إلى المرأة البسيطة في أرضنا، العمال الذين خدمونا، إلى الشباب الذين غنوا وقدموا لنا البهجة وروح النضال، للرجال، العمال، الفلاحين، المثقفين، الذين سيتم اضطهادهم، للمهنيين الوطنيين الذين استمروا في العمل ضد الفتنة التي ترعاها الفئات الطبقية التي تدافع عن الامتيازات التي يضمنها المجتمع الرأسمالي للأقلية… هذه كلماتي الأخيرة، وأنا على يقين أن تضحيتي لن تذهب هباءً، وأنها على الأقل ستكون درسًا أخلاقيًا يعاقب جريمة الجبن والخيانة.

كان هذا مُختصرًا لآخر كلمات نطق بها الرئيس التشيلي الاشتراكي «سلفادور الليندي» الذي كان يُلقب بطبيب الفقراء، في 11 سبتمبر/ أيلول 1973، مرتديًا الوشاح الرئاسي، قبيل قصف قصره الجمهوري بالطائرات في الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال أوغستو بينوشيه المدعوم من الولايات المتحدة.

في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1970 وصل الليندي إلى مقعد الرئاسة بعد فشل كل محاولات الولايات المتحدة منعه، ليبدأ فور تقلده المنصب بالإجراءات التي كانت تخشاها واشنطن، حيث قام بتأميم مناجم النحاس والحديد والملاحات والبنوك الأجنبية والصناعات الغذائية، والتي كان أغلبها مملوكًا لشركات أمريكية، وقام برفع أجور الموظفين والاهتمام بإصلاح التعليم، فقامت واشنطن بالضغط على تشيلي اقتصاديًا بوقف المعونات وتحريض المؤسسات والهيئات الاقتصادية والمستثمرين، وتمويل بعض الاحتجاجات والإضرابات، فصعد التضخم إلى ما يقارب 600 بالمائة عام 1973، وهو العام الذي شهد انقلاب بينوشيه لتتحول تشيلي إلى النيوليبرالية بمساعدة الولايات المتحدة عبر إجراءات اقتصادية وعسكرية شديدة القسوة.


فنزويلا

في 6 ديسمبر/ كانون الأول عام 1998، وصل هوجو شافيز، الضابط السابق بالجيش الفنزويلي ويساري التوجه، إلى رئاسة فنزويلا إحدى أكبر دول العالم إنتاجًا للنفط، بينما كانت تُعاني من أوضاع اقتصادية وسياسية واجتماعية شديدة البؤس بفضل السياسات الأمريكية والنخبة الفنزويلية الحاكمة، لذا فإنه رغم ثروتها النفطية الضخمة راكمت دينًا خارجيًا كبيرًا، حيث كانت تستحوذ الشركات الأمريكية على الغالبية العُظمى من إنتاجها الذي كانت تستبدله بالطعام والضروريات الأخرى، مع إحكام السيطرة على تلك الثروة النفطية خشية استخدامها لصالح البلاد، وذلك بعدم بناء مصافٍ للنفط في فنزويلا وإنما في ترينيداد ودول ساحل الخليج الأميركية الجنوبية لتركها بلا أدوات تسيير وإنتاج لضمان التبعية، وكذلك حثّ مسؤولي البنك المركزي الفنزويلي على رهن الاحتياطات المالية وجميع أصول قطاع النفط التابع للدولة كضمان للدين الخارجي لتخويل حاملي الأسهم وكبار الشركات الأمريكية من الاستحواذ قانونيًا على الأصول النفطية حال تخلف الدولة عن دفعات ديونها.

اتبع شافيز سياسة اقتصادية اشتراكية لتقليل الفقر وتحقيق مساواة اجتماعية قام خلالها بإصدار قوانين للنفط رفع خلالها الضرائب المفروضة على الشركات العاملة في المجال ورفع نسبة الدولة في المشروعات المشتركة إلى 51%، وغيرها للصيد والإصلاح الزراعي لإعادة توزيع الأراضي غير المزروعة والصالحة للزراعة على الفلاحين الذين لا يملكون أراضي زراعية، والاهتمام بالتعليم وخلق فرص عمل جديدة في الشركات الصغيرة والتعاونيات وإعادة تعمير المناطق المتضررة من فيضان 1999، والاهتمام بالرعاية الصحية والضمان الاجتماعي حيث نص الدستور على أن الصحة هي حق اجتماعي أساسي وهي من مهام الدولة، وعليها صياغة وتنفيذ السياسات التي من شأنها رفع نوعية الحياة وتسهيل الحصول على الخدمات، وأن كل مواطن له الحق في الضمان الاجتماعي.

تلك السياسات التي أغضبت فئات كثيرة داخل وخارج البلاد أهمها الولايات المتحدة وبعض مراكز النفوذ داخل الجيش والكنيسة وكبار ملاك الأراضي الزراعية وشركات صيد السمك وغيرها، مما أدى إلى محاولة الانقلاب العسكري عليه في 11 أبريل/ نيسان 2002، الذي أيدته الولايات المتحدة سريعًا بينما خرجت جماهير من الشعب الفنزويلي للشوارع تأييدًا له وإعلان 19 من رؤساء دول أمريكا اللاتينية رفضهم للانقلاب الذي فشل بعد 48 ساعة وعاد شافيز إلى قصره.

إلا أن شافيز عجز طوال مدة حكمه التي امتدت حتى وفاته في 5 مارس/ آذار 2013 عن الاستقلال الاقتصادي والخروج من الأزمة الاقتصادية بسبب عجزه عن الخروج عن الدائرة الجهنمية الأمريكية التي أُحكمت أكثر وأكثر عبر العقوبات التي طالت الودائع في المصارف الأمريكية والأصول النفطية وعجزه عن مكافحة الفساد داخل الدولة، مع تقلبات أسعار النفط العالمية خاصة في السنوات الأخيرة من حكمه مع عجز الحلفاء (روسيا والصين بشكل أساسي) على المساعدة والخروج من النظام المالي والاقتصادي الأمريكي والدولي، فترك البلاد في حالة اقتصادية مزرية ورثها خليفته نيكولاس مادورو.

ومنذ اعتلاء مادورو سدة الحكم وتُعاني البلاد هذه الأزمة الاقتصادية الطاحنة والتي زادت مع العقوبات الشديدة التي فرضتها الولايات المتحدة بقيادة ترامب، ورغم وعوده بخطة لإنقاذ الاقتصاد والشعب من الفقر إلا أن كل ذلك فشل وتدهورت الأوضاع بشكل أفدح، خاصة مع معارضة كبيرة تُشكك في شرعية حكمه خاصة خلال انتخابات التجديد عام 2018، التي ادعت المعارضة أنها مزورة وتمت في أجواء ديكتاتورية حرمتها من المنافسة الحقيقية ولم تعترف بها عدة دول على رأسها الولايات المتحدة، ليعلن زعيم المعارضة ورئيس الجمعية الوطنية (البرلمان الفنزويلي) خوان غوايدو نفسه رئيسًا للبلاد حتى تتم عملية انتخاب جديدة، لتسارع الولايات المتحدة وعدة دول أخرى في الاعتراف به بينما أكدت دول أخرى -على رأسها روسيا والصين- على اعترافها بشرعية مادورو.

وسط تلك الأجواء المشحونة والانقسام المجتمعي داخل فنزويلا، والصراع بين مُعارضة مدعومة بقوة من الولايات المتحدة بنفوذها وقوتها الاقتصادية ونظام حاكم يوصف بالديكتاتوري، يُعاني مواطنو تلك الدولة الثرية من أوضاع بالغة الصعوبة والفقر، حيث تحول جسر سيمون بوليفار إلى رمز لهجرة الملايين من الفنزويليين إلى البلدان المجاورة في رحيل جماعي مخيف وصل عددهم لأكثر من 3.2 مليون فنزويلي هربًا من أوضاع كارثية زادت منها خطة مادورو لإصلاح الاقتصاد والمسماة بالبوليفار السيادي، وهو بحذف خمسة أصفار من البوليفار القوي السابق، مع فرض انضباط مالي والتوقف عن طباعة النقود بشكل مفرط مما أدى إلى ارتفاع مرعب في أسعار الطعام والمواد الاستهلاكية، حيث ارتفعت نسبة التضخم السنوي خلال عام 2018 حسب دراسة أعدها المجلس الوطني -الذي تسيطر عليه المعارضة – إلى 1,300,000 بالمئة، ورغم إعلانه رفع الحد الأدنى للأجور إلى نصف بترو (أي 1800 بوليفار سيادي) -يساوي نحو 28 دولارًا، ما يعني زيادة بـ34 ضعفًا عن الحد الأدنى السابق الذي يعادل أقل من دولار- إلا أن ذلك لا يكفي حتى لشراء كيلوغرام واحد من اللحم.

وبين مؤامرات وضغوط وعقوبات وتهديدات أمريكية وأخرى من الاتحاد الأوروبي وبعض دول أمريكا اللاتينية، مقابل مساندة من روسيا والصين وتركيا ودول أخرى لشعارات ضخمة من الرئيس والحزب الحاكم بمساندة من الجيش، واستغلال تجار الحروب في تلك الأزمات –مثل شراء الإمارات كميات ضخمة من الذهب الفنزويلي – يُعاني الشعب الفنزويلي من أوضاع أقل ما توصف بأنها كارثية، ربما تؤدي إلى احتراب داخلي –هناك بالفعل اضطرابات أدت إلى مقتل عشرات -أو تدخل خارجي عسكري سيؤدي إلى كارثة أكبر.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.