على مدار التاريخ الإسلامي تعددت السفارات الإسلامية إلى الإمبراطوريات والدول، واختلفت بواعث ذلك، كما تباينت النتائج، لكن في كل مرة كان السفير يخضع لمعايير معينة باعتباره واجهة للدولة.

ويذكر الدكتور سليمان الرحيلي، في كتابه «السفارات الإسلامية إلى الدولة البيزنطية»، أن العرب عرفوا السفارة في جاهليتهم وإسلامهم، فاستسفرت قريش في الجاهلية سهيل بن عمرو وعمر بن الخطاب إلى القبائل المجاورة لها.

وأول من سن السفارة في الإسلام الرسول محمد عندما بعث سفراءه ليحملوا رسائله إلى أباطرة البلدان القريبة من بلاد العرب وملوكها ليدعوهم إلى الإسلام، فبعث سفراءه إلى كسرى ملك فارس، وهرقل عظيم الروم، والنجاشي ملك الحبشة، والمقوقس حاكم مصر، وكان ذلك أول اتصال للسفارات بين دولة الإسلام والدول الأخرى.

السفير الأموي وجيران الدولة الإسلامية

في العصور الإسلامية التالية، ازدهر هذا الاتصال واتسعت أهدافه ليشمل قضايا الحرب والسلم بين المسلمين وجيرانهم، وأصبح لهذا الاتصال رجاله ومراسمه وقواعده.

ففي عصر بني أمية، أصبحت دمشق عاصمة لدولتهم وأقرب الحواضر الإسلامية إلى الروم، فتنامت بوادر الاتصال بين المسلمين والبيزنطيين، وتعددت السفارات بين دمشق والقسطنطينية. وبحسب الرحيلي، من أشهر هذه السفارات سفارة قام بها سفير يدعى يوحنا أوفده الروم في عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان (40-60هـ/ 660-679م) للمفاوضة بشأن محاصرة المسلمين لعاصمتهم القسطنطينية، واشتهر هذا السفير بلباقته وحكمته واستطاع إنهاء ذلك الحصار، ولم يخف عند عودته إعجابه بالبلاط الأموي وحنكة رجاله.

وبعث الخليفة عبدالملك بن مراون (65-86هـ/ 685-705م) عامر بن شراحيل الشعبي في سفارته إلى الإمبراطور جستنيان الثاني (66-76هـ/ 685-695م)، وأثنى الإمبراطور في رده على الخليفة على لباقة سفيره الشعبي وحذقه.

وأرسل الخليفة عمرو بن العزيز (99-101هـ/ 710-720م) سفارة إلى القسطنطينية، وشاهد رجالها مدى تأثر الإمبراطور ليو الثالث (99-124هـ/ 717-741م) عندما بلغه خبر وفاة الخليفة، ولعله قد بلغه شيء عن شخصية عمر بن العزيز ومكانته بين المسلمين، كما أنه قد يكون رغب في مجاملة مبعوثي الخليفة الذين كانوا في هذا الوقت في القسطنطينية، ذكر الرحيلي.

سلطات واسعة للسفير العباسي

لما قامت الدولة العباسية، ازدادت الصلات الدبلوماسية والسفارات بين العرب والأمم المجاورة، وصارت أكثر قوة، وارتفع شأن السفراء وكثر توافدهم، فأرسل الخليفة المنصور (136-158هـ/ 751-773م) إلى ملك الروم، وأرسل الروم والفرنجة سفراء إلى الخليفين المنصور والمهدي، بحسب ما ذكرت بتول عباس فاضل في دراستها «السفارة في الإسلام في العصر العباسي».

وعندما جاء الخليفة هارون الرشيد (170-193هـ/ 786-808م) إلى الحكم ترددت السفارات بينه وبين الإمبراطور الفرنجي شارلمان، كما تم إرسال السفراء إلى الروم للقيام بأمر الفدية والمهادنة، وأُرسلت الرسل إلى بلاد البلغار.

وكان السفير يمثل الخليفة، ويتكلم باسمه، ويفاوض عنه، ويوقع المعاهدات والعقود نيابة عنه، لذلك ينبغي ألا يرسل أي شخص ما لم يكن ثمة مهمة، وألا يكون إرساله من دون أمر.

وبحسب «فاضل»، كان السفراء في الدول العربية الإسلامية يُوفدون بمهمة رسمية، وينتهي عملهم بانتهاء المهمة الموفدين إليها، كعقد معاهدة، أو إجراء فداء، أو حل مشكلة لتحقيق الأهداف والغايات، وكانوا ذا صفة دبلوماسية في أعمالهم.

وكانوا أيضًا موظفين رسميين تُدفع لهم رواتب وتنفق عليهم النفقات، وكانت الدولة تلبسهم ملابس خاصة كزي رسمي لها، إذ كان الرسل إذا أُرسلوا برسالة يرتدون السواد، ففي زمن الخليفة المتوكل (232-247هـ/ 846-861م) بعث سفيرًا يدعى نصر بن الأزهر إلى القسطنطينية إجابة لطلب الامبراطور ميخائيل بن تيوفيل للاتفاق على إجراء فداء للأسرى، وكان السفير متشحًا بالملابس السوداء، الذي كان يرمز للعباسيين، بحسب الباحثة.

وكانت الدولة تخصص لهم أيضًا المكافآت النقدية، لاهتمامهم بنقل ما يقع من أحداث وأخبار في أي مكان يذهبون إليه. وعند الانتهاء من مهامهم المكلفين بها يعودون إلى بلادهم، إذ لم تكن الإقامة الدائمة في الدولة التي أوفدوا إليها موجودة آنذاك.

وتذكر «فاضل»، أن السفير كان يتخذ القرارات المهمة ليرسلها إلى حكومته، وذلك لابتعاده عنها لقلة المواصلات وبعد المسافات، فالسفير كان يُمنح التعليمات الضرورية اللازمة والسلطات الواسعة المفتوحة ليتمكن من أداء واجبه.

هيئة السفير وثقافته

ولم يكن اختيار السفير يتم بشكل عشوائي، إذ كان المسلمون يتقصون في اختيار رسلهم، ويمعنون في حسن مظهرهم من وسامة الوجه وجمال المظهر وترتيب الهيئة، لذا لم يكن مقبولًا أن يكون السفير دميم الصورة، أو مفرطًا في الطول أو القصر، أو فاقدًا لأحد أعضاء جسمه، أو مُهملًا لهيئته ولهندامه، ذكر الرحيلي في كتابه المذكور آنفًا.

واشترط في السفير أن يكون جيد اللسان، فصيح البيان، بليغ العبارة، ذا مستوى ثقافي عالٍ، يتصرف بحنكة ودراية حسب الموقف، فلم يكن مقبولًا أن يكون ضعيف الرأي، مترددًا حينًا، ومتهورًا أحيانًا، لا يحسن الإجابة، كما كانوا يراعون في السفير مكانة نسبه.

وكان السفراء المسلمون الذين ذهبوا إلى الدولة البيزنطية ممن توافرت فيهم هذه الصفات، وأبرزهم السفير العباسي أبو بكر الباقلاني أحد علماء بغداد وقضاتها، وهو الذي أرسله عضد الدولة البويهي سفيرًا له إلى الإمبراطور البيزنطي باسيليوس الثاني، وقد جمعوا له عددًا من رجال الدين النصارى، وعلى رأسهم بطريرك القسطنطينية نيقولا الثاني لمناظرته في مجلس الإمبراطور حول عدة قضايا دينية جدلية.

أوراق اعتماد السفير

خلال رحلته، كان السفير المسلم يحمل معه ما يسمى «أوراق الطريق والاعتماد»، للتعريف به وتسهيل مهمته وتيسير تنقلاته، بدءًا من انطلاقه من عاصمة دولته، أو أي مدينة أخرى يستقر فيها الحاكم الذي بعثه، ومرورًا بنقاط الحدود بين دولته والدولة الموفد لها، ثم دخول عاصمتها وعودته إلى بلاده، بحسب الرحيلي.

وتصدر هذه الأوراق من ديوان الرسائل، وكانت تُعتمد من الخليفة أو الأمير ويوضع عليها ختمه، وتتضمن تعريفًا بالسفير والغرض من مقدمه، وطلب تمكينه واعتماده في أقواله وأفعاله، وكذلك إركابه على خيل البريد لسرعتها وانتظام أوقاتها آنذاك، مما يكفل له أداء مهمته في أسرع وقت وعدم تعطيله أو تاخيره، والسماح لمرافقه أو مرافقيه بمصاحبته، وإعفاء ما يحمله من هدايا ونحوها من المكوس.

بروتوكولات استقبال السفراء

يذكر الدكتور إبراهيم أحمد العدوي، في كتابه «الإمبراطورية البيزنطية والدولة الإسلامية»، أن صاحب ديوان الإنشاء كان يزود السفير بتعليماته، ويلقنه ما يجب عليه مراعاته أثناء زيارته للبلد المتوجه إليها، وكل ذلك وفق قواعد مقررة ونظم مرعية لاستقبال السفراء.

وكانت أهم السفارات المنطلقة من الدولة العباسية تتجه إلى الإمبراطورية البيزنطية. وبحسب العدوي، لم يكن للدولتين ممثلون دائمون أو دور سفارات في الخارج على نحو ما ما هو عروف في العصر الحديث، وإنما أوفدت الدولتان عمالًا مخصوصين يؤدون مهمة السفراء عندما تقتضي الظروف، ويُختارون من الضليعين في اللغتين اليونانية والعربية، وكانوا يضعون تقارير تُحفظ في ديوان الإنشاء، وعلى هديها تحدد الدولة سياستها الخارجية.

والعادة المتبعة في هذه السفارات، سواء الإسلامية أو البيزنطية، أن تخرج على رأس قوافل محملة بهدايا ثمينة ومجوهرات لولي البلاد وبعض كبار رجال دولته. وحالما يصل السفير إلى العاصمة، سواء بغداد أو القسطنطينية، يُلقن آداب مقابلة ولي البلاد وأساليب التحية التقليدية، ويُحدد له يوم للتشرف بمقابلته.

وعندما يحين وقت المقابلة يجلس الخليفة أو الامبراطور في أبهى حلة في قاعة الاحتفالات مستقبلًا السفير، والذي يُخصص له غالبًا مكان ممتاز عن سائر سفراء الوفود الأخرى.

ويُوضع للسفير برنامج خاص يقف به على مظاهر العظمة والأبهة في الدولة، فأحيانًا يقام له عرض عسكري شامل تعرض فيه الدولة قوتها الحربية، أو يقوم السفير بمشاهدة معالم العاصمة ووسائل الترفيه فيها، ويظل طوال إقامته ضيفًا على البلاط، ذكر العدوي.

ومن أمثلة البرامج التي أعدتها الدولة الإسلامية لسفراء بيزنطة ما حدث في سنة 305هـ/ 917م، حين استقبل الخليفة المقتدر في قصره سفير الإمبراطور قسطنطين السابع، حيث أمر الخليفة بعرض الجند على جانبي الطريق الذي يسير فيه السفير، وبلغ عدد من اشترك في هذا العرض نحو مائة وستين ألف فارس.

ثم أخذ السفير يطوف بالقصر، ويشاهد ما به من خزائن الثياب والسلاح، واستعرض كذلك دور الوحوش التي كان من بينها دار فيها أربعة فيلة مُزّينة، ودار أخرى بها مائة سبع، وانتهى السفير إلى دار يقال لها «دار الشجرة»، وأعجبته أكثر من غيرها من المشاهدات.

وكان في هذه الدار شجرة من الفضة وزنها خمسمائة ألف درهم، وتقوم وسط بركة مُدورة صافية الماء، وللشجرة ثمانية عشر غصنًا، لكل غصن أهداب كثيرة عليها طيور وعصافير من كل نوع، مُذّهبة ومفضضة، وأكثر قضبان الشجرة فضة، وبعضها ذهب، وهي تتمايل في أوقات معينة لها، وللشجرة ورق مختلف الألوان يتحرك كما تحرك الريح ورق الشجر.

وعندما حان ميعاد المقابلة، دخل السفير على الخليفة الذي كان جالسًا على سرير في قصر «التاج»، لابسًا ثيابًا مطرزة بالذهب، وحوله عقود من الأحجار الكريمة، وبعد أن انتهت المقابلة خرج السفير إلى دار الضيافة بالقرب من القصر.

أما الدولة البيزنطية فكانت تعهد إلى بعض موظفيها باصطحاب السفير لرؤية كنيسة أيا صوفيا، وقناطر المياه والأديرة القائمة حول القسطنطينية، والحفلات الرياضية التي كانت تقام في الملعب.

ويذكر العدوي، أن مظهر السفراء المسلمين كان ينم عن اعتداد بالنفس، وحرص على عدم غض الطرف عن أي مظهر يُحتمل أن يحط من قدرهم أو من شأن دولتهم. ففي سنة 246هـ/ 860م بعث الخليفة المتوكل سفيره نصر بن الأزهر إلى القسطنطينية إجابة لطب الإمبراطور ميخائيل الثالث للاتفاق على فداء بين الأسرى، وحين وصل السفير المسلم إلى البلاط البيزنطي كان متشحًا بالملابس السوداء، وعلى رأسه القلنسوة، اللباس الرسمي للعباسيين، ومتمنطقًا سيفًا وخنجرًا.

وأبى القائم بأمور الإمبراطور (أو وزير الخارجية)، وكان إذ ذاك «بتروناس» عم الإمبراطور، أن يسمح للسفير بالدخول قاعة الاستقبالات على هذه الهيئة، وأبدى اعتراضه بصفة خاصة على الملابس السوداء وعلى السيف، إلا أن النخوة أو الحمية دبت في نفس السفير الإسلامي وغضب وهم راجعًا، فاضطر رجال الدولة البيزنطية إلى ملاطفته حتى عاد إلى البلاط ودخل على الإمبراطور وقدم له الهدايا، واتفق الطرفان على قواعد تبادل الأسرى.

سفراء مسلمون إلى الصين

وحظيت الصين بعدد كبير من السفارات الإسلامية في العهد الأموي، منها تلك التي أرسلها الخليفة سليمان بن عبدالملك (96هـ-99هـ/ 714-717م) إلى الإمبراطور الصيني بوانغ جونغ، وهي تحمل هدايا تحتوي على عباءات مطرزة بخيوط الذهب والعقيق ورشاشات العطور، وهدايا أخرى نفيسة، وأكرم الإمبراطور السفير العربي وأنعم عليه برتبة «فارس».

ويذكر الدكتور قصي أسعد، في كتابه «السفارات الإسلامية في الصين حتى الغزو المغولي سنة 656هـ/ 1258م»، أن الخليفة ربما أراد من سفارته هذه استرضاء الإمبراطور الصيني والتحالف معه ضد خصومه من القادة فيما وراء النهر وخراسان.

وفي عهد خلافة هشام بن عبدالملك (105-125هـ/ 724-743م)، أُرسلت سفارة برئاسة سليمان بن أبي الساري، الذي عمل في جيش القائد سعيد بن عمر الحرشي في مدينة كاشغر على حدود بلاد الصين، ومعه ثلاثة عشر رجلًا من العرب. ويبدو أن الغرض منها كان كسب صداقة الإمبراطور الصيني، ليوقف مساعداته للأتراك الذين يعيقون تقدم العرب المسلمين في فتوحاتهم في آسيا الصغرى، بحسب أسعد.

وفي العصر العباسي، نشطت العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين العربية الإسلامية والصينية، ما ترتب عليه تعدد السفارات بين البلدين. ويسجل تاريخ الصين خمس عشرة سفارة خلال نصف قرن (132هـ- 184هـ/ 750-800م)، أكثرها جاءت إلى الصين لزيارة ودية أو لتقديم هدايا، ما وطّد هيبة الخلافة العباسية في الصين، لا سيما في ظل المعونة العسكرية التي قدمتها الخلافة العباسية إلى أسرة «تانغ» الحاكمة في عهد الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور (136-158هـ/ 754-755م)، ذلك أن الأمير الصيني «سوجونغ» استعان بالمسلمين للقضاء على ثورة داخلية عصفت بحكم أبيه الإمبراطور بونغ جونغ، وبالفعل أدى تدخل الجيش العباسي إلى تثبيت سوجونغ على عرش الصين.