لا يدور حديث حول المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي إلا وتبرز سيرة الأنفاق. كما تُعتبر الأنفاق هي المبرر الإسرائيلي لاستخدام قنابل ذات أوزان عالية وقدرات تدميرية هائلة. والأهم أن إسرائيل أعلنت أنها تستعين بالخبرات الأمريكية لمجابهة شبكة أنفاق حماس، أو مترو غزة كما تسميه وسائل الإعلام الغربية.

تلك الشبكة الضخمة التي أصابت جنود الاحتلال الإسرائيلي بالهوس والارتباك في معاركهم، حين يفاجئهم الأشباح من تحت الأرض ثم يختفون في لمح البصر بعد استهداف ما يريدون من آليات أو قوات. كما تسخر الأنفاق من جدوى التكنولوجيا العسكرية المتطورة، فالمدفعية والهاون والقنابل الهائلة لا يبدو أنها وصلت بعد إلى حد تدمير شبكة الأنفاق وإعاقة حركة المقاومة من خلالها.

صرّح إسماعيل هنية، في تصريح قديم بتاريخ 29 يناير/ كانون الثاني عام 2016، أن الأنفاق التي شيدتها حماس تفوق في العدد والقوة عدد الأنفاق التي حُفرت في فيتنام. يشير هنيّة بذلك إلى حقيقة تاريخية بأن الأنفاق ليست اختراعًا فلسطينيًا، ويخبرنا كذلك أن القوى العظمى عانت من الأنفاق في حروبها، وعلى رأس تلك القوى التي حوّلت الأنفاق احتلالها لكابوس دموي هي الولايات المتحدة الأمريكية.

ففي سبيل محاربة القوات الأمريكية والفيتنامية الجنوبية قامت قوات المقاومة الفيتنامية، الفيت كونغ، بحفر كيلومترات عديدة من الأنفاق. ليعيش الأمريكيون شهورًا من الرعب قبل اكتشاف شبكة الأنفاق هذه. إذ كانوا يسمعون طلقات رصاص في معسكراتهم المحاطة بتأمين شديد، ثم يفاجؤون صباحًا بجثث العديد من ضباطهم تم قتلهم ليلًا. كانت القوات الأمريكية ترى النار تخرج من فوّهات البنادق دون أن تدري من أين أتت حاملات هذه البنادق. حتى خدمتهم الصدفة بعد شهور من تجريف الغابات وحرقها، باكتشاف أول فتحة لنفق.

امتدت شبكة الأنفاق تحت منطقة كو تشاي، في شمال غرب سايجون الحدودية مع جنوب فيتنام. بدأت الأنفاق فعليًا تحت غابات فيتنام الجنوبية، في أواخر الأربعينيّات. كانت تلك حقبة حرب الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي. نظرًا لشُح الإمكانات، ومخافة الرصد، كان الحفر يتم بأبسط الطرق البدائية، الحفر اليدوي. ولذلك أيضًا كانت تقدم الحفر بطيئًا، ولمسافات قصيرة.

حين دخلت الستينيّات، وأتت معها الولايات المتحدة برغبتها في كبح الشيوعية في شمال فيتنام، عادت قوات الفيت كونغ للأنفاق وبدأت في توسيعها، وإضافة أمتار إضافية تباعًا. تلك الأمتار البسيطة تراكمت حتى صارت قرابة 250 كيلو مترًا من الأنفاق المتشابكة. وأصبح بمقدور المقاتل أن يمشي من قلب سايجون إلى أقصى نقطة على الحدود الكمبودية.

 تطورت تلك الأنفاق بمرور الوقت حتى صارت الوسيلة الرئيسية لنقل القوات، والإمدادات اللوجيستية. كما كانت نقطة انطلاق المقاومين، الذين يباغتون قوات العدو المتقدمة، ثم يختفون في لمح البصر. كما كان الجنود يخرجون منها لتفخيخ مناطق وجود القوات الأمريكية، أو مناطق يحتمل وصول القوات إليها.

ولضمان عدم تداخل الأنشطة داخل الأنفاق، أو أن تعيق إحداها الأخرى، تم تقسيم الأنفاق إلى ثلاثة مستويات. المستوى الأول مخصص للمعيشة، والثاني مخصص للاختباء، والثالث لاستهداف العدو والاشتباك معه. وبالمقارنة مع تقنيّات وقدرات القنابل في تلك الحقبة كانت الأنفاق مكانًا آمنًا وحصينًا من القصف الجوي الأمريكي، الذي اعتمدت عليه الولايات المتحدة بشكل أساسي في حرب فيتنام.

ومع طول الإقامة في تلك الأنفاق بدأ الفيتناميون في زيادة مرافق الأنفاق تدريجيًا. فمع عودة الجند مصابين وحاجتهم للإسعافات، تراكمت داخل الأنفاق مناطق مخصصة لعلاج الجرحى صارت مع الوقت أشبه بالمستشفيات. كذلك حين قامت القوات الأمريكية بتسميم آبار المياه الموجودة على سطح الأرض، وجد الفيتناميون أنفسهم مضطرين لحفر عدد من الآبار في شبكة أنفاقهم.

وجود السلاح يستدعي وجود آلية ردعه، ووجود الأنفاق كان صداعًا أمريكيًا فأرادت أن تتخلص منه بكل السبل. كانت أفضل الحيل التي وصل لها الأمريكيون هي حيلة فئران الأنفاق. فقد اختارت عددًا من الجنود، أبرز ما بحثت عنه فيهم هو أن يكونوا قصار القامة. بعد تدريبات مكثفة كانت تُدخلهم في شبكات الأنفاق التي يكتشفونها. يقوم هؤلاء الجنود باستكشاف الأنفاق، ومعرفة اتجاهاتها. والأهم هو استكشاف عدد وعتاد الجنود الفيتناميين من آثار معاشهم وحركتهم ومخلفاتهم التي تركوها في الأنفاق.

كانت تلك الطريقة بطيئة، وكانت الفئران الأمريكية تنزل بإرادتها لمصايد فيتنامية محكمة. فعادت الولايات المتحدة إلى الحل الذي يعرفه المُحتل دائمًا، القصف الجوي بلا رحمة ولا توقف. وحلّقت قاذفات القنابل الأمريكية من طراز بي- 52، وألقت كمية كبيرة من المتفجرات في مناطق متفرقة. ثم أتبعتها بغزو ضخم قوامه 8000 جندي أمريكي. لكن لم يسفر الغزو عن نتائج مرضية، أو متناسبة مع كمية التخطيط والمتفجرات والقوات المستخدمة.

الهجوم السابق كان في يناير/ كانون الثاني عام 1966. توقعت الولايات المتحدة أن يحميها هذا الهجوم الكاسح من هجمات الفيت كونغ، خصوصًا هجماتهم عبر الأنفاق، لكن لم يحدث. عاشت الولايات المتحدة عامًا إضافيًا من الجحيم الفيتنامي. ثم قررت بعده أن تُطلق عملية أكبر، عملية سيدار فولز.

في تلك العملية هاجمت القوات الأمريكية شمال سايجون، قريبًا من حدود كمبوديا، لوجود تقارير تتحدث عن وجود شبكة للأنفاق هناك. كالعادة سبق الهجوم البري تمهيد نيراني كثيف من الجو. كما قامت القوات البرية بتدمير الزراعات والغابات، وطردت السكان. كان قوام القوات المهاجمة يقارب الـ 30 ألف جندي.

لم تستطع القوات الفيتنامية الصمود لكثافة الهجوم، وتعدد محاوره. لكن لم يكد العام الجديد يبدأ حتى عادت قوات الفيت كونغ مرة أخرى لمواقعها. وهندست أنفاقها مرة أخرى كي تكون منطلق هجومهم الكبير، هجوم تيت. كان الهجوم سببًا في تكبد القوات الأمريكية خسائر ضخمة، لدرجة جعلت شعبية ليندون جونسون، الرئيس الأمريكي آنذاك، تتراجع إلى أدنى مستوياتها فقرر عدم الترشح للرئاسة مرة أخرى.

فشلت الولايات المتحدة أمام اختبار الأنفاق في فيتنام منذ عقود، ولم تواجهه مرة أخرى في العراق وأفغانستان. لكنها تعود إليه مرة أخرى في غزة، برفقة القوات الإسرائيلية ظنًا أن الأمر سيكون مختلفًا هذه المرة. لكن هذا الاختلاف قد لا يكون في صالح الجانب الإسرائيلي أو الأمريكي، فضيق مساحة غزة يعني المزيد من التعقيد والتشابك في خريطة الأنفاق. وتربة غزة الساحلية ستجعل القتال في تلك الأنفاق خانقًا، عكس بيئة فيتنام.

في النهاية انتهت الحرب، وانتصرت المقاومة، وخرج المُحتل مهزومًا، وبقيت الأنفاق شاهدةً على إرادة التحرر الخارقة التي دفعت المقاومة للحفر في الصخور بأيادٍ عارية، وعلى ضعف العدو مهما كان متدرعًا بالطائرات وقاذفات القنابل، فالحرب هي الحرب البرية، ولا أحد يفهم الأرض قدر أهلها، والأرض تلين لمن نبتوا منها، وتستحيل مقبرةً لمن يريدون اقتلاعها من أبنائها.