسي. يأتي ذلك في حين انقسم الموقف الدولي بين روسيا الحليف الأقرب لمادورو والتي نددت بالمحاولة الانقلابية، وواشنطن التي شجعت على لسان وزير الخارجية مايك بومبيو الانتفاضة العسكرية ضد نظام مادورو.

تطور هو الأكثر تعقيدًا في الأزمة الفنزويلية التي بدأت في التبلور على خلفية إعلان رئيس الجمعية الوطنية خوان جوايدو نفسه رئيسًا للبلاد بالوكالة واعتراف عدد من العواصم الدولية به وفي مقدمتها واشنطن، ليبدأ فصلًا استمر قرابة أربعة أشهر من الصراع على الشرعية الدولية، قبل أن تدخل فنزويلا صبيحة اليوم مرحلة جديدة من الصراع المسلح على السلطة. بيد أن تفحص التاريخ الفنزويلي يكشف أبعادًا أكثر جذرية للأزمة الاقتصادية والسياسية الراهنة، أبعاد وإن تناثرت عبر دورات الحكم منذ مطلع القرن العشرين، إلا أنها تدور حول منتج أوحد، كان يُعتقد أنه منحة جغرافية لسكانها، فغدا موطن نقمتهم؛ النفط.


النفط: دقات الخطر الأولى

عام 1908 استولى الجنرال خوان فينسنتي جوميز على السلطة في فنزويلا، ولم يمر على حكمه أكثر من عام، حتى شرع في إعطاء تراخيص التنقيب عن البترول للشركات الأجنبية. البداية كانت من نصيب شركة بريطانية تأسست في كاراكاس تحت اسم «الشركة الفنزويلية للاستكشاف» والتي حصلت على مساحات تنقيب تُقدر بسبعة وعشرين مليون هكتار في 12 من ولايات فنزويلا العشرين.

بدا أن أعمال الشركة في طريقها للازدهار، بيد أن الخلاف الذي نشب عام 1911 بين ممثلي الشركة البريطانية والجنرال بسبب اعتراض الأخير على المزايا والعوائد الممنوحة له، قد وضع نهاية للتعاون بينهما، ليقوم الجنرال بمنح الحقوق إلى شركة البترول الكاريبية، ثم نقلها بعد ذلك إلى عملاق النفط البريطاني-الهولندي، شركة رويال شل، وهي الخطوة التي ستُغير وجه الاقتصاد الفنزويلي خلال القرن العشرين. [1]

على يد الجيولوجيين التابعين لشركة شل جرى اكتشاف النفط في حوض ماراكيبو للمرة الأولى عام 1922. سرعان ما ارتفع الإنتاج خلال العشرينيات على نحو مذهل من مليون برميل إلى 137 مليون برميل، ورافق ذلك صعود فنزويلا على سلم منتجي النفط الدوليين لتصبح في المرتبة الثانية خلف الولايات المتحدة، ومع حلول الثلاثينيات كان النفط يُشكل قرابة 90% من إجمالي صادرات البلد اللاتيني.

كانت صناعة النفط الفنزويلي تتركز بالأساس في يد ثلاث شركات أجنبية كبرى؛ هي شل وجولف وستاندرد أويل، كانت في مجموعها تُسيطر على 98% من سوق النفط، بيد أن الحكومة الفنزويلية أعادت صياغة قانون الكربوهيدرات عام 1934 لإجبار الشركات الثلاث على إعطاء نصف أرباحها للدولة، وهو الأمر الذي أسهم في الأخير في مضاعفة الدخل الحكومي ثلاث مرات. [2]

عوائد سوف تتضاعف في الستينيات والسبعينيات لعوامل ثلاث؛ أولها، تأسيس منظمة أوبك التي أعطت الدول المنتجة للنفط سيطرة أكبر على إنتاجها المحلي وتنسيق الأسعار مع باقي أعضاء المنظمة على النحو الذي يضمن مصالحها الوطنية، فكان أن رفعت ضريبة الدخل على شركات النفط الأجنبية بواقع 65% من الأرباح، في حين تمثّل العامل الثاني في قرار أوبك عقب حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 بحظر تصدير النفط للدول المؤيدة لإسرائيل لمدة خمسة أشهر، وهو ما أدى إلى مضاعفة سعر برميل البترول أربع مرات، وضخ عشرة مليارات دولار إضافية للخزانة الفنزويلية، أما ثالث العوامل، فيعود إلى قرار الرئيس كارلوس بيريز تأميم صناعة النفط وإنشاء شركة النفط الوطنية عام 1976 ، مع السماح لها بالدخول في أعمال شراكة مع المؤسسات النفطية الأجنبية في أعمال استكشاف وإنتاج وتكرير النفط، طالما كانت تمتلك 60% من الأسهم. [3]

خلال العام الأول من إنشائها أصبحت شركة النفط الوطنية الفنزويلية أحد أكبر منتجي النفط في العالم بعد أن تمكنت من مضاعفة استثماراتها أربع مرات ورفع إنتاجها إلى حدود 2.3 مليون برميل يوميًا. وبعد أن استقر نفوذها داخليًا، سعت الشركة إلى التمدد دوليًا، وبدأت في شراء مصافٍ في حوض الرور الألماني، ونيناس في السويد وبلجيكا وسيتجو في الولايات المتحدة. لكن الثمانينيات حملت أخبارًا غير سارة لصناعة النفط المحلية، إذ أدّت سياسات ترشيد الاستهلاك النفطي وزيادة كفاءة استخدام الطاقة في الدول الصناعية، فضلًا عن نمو الإنتاج النفطي خارج منظمة أوبك تحديدًا في المكسيك وجنوب شرقي آسيا وبحر الشمال، إلى تشبع السوق العالمي بالمعروض النفطي، وانخفاض سعر برميل البترول من 35 $ عام 1981 إلى 31$ عام 1982، ثم إلى 29$ عام 1983، ليُحقق انخفاضًا جديدًا بمقدار دولار إضافي في 1984، فثلاثة دولارات إضافية عام 1985، إلى أن انهارت الأسعار عام 1986 لتستقر عند حاجز الـ14 $ للبرميل. [4]

شكّل هبوط أسعار النفط ضربة قاصمة لمداخيل الدولة الفنزويلية، إذ كان البترول بنهاية حقبة الثمانينيات يُشكّل قرابة 94% من إجمالي حجم الصادرات. ارتفع معدّل التضخم إلى 89% وانخفض نصيب الفرد من الناتج القومي من حاجز 4800 $ إلى 3100 $، ولجأ الرئيس بيريز إثر ذلك إلى صندوق النقد الدولي لتطبيق برنامج إصلاح اقتصادي عُرف باسم «الانعطافة الكبرى»، شملت قائمة الإجراءات خصخصة شركات حكومية، خفض الجمارك، وتقليص الإنفاق على قطاعي الصحة والتعليم ورفع أسعار المشتقات البترولية بقيمة 100%.

سرعان ما اشتعل الغضب الشعبي، حيث بدأ ألوف المتظاهرين في النزول إلى الشوارع في فبراير/ شباط عام 1989. ردّت السلطات بتعليق جملة من المواد الدستورية المتعلقة بالحقوق والحريات العامة والتظاهر السلمي، واستدعت قوات الجيش إلى شوارع ميراندا وكاركاس، حيث استهدف القناصة الحشود البشرية من على أسطح المباني، ليسقط زهاء 276 قتيلاً برصاص الجيش. كانت تلك المرة الأولى التي يختبر فيها الفنزويليون مدى الضرر الذي يتسبب فيه اعتماد الاقتصاد كلية على النفط.


تشافيز: ازدهار ما قبل الكارثة

ظلّت أسعار النفط خلال التسعينيات تتأرجح حول مستوى 20 $ للبرميل، إلى أن وقعت أزمة النمور الآسيوية عام 1998، فانهار معها سعر البرميل مُسجلًا مستوى متدنيًا، بلغ 11 $. في تلك الأثناء نظّمت فنزويلا انتخابات الرئاسة في ديسمبر/ كانون الأول عام 1998 والتي أسفرت عن فوز هوجو تشافير بما نسبته 52% من أصوات الناخبين.

لن يمر عام على توليه السلطة قبل أن يُصدر تشافيز دستورًا جديدًا للبلاد حاز ثقة 72% من جمهور الناخبين، قبل أن تنعقد الانتخابات البرلمانية في عام 2000، ليفوز تشافيز بما نسبته 66% من مقاعد الكونجرس، الذي رخّص له بالتبعية الحكم بمراسيم لمدة عام، وهو الأمر الذي استغله تشافيز في إصدار 49 قانونًا، كان الأكثر إثارة للجدل فيما بينها، قانون الكربوهيدرات لعام 2001 والذي رفع الضرائب المفروضة على شركات النفط، خطوة لن يعود بعدها حكم تشافيز كما كان.

كانت المحطات التلفزيونية الأربعة الكبرى، فيني فيجن، راديو كاركاس، جلوبوفيجن وتيلفين، فضلًا عن تسعة من المنصات الصحافية الأكثر تأثيرًا، مملوكة للمعارضة اليمينية، التي بدأت حملة دعائية ضد قانون تشافيز. في العاشر من أبريل/ نيسان 2002، وفي خطوة استثنائية، سيظهر أحد كبار الجنرالات على شاشات القنوات الأربعة ليدعو الرئيس إلى التخلي عن منصبه، وهي الدعوة التي تلقفتها المنصات الإعلامية المعارضة لدعوة المتظاهرين إلى النزول إلى الشوارع صبيحة اليوم التالي. كان الهدف الرئيسي للتظاهرات هو شركة النفط الوطنية، بيد أنها توسعت إلى القناة الرسمية الثامنة، التي كانت بمثابة المنفذ التشافيزي الأوحد للتواصل مع الجماهير، وصولًا إلى القصر الرئاسي، وهناك بدأت الاشتباكات بين مؤيدي ومعارضي تشافيز.

تداعت الأمور سريعًا ليُصدر الجيش بيانه الذي يدعو تشافيز ووزراءه إلى الاستسلام، وإلا كان اللجوء إلى خيار تفجير القصر، وقبيل انتهاء المدة سلم تشافيز نفسه إلى قيادة الجيش، وفي ظهر اليوم التالي، كان بدرو كارمونا تانجا يقسم اليمين الدستورية رئيسًا جديدًا لفنزويلا. أقرّت سلطات الانقلاب الطوارئ، وحلّت كل الهيئات المحلية والقطرية المنتخبة، وفرضت تعتيمًا كاملًا على ما يدور في الجهة المقابلة في معسكر أنصار تشافيز. لكن كل تلك الإجراءات لم تحل بين المناصرين والقصر الجمهوري، إذ تدفّق مئات آلاف من مؤيدي تشافيز لحصار ساسة وجنرالات الانقلاب في صباح الرابع عشر من أبريل، وإزاء تعاطف الحرس الرئاسي الذي ظلّ مواليًا لتشافيز، لم يجد الانقلابيون مفرًا من مغادرة قصر ميلافلوريس، وفي الأخير عاد تشافيز إلى سدة الحكم بعد 36 ساعة من الإطاحة به، لكنها لن تكون محاولة الانقلاب الأخيرة. [5]

في نفس العام بدأت المعارضة ممثلة في اتحاد قطاع الأعمال الفيدرالي في اتباع إستراتيجية جديدة لإسقاط تشافيز عبر حرمانه من عوائد النفط. في الثاني من ديسمبر، دعا الاتحاد عمال الشركة الوطنية للنفط إلى إضراب شامل. أتت الإجابة سريعًا من ملاحي السفن الناقلة للنفط، وهي الخطوة التي أدت إلى انهيار صادرات فنزويلا النفطية من 3.1 مليون برميل إلى 100 ألف برميل خلال أسبوعين فقط من بدء الإضراب. سرعان ما تأثرت الأحوال الميدانية مع نفاد البنزين واضطرار المواطنين إلى البقاء لمدة 40 ساعة أمام محطات الوقود، وكان يُمكن للأحوال أن تسوء بشكل أكبر لولا تدخل الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا الذي أرسل أرتالاً من السفن المحملة بالمشتقات النفطية، وهي الخطوة التي أعقبها تدخل مؤيدي تشافيز في القوات المسلحة لبسط سيطرتهم على المنشآت النفطية وسفن الشحن، واستغرق عودة صناعة النفط إلى مستوياتها الإنتاجية السابقة قرابة شهرين، تكبدت خلالهما فنزويلا خسائر مباشرة بقيمة 6.5 مليار $. [6]

رغم محاولتي الانقلاب فإن عصر تشافيز شهد جملة من الأحداث الدولية التي أسهمت في صعود سعر النفط عن المستوى الذي بدأ به عهده، أي 11 $ للبرميل. حيث أسهمت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول وغزو أفغانستان والعراق ونمو الاستهلاك العالمي للنفط بفضل ارتفاع الطلب من الصين والهند إلى قفزة هائلة في أسعار النفط سجلت مستويات قياسية، اقتربت في معظم السنوات من 2000 إلى 2013 من حاجز الـ70 $ للبرميل الواحد، في حين جاوزت حاجز الـ100 $ خلال أعوام 2008،2011،2012.

مكّنت تلك الطفرة من رفع الناتج القومي لفنزويلا من 90 مليار $ عام 1999 إلى 296 مليار $ عام 2010، وهو الأمر الذي أتاح له توسيع قاعدة الإنفاق الاجتماعي بإنشاء نصف مليون وحدة للإسكان الاجتماعي، وإعادة 600 ألف تلميذ إلى التعليم الأساسي عبر نظام المدارس الليلية، في وقت بلغ فيه الإنفاق على التعليم حاجز 5% من الموازنة، ودخل كل سكان البلاد تحت غطاء برنامج الخدمات الصحية «باريرو أدينترو»، فضلًا عن ارتفاع نسبة الصحة من الموازنة العامة إلى 7.5% وانخفاض نسبة البطالة لرقم قياسي سجّل 6%، في حين ارتفع الحد الأدنى للأجور إلى حاجز 365 $ شهريًا. [7]


مادورو: الانفجار الحتمي

رغم الوفورات النفطية فإن تشافيز لم يتدارك أخطاء أسلافه في تنويع القطاعات الإنتاجية، بل أهمل القطاعات القائمة مثل صناعة السكر التي كانت تُدر عوائد مليونية بعد تحقيق الاكتفاء الذاتي، حيث عيّن أكاديمًيا على رأس الإدارة – بدلًا من مهندس زراعي خبير- على رأس أكبر حقول قصب السكر في بيو تامايو في محافظة لارا، فقط لتوافر عوامل الثقة الشخصية في الأول، وهو ما نتج عنه تحول فنزويلا من دولة منتجة للسكر إلى أخرى مستوردة.

لا يمكن فهم الحالة الفنزويلية دون العودة إلى هولندا، حيث انتعشت المداخيل المحلية بفضل ارتفاع إنتاج الغاز من بحر الشمال، وهو الأمر الذي أدى إلى ارتفاع قيمة العملة المحلية، وجعل المنتجات الهولندية غالية الثمن، في حين أصبحت السلع المستوردة رخيصة، مما قلّل من الجودة التنافسية للمنتجات الهولندية في الأسواق العالمية، وبالتالي تجفيف الموارد الرأسمالية من الصناعة والزراعة وامتصاصها في قطاع الخدمات والمواصلات والإنشاءات وأجزاء أخرى من الاقتصاد التي لا يُمكن المتاجرة بها، وهو ما بات يُصطلح على تسميته منذ العام 1976 باسم «المرض الهولندي».

فنزويلا عانت تاريخيًا من المرض الهولندي، حيث الاعتماد المطلق على مادة خام وحيدة (النفط)، وفي كل مرة تتقلّب فيها أسعارها تئن البلاد تحت وطأة مصفوفة أزمات، حدث ذلك مع الكساد الكبير عام 1929، ثم أزمة تخمة النفط في الثمانينيات، وفي كل مرة لا تسترد البلاد عافيتها سوى بطفرة مضادة في أسعار النفط، إلا أن الأمر لم يتكرر تلك المرة. [8]

تُوفي تشافيز عام 2013 ليحل محله نيكولاس مادورو الذي استلم السلطة بينما سعر برميل النفط يقف عند مستوى 112 $ للبرميل. معدل سينهار بشكل قياسي خلال السنوات الأربعة التالية، إذ أغلقت سنة 2014 على سعر 53 $ للبرميل، و2015 عند مستوى 30$، و38$ في النصف الأول من عام 2016، لتعود إلى مستوى 55$ في نهاية عام 2017.

أدى انهيار أسعار النفط إلى عجز شديد في المداخيل الدولارية التي تُموّل برامج الإنفاق الاجتماعي التي اتسم بها عصر تشافيز، وهو الأمر الذي تفاقم مع الفساد المستشري في صناعة النفط الوطنية التي فقدت 18 ألف من أفضل خبرائها بعد أن فصلهم تشافيز عقب محاولة الانقلاب الثانية دون تعويضها بالخبرات اللازمة، واستفحل الفساد في عهد مادورو حيث سجّلت مستويات الإنتاج انخفاضًا تاريخيًا من 2.5 مليون برميل إلى 960 ألف. انخفاض أسعار النفط فضلًا عن انخفاض الإنتاج الفنزويلي أدّيا في نهاية المطاف إلى سقوط 86% من الفنزويليين تحت خط الفقر، هجرة 10% من سكان فنزويلا إلى دول الجوار، ارتفاع الديون إلى نحو 120 مليار $، ارتفاع سعر لتر البنزين من سنت واحد عام 2013 إلى 8.71 $ عام 2017، افتقار المشافي إلى 90% من المواد الطبية الأساسية، انخفاض احتياطي الذهب من 365 طنًا إلى 150 طنًا، وفقدان العملة المحلية قيمتها مع ارتفاع نسب التضخم لتقارب 146.000%.

ومع انسداد أفق الحل الداخلي، اقتصاديًا بفشل الإجراءات المتبعة من وزن إلغاء خمسة أصفار من العملة الوطنية (البوليفار)، وسياسيًا بالاحتجاجات الشعبية التي تلت إعلان مادورو فوزه بولاية ثانية في مايو/ آيار 2018، وصولًا إلى إعلان خوان جوايدو رئيس الجمعية الوطنية نفسه رئيسًا بالوكالة، وفقدان نظام مادورو شرعية التمثيل الدولي في عدد من العواصم الدولية في مقدمتها واشنطن.

في خضم تلك البيئة المضطربة عوّل مادورو كثيرًا على شبكة العلاقات التي ورثها من سلفه تشافيز مع اثنين من أبرز الفواعل الدوليين؛ أولهما، روسيا الداعم العسكري الأكبر لفنزويلا منذ العام 2006 بصفقات أسلحة تجاوزت قيمتها الإجمالية حاجز الـ10 مليار $، والتي أعادت هيكلة 3.5 مليار $ من الديون الفنزويلية في 2017، وثانيهما، الصين التي أدمجت فنزويلا ضمن خطتها للقروض مقابل النفط، والتي تنشط من خلالها في أميركا اللاتينية، حيث أقرضت شركة النفط الإكوادورية خلال الفترة من 2009-2013 2.3 مليار $ مقابل حصول بتروشاينا وسينوبك على نصف إنتاج الإكوادور من النفط، وحيث منحت فنزويلا أيضًا 70 مليار $ من القروض، مقابل الحصول على 700 ألف برميل بترول يوميًا من إنتاجها النفطي.

لكن التعويل على أي من الدولتين لم يوفّر لمادورو سوى غطاء سياسي في مجلس الأمن يحول دون التدخل الأميركي المباشر، وغطاء عسكري بالأخص من الجانب الروسي الذي تذهب تقارير إلى إيفاده لـ400 مرتزق من شركة فاجنر لحماية النظام، فضلًا عن قوة تنتمي إلى الفرقة 47 لمنطقة القوقاز، والتي سبق لها القتال إلى جوار الانفصاليين الأوكران عامي 2014 و2015، دون أن يمتد تأثير الحليفين إلى تحسين المؤشرات المتداعية للاقتصاد الفنزويلي، بل إن بعض التقارير تذهب إلى قنوات سرية مفتوحة بين ممثل المعارضة الفنزويلية خوان جوايدو والصين، بهدف طمأنة بكين على استثماراتها الفنزويلية والديون المستحقة لها بقيمة 13 مليار$. [9]


وختامًا جدير بالذكر أنه في عام 2003 أطلق تشافيز نظامًا ثنائيًا للعملة، بهدف الحد من هروب العملات الأجنبية إلى خارج الاقتصاد الفنزويلي. بموجب ذلك النظام كان يتعيّن على المستورد التقدم بطلب إلى مجلس رقابة العملة الوطنية من أجل الحصول على الدولار، وإذا كانت الواردات تنتمي إلى خانة السلع الأساسية مثل الغذاء والدواء يكون سعر صرف الدولار منخفضًا، بينما يرتفع في باقي الواردات الأخرى.

وفي 2012 تم توسيع نطاق النظام بإدخال معدل الصرف الثلاثي، وبمقتضاه أصبح هناك معدلان منخفضان لصرف الدولار للواردات من السلع الأساسية، بجانب معدّل صرف مرتفع للسلع الواقعة خارج إطار تلك المجموعة. فتح النظام الثنائي للعملة بابًا خلفيًا امتص مقدرات الاقتصاد الفنزويلي، حيث قامت بعض الشركات التي حصلت على الدولار بالسعر الرسمي المنخفض بتسعير السلع على أساس الدولار في السوق السوداء، وضخ الأرباح في حساباتهم المصرفية. [10]

لم يتوقف النهب عند ذلك الحد، إذ قامت بعض الشركات بضخ جانب من الدولارات الرسمية في السوق السوداء مباشرة، ومن ثمّ تحصيل الفارق الهائل بين السعرين، مثلًا تحصّلت شركة على 477 ألف $ لشراء معدات زراعية لم تتجاوز أثمانها 2900 $، وقامت شركة أخرى بشراء مليون $ من أجل استيراد ماكينات لجز الأعشاب بعد أن ادّعت أن قيمة كل منها تبلغ 12.300$، في حين كان ثمن الواحد لا يتعدى بضع مئات من الدولارات، بينما لم تعثر الشرطة في حملة تفتيشية سوى على آلات خردة صدئة في موقع كان يُفترض أن تُوجد فيه آلات مستخدمة في صناعة الدجاج بقيمة 1.8 مليون $، في حين تحصّل رجال أعمال على 74 مليون $ لشحن مواد كيميائية من الخارج، وفي الأخير لم يصل شيء.

كانت تلك الشركات تحصل على الدولار الرسمي بسعر زهيد يُقارب 6.3 بوليفار، وتُعيد ضخه مباشرة في السوق السوداء لتجني لقاء كل دولار نحو 280 بوليفارًا [11] هذه الشبكة المحكمة من ممارسات الفساد أضاعت على فنزويلا نحو ثلث عائداتها النفطية التي قُدّرت خلال عهد تشافيز بنحو تريليون $ [12]. كان يُمكن لثلاثمائة مليار دولار أن تُشكّل مظلة أمان للاقتصاد الفنزويلي عندما انهارت أسعار النفط، لكن عوضًا عن ذلك وجدت فنزويلا احتياطيها من العملة الأجنبية مستقرًا عند مستوى 10 مليارات $ في خضم الأزمة عام 2017.

وبعد عامين عادت لتجد اسمها على ورقة يحملها مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون في أحد مؤتمراته الصحافية. كان مدونًّا عليها «أرحب بمحادثات أفغانستان، قوة مكونة من خمسة آلاف جندي في كولومبيا»، وهو ما التقطته وسائل الإعلام لتبدأ في تحليل سيناريو هجوم عسكري أميركي وشيك انطلاقًا من الجارة كولومبيا لإسقاط النظام الفنزويلي.

وبينما ينتظر الجميع منذاك الحين تدخلًا أميركيًا مباشرًا أو عبر الجيش الكولومبي. فاجأ جوايدو المشهد المرتبك بانشقاق عسكري محلي، يفتح الباب – إن تصاعد- أمام حمام دماء، لا يُمكن التكهن بعواقبه.

تقف فنزويلا ابتداءً من اللحظة أمام المرحلة الأكثر حرجًا في تاريخها الحديث، تراكمت أزماتها الاقتصادية الهيكلية إلى الحد الذي تجاوز فيه الصراع أبعاده المؤسسية والشعبية التقليدية، ليتحول إلى صراع مسلح، صراع لا يدور علي أرضية أزمة اقتصادية فحسب بل يمتد ليشمل أطرافًا دولية ذات مصلحة مباشرة إما في الحفاظ على الوضع الراهن أو تنصيب الصاعد الجديد. وبين الرجلين مادورو وجوايدو، وبين شبكة الأحلاف الدولية والأحلاف المضادة في واشنطن وموسكو وبكين، يتقرّر مستقبل دولة، وعدتها احتياطاتها النفطية المُقدرة بثلاثمائة مليار برميل بحاضر مترف، وانتهت إلى أن تُصبح ساحة للفقر والنزوح والتكالب المسلح على مقادير السلطة.

المراجع
  1. Venezuelan Oil Unifying Latin America, Johannes Alvarez, James Fiorito, Stanford University, June 2005
  2. Venezuela: The Rise and Fall of a Petrostate, Rocio Cara Labrador, Council on Foreign Relations, 24 Jan, 2019
  3. المرجع السابق.
  4. تقلبات أسعار النفط: تاريخ طويل من التجارب، وائل مهدي، الشرق الأوسط، 10 ديسمبر 2014.
  5. وثائقي الإنقلاب الفاشل علي تشافيز.
  6. Venezuelan Oil Unifying Latin America, pp 15-17
  7. وثائقي الجزيرة: الحياة بعد تشافيز في فنزويلا.
  8. النفط: السياسة، الفقر والكوكب، توبي شبيللي، مكتبة العبيكان، الفصل الثاني: الصراع والفقر واللامساواة، الوجه الآخر لنعم النفط، ص:ص 54-56.
  9. Maduros Allies: Who Bach the Venezuelan Regime?, Rocio Cara Labrador, Council on Foreign Relations, Feb, 2019.
  10. ما الذي يحدث للعملة الفنزويلية؟، محمد إبراهيم السقا، الإقتصادية، الجمعة 6 مايو 2016.
  11. Venezuelas Economy suffers as Import Schemes Siphon Billions, William Neuman, Patricia Torres, The New York Times, May5, 2015.
  12. Venezuela Ex-Minister Seek Probe into 300$ Billion in Lost Oil Revenuem Eyanir Chinea, Corina Ponsm Reuters, Feb 2, 2016