يعيش السودان أيامًا عصيبة من الاشتباكات العنيفة، اشتباكات طرفها الأول الجيش السوداني، بقيادة الفريق عبدالفتاح البرهان، والطرف الثاني هو قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، المعروف بحميدتي، وبما إن الطرف الأول هو الجيش الرسمي للدولة فلم تُثر أي تساؤلات حول الأسلحة التي يمتلكها، عكس ما حدث مع قوات الدعم السريع التي هي في الأصل ميليشيا عسكرية غير منظمة.

جانب من الحديث عن تسليح حميدتي ورجاله لا بد أن يؤدي إلى الحديث حول مجموعة فاجنر شبه العسكرية الروسية، فالعديد من البراهين تشير إلى وجود علاقة طويلة الأمد تربط حميدتي بروسيا عامة، وبفاجنر خاصة، كانت أحدث تلك الأخبار في 15 أبريل/ نيسان الجاري، حيث نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية تقريرًا تقول فيه إن الرجل تحالف مع روسيا وتعاقد مع فاجنر لدعمه بالمعدات العسكرية.

كما أنه من المعلوم أن حميدتي زار روسيا في فبراير/ شباط 2022، في تلك الزيارة أُشيع أنه جرى الاتفاق على أن تقوم فاجنر بتدريب عديد من قيادات وجنود قوات الدعم السريع، في مقابل الاستمرار في الشراكة التي تجمع بين حميدتي وفاجنر في إدارة شركة لتعدين الذهب، وبعد عودته من موسكو تحدث حميدتي عن إمكانية قيام روسيا بإنشاء قاعدة عسكرية على ساحل البحر الأحمر في السودان.

لكن عادت تلك العلاقة إلى الأضواء مرة أخرى بسبب الاضطرابات الجارية في السودان، إحدى وجهات النظر تقول إن روسيا هى المسؤولة عن هذه الاشتباكات من أجل التشويش على عملية تهريب كبرى للذهب من السودان إلى روسيا، ثم تستخدم روسيا تلك الأموال في تمويل حربها في أوكرانيا، خصوصًا أن الحكومة السودانية قامت في الآونة الأخيرة باعتقال العشرات من الروس الذين يعملون لصالح شركة التعدين بسبب شكّها في اشتراكهم في نشاط تهريب الذهب، فربما تريد روسيا وجود حكومة جديدة لا تمانع وجودها.

البشير جلبها للسودان

تصر الحكومة السودانية في أحيان متعددة على نفي وجود فاجنر في السودان من الأساس، على الرغم من أن المجموعة موجودة في السودان منذ عام 2017، كانت تلك البداية بعد اجتماع بين عمر البشير، الرئيس السوداني آنذاك، والرئيس الروسي، فاقترح البشير على بوتين أن تكون السودان بوابة روسيا لإريقيا في مقابل تقديم روسيا مساعدات لنظام البشير، وفي نفس العام نشرت فاجنر قرابة 500 فرد لإخماد انتفاضة ضد البشير، ثم يحصلون على تراخيص التنقيب عن الذهب.

تمكنت فاجنر في تلك الفترة، لكنها ظهرت بقوة عام 2022، إذ اشتكى عمال المناجم من ثلاث هجمات كبرى قامت بها المجموعة في مارس/ آذار، أبريل/ نيسان، ومايو/ أيار، الهجمات أودت بحياة العديد من العمال، وخسارة كميات الذهب المستخرجة، وبعض المعدات المهمة، لكن خرجت الحكومة السودانية لتعيد نفي وجود فاجنر على الأراضي السودانية بالكامل، لكن إقليم دارفور يكذّب هذا النفي، فأنشطة قوات الدعم وفاجنر للتنقيب عن الذهب في مناطق النزوح في دارفور أجبرت النازحين للفرار إلى معسكر طور بزالنجي في وسط دافور.

الملفت أن حميدتي بشخصه يمتلك العديد من مناجم الذهب، أحد هذه المناجم يعتبر البؤرة الأكبر لتجمع رجال فاجنر، تلك المناجم توفر سيلًا لا يتوقف من الذهب المُهرب، فالسودان ثالث بلد في إفريقيا إنتاجًا للذهب، لهذا وثقت فاجنر علاقتها بحميدتي مستغلة تعطش الرجل للسلطة، وقدمت له مساعدات عسكرية، وساعدته في قمع العديد من الحركات الاحتجاجية البسيطة في الفترة المنقضية.

في مقابل ذلك جعل حميدتي السودان معبرًا للسلاح الروسي. ففي الأشهر الثمانية عشرة التي تلت سقوط نظام البشير استوردت شركة ميري جولد للتعدين، التابعة لفاجنر، معدات تعدين وبناء شاحنات عسكرية ومركبات برمائية وطائرتين للنقل، إحدى تلك الطائرات شُوهدت بعد عام في جمهورية إفريقيا الوسطى وهي تحمي رئيس البلاد، حيث حصلت فاجنر على عقد للتنقيب عن الألماس هناك.

حميدتي والبرهان متورطان

لا يتحدث أحد من أطراف الصراع الدائر عن علاقة فاجنر بالآخر، لأنه من الواضح أن الشركة تغير خططها بشكل سريع للغاية، فقد كانت هي الداعم لعمر البشير، التي اقترحت عليه إعدام بعض المتظاهرين في بداية المظاهرات المناهضة لأجل إرهاب باقي المتظاهرين، لكن بعد الإطاحة بالبشير وصلت طائرة عسكرية روسية على متنها العديد من المسؤولين الروس، وعادت لموسكو وعلى متنها العديد من القادة السودانيين، من هؤلاء القادة شقيق حميدتي.

بعد 6 أسابيع من تلك الحادثة شنّت قوات حميدتي هجومها الدموي على المتظاهرين أمام مبنى القيادة العامة، راح ضحيتها قرابة 120 سودانيًا، المُلفت أنه خلال أسبوعين من تلك الحادثة قامت شركة ميري جولد باستيراد 13 طنًا من دروع مكافحة الشغب، بجانب آلاف الهراوات والخوذات الواقية، لكنها أوضحت في الوثائق الرسمية أنها تستورد كوسيط فحسب لصالح شركة أخرى يمتلكها حميدتي شخصيًا.

لم تنس روسيا، أو فاجنر، أهمية حشد الرأي العام لمساندة تلك الفظائع، لهذا شهد السودان حملات قوية لتعميق الانقسامات عبر حسابات وهمية على وسائل التواصل الاجتماعي، أغلق فيسبوك لاحقًا قرابة 180 حسابًا من حسابات تلك اللجان الإلكترونية، روسيا تتعامل مع السودان باعتباره منطقة قياس نبض، فمع بداية الحرب الروسية الأوكرانية، تضاعفت الشبكات الإلكترونية الروسية في السودان لأكثر من 9 أضعاف، لحشد الدعم الشعبي لحربها ضد أوكرانيا.

ربما لهذا السبب لا يتحدث البرهان أيضًا عن فاجنر، فالوثائق تربطه بها، فعندما اشتبهت القوات السودانية أن رحلة متجهة لسوريا كانت تحمل شحنات من الذهب المهرب وأرادوا تفتيشها تدخل لواء سوداني حاملًا رسالة من البرهان تقضي بعدم تفتيش الشحنة، ثم نُقلت الطائرة إلى القسم العسكري من مطار الخرطوم، ثم أكملت طريقها لسوريا بعد ساعتين.

مرونة ليست في صالح السودان

لهذا يمكن القول إن فاجنر بات لها عمق في السودان، يقول وزير البترول والتعدين السابق، عادل إبراهيم، إنه في الفترة الأولى لوزارة عبدالله حمدوك، قامت وزارة التعدين بمراجعة ملف شركة ميري جولد، وجدت الوزارة أن الشركة تحصل على كمية كبيرة من الذهب بينما لا تقوم بأعمال تستحق بها هذه الكمية، لهذا اتفقت الوزارة معها على أن تحصل الدولة على ثلث الذهب المستخرج، وافقت ميري جولد فورًا.

لكن يضيف الوزير أن المعارضة جاءت من داخل جهات عليا داخل الدولة، وأن حكومته مُنعت بشكل مباشر من مراجعة عقود التعدين، أو وضع عقود بديلة، وتم عزل وكيل الوزارة الذي كان مسؤولًا عن مراقبة عمليات تهريب الذهب.

كذلك فإن الشركة قد طلبت أن تكون حراستها مسؤولية فاجنر فحسب، وافقت الحكومة على ذلك آملة أن تُجبر فاجنر على اختيار عناصرها من الشركات النظامية السودانية، لكن فاجنر أصرت أن تختار رجالها من المرتزقة غير النظاميين، وهو الأمر الذي لم يعترض عليه البشير ولا البرهان، ورحب به حميدتي.

الولايات المتحدة الأمريكية لم ترحب بوجود فاجنر في السودان خلال أي مرحلة، واستمرت في إرسال البيانات للحكومات السودانية تطالبها بتجميد أرصدة فاجنر وتقييد نشاطها، لكن دون جدوى، فالرد السوداني الرسمي دائمًا ما كان ينفي وجود مجموعة فاجنر، ويؤكد أن وجودها من عدمه شأن داخلي يرفض تدخل المجتمع الدولي فيه.

لكن يبدو أن فاجنر في الآونة الأخيرة قد اختارت صف حميدتي وقوات الدعم السريع، ربما تتبرأ منه حال هزيمته، وتعلن انحيازها للبرهان، أو أيًا كان الطرف الفائز، لكنها حاليًا تصطف مع حميدتي، دون أن تنسى المجموعة أن هدفها الأسمى هو ذهب السودان، لهذا فيمكنها أن تغيّر ولاءها في أي لحظة بما يضمن لها مصلحتها، لكن وجودها في المطلق لا يضمن مصلحة السودان بأي حال من الأحوال.