مجموعة من أعضاء البرلمان لا يكترثون بما يُلقى أمامهم، يسألون أسئلة لا يهتمون بإجابتها. بداخلهم يقين أن الرجل الواقف أمامهم، والساعي للحصول على موافقتهم لتشكيل الحكومة، لن يصمد هو ولا حكومته إلا بضعة أشهر على أكثر التقديرات رحابة. منح الدوما موافقته غير مدرك أن الرجل الذي يُعتبر خامس رئيس وزراء لروسيا في غضون عام، سيكون هو مُحرك سياسات روسيا لمدة تزيد عن العشرين عامًا منذ لحظة الموافقة عليه عام 1999.

فلاديمير بوتين، ضابط المخابرات السوفييتية والجاسوس السابق، بدأ عمله السياسي كمساعد أناتولي سوبتشاك، عمدة سان بطرسبرج، والذي كان أستاذ بوتين في الجامعة كذلك. ودخل بوتين الكرملين للمرة الأولى عام 1997 مديرًا لوكالة الأمن الفيدرالية، FSB، وهي الوكالة التي حلّت محل الاستخبارات السوفييتية القديمة، كي جي بي، ثم وقف أمام الكرملين طلبًا لرئاسة الوزراء في أغسطس/ آب عام 1999.

لكن بعد بضعة شهور من تولي رئاسة الوزراء يُعلن الرئيس بوريس يلتسن استقالته. بوتين المغمور داخليًا وخارجيًا يتولى السلطة مكان الرئيس، ثم تجري انتخابات شعبية يحصل فيها بوتين على 70% من الأصوات. صعد بوتين للرئاسة وقرر أنه سيكون قيصرًا للكرملين، وأنه سيداوي جرح انهيار الاتحاد السوفييتي، فقد كان الانهيار مأساةً كما وصفها بوتين.

الرجل لم يستخدم الكلام الدبلوماسي كثيرًا، ولم يراوغ فيما يخص سياساته ولا النهج الذي سيستخدمه لتطبيقها. فمنذ خطاب البحث عن موافقة الكرملين عام 1999 وبوتين مُحدد في سياساته الداخلية والخارجية. أما عن الداخل فلا مفر من استعادة الاستقرار المفقود، حتى لو أدى ذلك لقبضة حديدية، أو كان ضريبته هو سحب العديد من الحريات السياسية والمدنية من المواطن الروسي. أما عن الخارج فقد أعلن الرجل أنه سوف يستعيد مكانة روسيا القديمة، وأنه على العالم أن يسمع كلمة روسيا.

بلطجي أم شجاع؟

لإعادة روسيا على الخريطة الدولية، ولإيصال كلمتها للعالم، خاض بوتين العديد من الحروب المباشرة، مثل حرب الشيشان الثانية، وحرب جورجيا 2008، ثم حرب السيطرة على شبه جزيرة القرم عام 2014. كما دخل الرجل في عدة حروب بالوكالة مثل حربه في سوريا. 

وفي كل تلك الحروب لا ينسى بوتين أن يشيد بانتصارات ستالين في الحرب العالمية الثانية. ويساعد الضعف الغربي بوتين في التقدم خطوات إضافية نحو الإمبراطورية الروسية، والأهم أن خطوات بوتين تمنحه صعودًا سياسيًا على الصعيدين المحلي والدولي.

ومع كل انتصار جديد يزداد انبهار أنصار بوتين بأسلوبه، البلطجي، كما تصفه الصحف الأجنبية، أو الشجاع، كما يصفه أتباع بوتين. وهو ما أوضحه المتحدث باسم بوتين ديمتري بيسكوف حين صرّح بأن العالم أصبح في حاجة لقادة ذوي سيادة وحزم، وأن بوتين كان بمثابة نقطة البداية لولادة العديد من القادة الذين يحاولون اللحاق به. وقد حصل بوتين بالفعل على معجبين بتحديه للكياسة في التعامل مع الآخرين، وخروجه عن الدبلوماسية، ولجوئه للعنف في التعامل مع مشاكله.

ما يقوله بيسكوف يمكن ملاحظته بتتبع وجهة النظر العالمية التي باتت أكثر تقبلًا لوجود بوتين حاليًا من الأوقات السابقة. ففي ظهوره الأول عام 2000 كان بوتين شيئًا شاذًا في العالم، حتى وصفته المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل بأنه رجل يحاول تطبيق أساليب القرن التاسع عشر في عصر مختلف. لكن تغيرت النظرة لبوتين حاليًا، فلم يُعد يُنظر له كرجل من الماضي، بل كرجل استطاع جيدًا أن يتنبأ بمستقبل السياسة الدولية، وعرف مبكرًا كيف يمكن الوصول للأهداف.

قبل خمسين عامًا، علمتني شوارع لينينغراد قاعدة مفادها أنه إذا لم يكن من المعركة بد، فعليك أن تسدد الضربة الأولى.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين

حتى وصل الإعجاب به إلى الولايات المتحدة نفسها، فمدح روديو جولياني، عمدة نيويورك السابق ومحامي الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، بوتين بعد ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، قائلًا إنه رجل يصدر القرار ثم ينفذه بسرعة، وأردف أن بوتين هو من يمكن أن تسميه قائدًا حقيقيًا.

قدوة الزعماء

الإعجاب ببوتين لا يقتصر على رجال الصف الثاني في السياسة، بل يصل إلى الزعماء أنفسهم. فيكتور إربان، رئيس وزراء هنجاريا، مدح الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022 قائلًا بأن بوتين قد عرف كيف يُعيد العظمة لبلاده. حتى الرئيس الفلبيني رودريجو دوتيرتي حين سُئل عن الزعيم العالمي الذي يثير إعجابه، أجاب بكلمات واضحة أن بطله المفضل هو بوتين.

 وفي الشرق الأوسط يوجد العديد من القادة المفتونين بشخصية بوتين القوية والحازمة. ولعل ذلك هو ما يضيف بُعدًا مختلفًا لحرب أوكرانيا الدائرة حاليًا، فخروج بوتين منها منتصرًا، يعني مزيدًا من المصداقية لأسلوبه العسكري في التعامل، وأعضاء جدد ينضمون لنادي أصدقائه ومفتونيه.

استطاع بوتين أن يسرق من شعبه الإعجاب بقوته في ذاتها، حتى لو كانت تلك القوة تُستخدم ضدهم. ساعده في ذلك  جليب بافلوفسكي، الذي عينه بوتين من أجل الدعاية لشخص بوتين فحسب. لذلك بدأ بوتين في نشر صوره عاري الصدر، ثم لحقتها صوره وهو يصطاد النمور، أو يركب الخيل. ونجحت تلك السياسة في سلب لب عامة الروس، ورأوا في قوة بوتين الجسدية دليلًا على قدرته على حماية روسيا ككل.

بوتين لا يظهر في صوره عطوفًا كباقي قادة العالم، يلتقطون صورًا مع العجائز، أو هم يحتضنون الأطفال، في إشارة لعطفهم وقدرتهم على احتواء شعبهم. لكن بوتين حدد هدفه، القوة، هذا ما يريده الروس. كما نجحت تلك الحملة في الوصول إلى البيت الأبيض الأمريكي حين صرّح ريتشارد ستينجل، نائب وزير الخارجية في عهد باراك أوباما، أن دونالد ترامب معجب للغاية ببوتين لأنه يراه شديد القوة. ووصف ستينجل هذا الرأي بأنه أكبر نجاح نوعي لحملة دعائية.

فمثلًا 48% من الروس يرغبون أن يبقى بوتين رئيسًا للأبد. وتزداد نسبتهم مع حفاظ بوتين على حياته الخاصة بعيدًا عن الأضواء، فلا تُنشر له فضائح ولا يؤلف أحد من أفراد أسرته كتبًا عنه. والأهم أن أسرته الصغيرة تظهر بمظهر ناجح، فابنته الصغرى، كاترينا، تشغل منصبًا رفيعًا في جامعة موسكو، وترقص الأكروبات. أما ابنته الكبرى، ماريا، فتعمل طبيبة للغدد الصماء.

إعجاب العامة ودعم الخاصة

لا يقتصر الإعجاب بشخص بوتين على الروس أو القادة الآخرين فحسب، بل وصل بوتين ليحل المرتبة التاسعة من ضمن أكثر عشرين رجلًا تقديرًا في العالم لعام 2021. وفي نفس الاستطلاع حصل الرئيس الأمريكي جو بايدن على المرتبة العشرين. المُلفت أيضًا أن بوتين في ذلك الاستطلاع، استطلاع شركة يُو جُف، استطاع أن يتقدم 3 مراكز كاملة عن مركزه في عام 2020. وتتوقع الشركة، حتى بعد حرب أوكرانيا الحالية، أن أسهم بوتين سوف تظل في صعود بالنسبة لغالبية الجماهير.

ومهما يكن الاستطلاع الخارجي، أو الرأي العام العالمي حول بوتين، وحتى لو أثر ذلك في الرأي العام المحلي وسحب نسبةً من أنصار بوتين في الداخل الروسي، فإن بوتين يعرف أولًا كيف يُسكت تلك الأصوات المعارضة. وثانيًا فإنه قد دعم أركان نفوذه عبر العديد من الطرق، ومراكز القوى الداخلية، وعلى رأسهم تقع الأوليجاركية الروس.

الأوليجاركية الروس، أو الأوليغارشية، هم بمثابة صانعي القيصر. وهي التي مهدت له طريق الحكم الصعب، وكل ذلك من خلف الأضواء. نواتهم الأولى كانت مجموعة من الأثرياء ذوي النفوذ، ظهروا جراء انسحاب القطاع العام من العديد من الخدمات، خصوصًا مع اختفاء القوانين التي تنظم علاقة المال بالسياسة. سريعًا ما أصبحت تلك الطبقة بمثابة الدولة العميقة التي تتحكم في مجريات الأمور.

وبسياسات بوتين، اضطر العديد منهم إلى الفرار إلى خارج روسيا، لكن من صمد منهم، واستطاع أن يبني علاقة وثيقة مع القيصر، ازداد ثراؤه زيادة هائلة، وتكونت بينهم وبين بوتين علاقة قوية من النفع المتبادل. لذلك فهم يدعمون بقاء بوتين في السلطة حتى عام 2036 كما يخطط بوتين لنفسه، وبوتين يحميهم من تقلبات الداخل وعقوبات الخارج.