في مساء الـ27 من ديسمبر/كانون الأول الماضي، كان العاملون بمطعم «أونكل جين»، القابع ببلدة بريدا جنوب هولندا، ينتظرون أمرًا ما. رن الهاتف، فهرع الجميع: إنه الاتصال المنتظر قادمًا من إنجلترا. أجاب السيد «جاك ليبس»، مالك المطعم، ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة كبيرة. ظل صامتا حتى نطق: «كم نحن سعداء وفخورون به!»، ثم أغلق الهاتف.استدار السيد جاك، ليجد أن عمال المطعم يتجمعون حوله. أخبرهم أن كل شيء على ما يرام، سيتم الإعلان عن الصفقة بعد قليل، فقط عليكم متابعة تغريدات تويتر كي تفهموا الأمر برمته. انصرف العاملون بحماس، وعاد السيد ليبس لكرسيه وهو يستعيد ذكريات مر عليها عشرة أعوام. هذا الهاتف لم يكن لمستثمر يسعى لشراء اسم المطعم الهولندي، وتلك الصفقة المقصودة ليست فرعًا جديدًا بالعاصمة الإنجليزية لندن. الأمر يتعلق بكرة القدم، وتحديدًا بخط دفاع ليفربول الذي سيعلن في نفس الليلة عن انضمام الهولندي «فيرجيل فان ديك» لصفوفه! ماذا إذن قد يجمع المدافع الهولندي بعمال ذلك المطعم؟ هل يشجعون جميعًا ليفربول لدرجة متابعة أخباره بذلك الشغف؟ أم أن لفيرجيل قصة مختلفة وفريدة مع كرة القدم شهدت عليها جدران ذلك المكان؟


صحون وصابون

أعلنت صفحة ليفربول الرسمية عن انضمام فان ديك بشكل جديد. إذ اختارت أن يكون الإعلان مرفوقًا بصورة له وهو يحمل قميص ليفربول بينما يقف بجوار شجرة الكريسماس. بدا الأمر من أول وهلة وكأنه هدية عيد الميلاد التي تقدمها إدارة الريدز للمدرب يورجن كلوب، ولجمهور النادي الذي عاش أسابيع كابوسية بسبب الأداء الكارثي للثنائي لوفرين، وماتيب. لذلك حصدت الصورة عشرات الآلاف من علامات الإعجاب وتعليقات الجمهور كما لم يحصد أي منشور آخر على الصفحة.

قبل عشر سنوات من تلك الصورة، كان فيرجيل يقف إلى جوار شجرة كريسماس أخرى، لكن هذه المرة ليس في مقر ليفربول وسط الصحفيين والمصورين، بل في مطعم «أونكل جين»، حيث كان يعمل ابن الـ16 عامًا.كان حينئذ مراهقًا مغمورًا. نشأ في أسرة بسيطة لأب هولندي ولأم من أصول سورينامية. ولم يحب شيئًا بقدر ما عشق كرة القدم، فلم يترك أي تجمع للعب الكرة في بريدا إلا وشارك فيه، وككل الأطفال الصغار -طبعًا- كان يفضل اللعب كمهاجم على تأدية الأدوار الدفاعية. لم يكن يعلم أنه سيصبح بعد سنوات معدودة المدافع الأغلى في تاريخ اللعبة. أحب فان ديك «رونالدينيو» كثيرًا، ربما يفسر ذلك سر قصّة شعره الحالية، وقد ارتكزت طموحات المراهق الصغير في أن يصبح يومًا لاعبًا محترفًا ويُمتع المشاهدين بأدائه، لكن ظروف الأسرة كانت أقوى من طموحاته، فلم يكن ذلك الولد المدلل الذي وُلد وفي فمه ملعقة من ذهب. انضم لفريق ناشئين ناديه الأول «فيليم»، ولم يوقع النادي معه عقدًا، ولم يحصل فيرجيل على راتب أو دخل من ركل الكرة. لذلك اضطر الصغير للبحث عن عمل إضافي يتربح منه ليسد احتياجاته، ومن هنا وجد لنفسه متسعا في مطعم «أونكل جين» وعمل بغسل الأطباق. يحكي المالك جاك ليبس لصحيفة «ميرور» أن فيرجيل كان ولدًا مجتهدًا. يأتي للعمل يومين أسبوعيًا، ويعمل في كل مرة ما يزيد على خمس ساعات. لذلك عرض عليه أن يتخلى عن بعض تدريبات الكرة في سبيل العمل ساعات أطول وبالتالي الحصول على راتب أعلى. لكنه كان يرفض رفضًا قاطعًا. كان يصر دومًا أنه يعمل هنا في المطعم بشكل مؤقت، لكن وظيفته الأساسية هناك على العشب الأخضر وتحت أشعة الشمس، وليس بين الصحون والصابون.


سيارة رولز رويس

لم يستغرق الأمر كثيرًا، وانضم لنادي «جرونينجن» المحلي. وكان النادي الذي قدم للعالم «لويس سواريز»، و«آريين روبين». يبتعد عن منزله مسافة 200 ميل كاملة، لذلك اضطر فان ديك لتوديع زملائه في المطعم، وبدأ الفصل الاحترافي الأول من مسيرته مع كرة القدم.في جرونينجن، تحوّل مركزه من المهاجم إلى قلب الدفاع بإيعاز من مدربيه. هؤلاء المدربون الذين أعجبوا بإمكانياته البدنية وشخصيته القوية التي لم يكن لناشئ صغير أن يحظي بها بسهولة. منحوه الثقة، فسجّل ظهوره الأول بالدوري الهولندي قبل أن يكمل عامه العشرين، ثم تم تصعيده بالموسم التالي ليصبح لاعبًا دائمًا بالفريق الأول. يضحك فان ديك في حواره مع «الديلي ميل» عندما يتذكر غضبه بعدما تم تعديل مركزه. كان يظن أنه سيجيد بشكل أفضل في الهجوم عن الدفاع، لكنه لم يكن يعلم حينها أن شخصًا ما في مدرجات ملعب جرونينجن يراقبه بإعجاب، ويرى أنه سيكون مستقبل الدفاع في العالم! هذا الشخص ليس إلا «نيل لينون» مدرب نادي سيلتيك الأسكتلندي الذي سافر خصيصًا لمشاهدته على الطبيعة. يقول لينون إنه محظوظ للغاية ليكون أول من تابعه كمدافع، ولو تأخر قليلًا لربما انتهى الحال بالمدافع في صفوف أياكس أو فيينورد. كان فيرجيل، كما يصفه لينون، أشبه بسيارة «رولز رويس» رائعة، متعددة الإمكانيات، ومن السهل الحصول عليها. لذلك فقد دفع إدارة النادي الأسكتلندي لفتح مفاوضات سريعة مع ناديه لخطف الموهبة الواعدة من البلد الذي لا تنضب مواهبه. بالفعل انتقل الهولندي لسيلتيك في صفقة جاوزت الـ2 مليون يورو. وكان لينون يعلم يقينًا أنه لن يستمر في أسكتلندا وقتًا طويلًا قبل الرحيل لأحد الدوريات الخمسة الكبرى، لذلك في اليوم الأول من التدريبات أخبره:«أريدك أن تتعلم وتستمتع هنا قدر المستطاع، أنا أدرك أنك سترحل قريبًا لمنافسات أقوى».في سيلتيك، تشكلت شخصيته بشكل أقوى. أصبح بطلًا للدوري، وعرف أجواء المنافسات الأوروبية، وواجه أندية كبيرة كميلان وبرشلونة. تحققت نبوءة مكتشفه، وبعد عامين فقط من انتقاله لأسكتلندا، طار لإنجلترا ليلحق بكتيبة ساوثهامبتون.

https://www.youtube.com/watch?v=yiR73RBaDu8


فيرجيل «ايفيكت»

يشتهر ساوثهامبتون بقدرته على رعاية المواهب. لذا فإنه لم يحتج أكثر من موسمين فقط من مراكمة الخبرة هناك حتى يتحوّل اسمه من خانة المدافع الواعد للمدافع الصلب الذي يعتمد عليه، ثم للمدافع الكبير الذي يتنافس الجميع للحصول على خدماته.فوق أرضية «سانت ماري»، بات فيرجيل أكثر قدرة على قراءة الملعب، ووعي بتكتيك اللعبة، وجرأة في مواجهة الخصوم، وتوجيهًا لزملائه. يكفيك أن تعرف أنه أصبح قائدًا فعليًا للفريق وهو في الخامسة والعشرين. وفي صيف 2017، كان أهم شخص في إنجلترا بعد الملكة. إذ تنازعت أندية ليفربول، مانشستر سيتي، وتشيلسي على ضمه، قبل أن يعلن ساوثهامبتون أنه ليس للبيع، ثم يتوصل لصيغة اتفاق مع الريدز في نفس تلك الليلة التي رن فيها هاتف مطعم «أونكل جين». وما بين أغسطس/آب وديسمبر/كانون الأول، تجرع جمهور الأنفيلد مرارة الأهداف الكوميدية التي مزقت شباك فريقه، ليتساءل عندئذ الجميع: لماذا يصر كلوب على ضم فيرجيل كأنه آخر مدافع بالعالم؟ ألم يكن من الأولى أن يتعاقد مع مدافع آخر بعدما تعقدت المفاوضات مع ساوثهامبتون؟ لماذا الهولندي بالتحديد؟الإجابة ببساطة لأنه يدافع كما يحب كلوب، ويلائم نمط لعبه للغاية. يورجن كان يبحث عن قلب دفاع يجيد أمرين: الأول، هو اللعب في نظام الضغط العالي الذي يتطلب كفاءة عالية في عرقلة الهجمات المرتدة، والسرعة في ملاحقة الخصوم بالمساحات الشاسعة، والفوز بالمواجهات الثنائية، والثاني، هو إجادة الألعاب الهوائية التي باتت صداعًا يؤرق الجميع. وبالنظر لإحصائيات فيرجيل، نكتشف أن كلوب لم يكن ليحلم بمدافع أفضل. لنبدأ بالكرات الهوائية مثلًا، لنجد أن الهولندي يفوز بمتوسط 5.6 كرات بالمباراة الواحدة، وهي النسبة الأعلي بين مدافعي البريمرليج بمن فيهم بالطبع مدافعو ليفربول. والآن ننتقل للعرقلات الناجحة التي يتميز بها أيضًا فيرجيل بنسبة 73%. أضف لذلك لمسته الدقيقة التي تعبر عنها تمريراته الصحيحة التي تصل لـ90% من مجمل ما يمرر، هذه النسبة ساهمت بفاعلية في بناء اللعب والخروج السليم بالكرة من مناطق الدفاع. كل تلك المقومات أضافت لخط ليفربول الخلفي تماسكًا وصلابة لم تكن موجودة من قبل، فمنذ شارك فيرجيل تحوّلت نسبة الأهداف التي يستقبلها مرمي الفريق من 1.2 هدفًا بالمباراة الواحدة بالدوري لـ 0.7 هدف، وحقق الفريق شباك نظيفة في عشر مواجهات، بل ولم يستقبل هدفًا واحدًا في ملعبه من فبراير الماضي وحتى منتصف سبتمبر. في سبيل كل ذلك، لم تبخل إدارة الريدز في دفع 75 مليون يورو كاملة دخلت خزينة ساوثهامبتون ليكون بذلك – حينها – المدافع الأغلى بتاريخ كرة القدم.جدير أيضًا بالذكر، أن فيرجيل نجح أن يفوز في وقت وجيز للغاية بثقة ومحبة زملائه. فقبل أن يتم شهره العاشر في ليفربول، تم انتخابه القائد الثالث للفريق بعد الثنائي الإنجليزي «هيندرسون»، و«ميلنر». وصار مثالًا يحتذى به في أعين اللاعبين الشبان، وفي مقدمتهم بالطبع زميله في محور الدفاع «جو جوميز».

قبل عشرة أعوام فقط، كان أغلب من حوله لا يصدقون أنه سيصبح يومًا لاعبًا محترفًا، وينصحونه بالاستمرار في عمله بالمطبخ، وهو اليوم قائدًا لمنتخب بلاده قبل أن يكون قائدًا لأعرق الأندية الإنجليزية، وأغلى وربما أفضل مدافع في العالم.