قبل خمسة وعشرين عاماً من اليوم، كنتُ أبحث في وثائق وزارة الأوقاف المحفوظة في «قسم الحجج والسجلات»، وهي وثائق خاصة بأوقاف المحسنين والمسارعين بالخيرات خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر للهجرة/التاسع عشر والعشرين للميلاد تقريباً. أما الوثائق الخاصة بما قبل هذين القرنين فمحفوظة في أرشيف آخر بديوان الوزارة العامر في باب اللوق بالقاهرة.

ويومها لم يخطر على بالي أن أبحث عن وقفيات بأسماء أي واحد من العائلة المالكة قبل يوليو/تموز 1952م، ناهيك عن أن أبحث عن وقفيات تكون باسم واحد من الحكام العشرة الذين تتابعوا على حكم مصر من أسرة محمد علي باشا من سنة 1805م إلى سنة 1952م؛ فقد كانت مقررات التاريخ التي تلقيتها وتلقاها أبناء جيلي منذ منتصف الستينيات إلى منتصف السبيعينيات من القرن الماضي قد شحنت ذهني بمشاعر بالغة السلبية تجاه أعضاء هذه الأسرة عموماً، وتجاه الحكَّام منهم خصوصاً، وتجاه آخرهم وهو «الملك فاروق» على وجه التحديد؛ حيث لم تترك تلك المقررات في ذهننا احتمالاً للشك في أن «الملك فاروق» كان فاسداً فساداً لا حدود له، ولا صلاح يُرتجى منه. وبما أن الوقف علامة من علامات الصلاح والتقوى؛ فمن المستبعد أن يكون هذا الملك قد أنشأ وقفاً خيرياً أو أهلياً يبتغي به وجه الله، أو هكذا ظننتُ يومها.

وبينما أنا أفتش في قوائم أسماء أصحاب الأوقاف، عثرت على كثير من حجج الأوقاف التي أنشأها حكام مصر من أسرة محمد علي باشا، وتبين لي أن كل واحد منهم قد أنشأ أوقافًا خيرية وأهلية ابتداءً من محمد علي باشا مؤسس الأسرة العلوية، ومن بعده ابنه إبراهيم، ثم عباس، وسعيد، مروراً بالخديو إسماعيل، والخديو توفيق، والخديو عباس حلمي الثاني، والسلطان حسين كامل، وصولاً إلى الملك فؤاد، والملك فاروق؛ وكلهم قد بادروا بتأسيس أوقاف خيرية وأهلية لإنفاق ريعها لأغراض عائلية ومصالح عمومية مختلفة.

وجدت في سجلات الأوقاف وقفاً باسم «حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم فاروق الأول ملك مصر» (سجل 80/مصر)، ووجدت وثيقة حجة هذا الوقف، وهي عبارة عن تسع صفحات من القطع الكبير، ومكتوبة بخط الرقعة الواضح، وممهورة بختم «دمغة 100 مليم»، وختم «محكمة مصر الابتدائية الشرعية»، وموثقة على هامشها بأنها ضُبطت «برقم 2 متتابعة صفحة رقم 15 بالمضبطة المخصصة للإشهادات الخاصة بحضرة صاحب الجلالة مولانا المعظم …». وبداية الحجة هي:

بسم الله الرحمن الرحيم، إنه بالمجلس المنعقد بسراي عابدين العامرة بمصر القاهرة، في الساعة السابعة أفرنكي مساء يوم الخميس 13 من شهر المحرم سنة 1364هـ الموافق 28 من شهر ديسمبر سنة 1944م، لدينا نحن محمد إبراهيم سالم، رئيس محكمة القاهرة الابتدائية الشرعية، في حضرة مولانا حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم فاروق الأول ملك مصر، اقتضت إرادة جلالته -أيد الله ملكه وخلد عرشه- فأشهد حفظه الله بأنه وقف وحبس جميع الأطيان الزراعية الكائنة بزمام ناحية السكاكرة، ونصف السكاكرة، وناحية شرشيمة مركز ههيا مديرية الشرقية، التي قدرها 23 سهماً، و11 قيراطاً و1744 فداناً، بما عليها من المباني والمواشي والأشجار والوابورات والسواقي الملحقات.

وبعد إثبات حدود كل قطعة ومساحتها وسعر الضريبة على الفدان الواحد، والزمام الذي تقع ضمنه في السكاكرة أو في شرشيمة بمركز ههيا بمديرية الشرقية، نصت حجةُ الوقف على وقف جميع «السواقي الحديد، والطنابير والتوابيت (أدوات للري)، والأشجار والنخيل المقامة في جميع القطع الموضحة بهذا الكشف وبزمام هذه الناحية».

وبعد ذلك أثبتت حجةُ الوقف مصدرَ ملكيةِ الملك فاروق لهذه الأراضي التي وقفها، وطريقة امتلاكه لها، وهي: «بالمشترى من الأميرة عفت هانم حسن، وحضرة حسان بك محسن ابن المرحوم حسن باشا محمد، وعصمت حسن محسن، كريمة حسن باشا محسن بموجب عقد تحرَّر بقلم العقود الرسمية بمحكمة مصر المختلطة في 16 مارس سنة 1937م تحت رقم 434». وإثبات سند الملكية هو من الإجراءاتِ الضرورية لإبرام عقد الوقف؛ حيث يُشترط أن يكون الموقوف في ملك الواقف، وبعض الفقهاء اشترط أن يكون الموقوف في «الملك التام للواقف»؛ بمعنى أن يكون مالكاً للشيء ومنفعته معاً.

وفي الفقرةِ الخاصة بصرف ريع الوقف، نصت وثيقة أو حجة وقف الملك فاروق على أنه قد: «أنشأ هذا الوقف على حضرة صاحبة الجلالة الملكة فريدة كريمة حضرة صاحب السعادة يوسف باشا ذو الفقار ابن المرحوم علي باشا ذو الفقار، تنتفع به وبما شاءت منه بسائر وجوه الانتفاعات الشرعية الوقفية، وتستحق من اليوم مدى حياتها شخصياً لذاتها استحقاقاً مطلقاً غير مقيد بوصف ولا شرط ولا حال ولا وقت، بل يستمر استحقاقها له ما دامت على قيد الحياة … ثم من بعد وفاتها يكون ذلك وقفاً مصروفاً على حضرات أصحاب السمو الملكي الأميرات: فريال وفوزية وفادية، المرزوقات لجلالتها من حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك المعظم، ومن ترزق بهن من الأولاد الإناث فقط دون الذكور من حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق بالتساوي بينهن، مدة حياة كل منهن، ثم من بعد كل منهن يكون ما هو موقوف عليها وقفاً على أولادها ذكوراً وإناثاً للذكر مثل حظ الأنثيين، ثم على أولاد أولادهم كذلك، ثم على أولاد أولاد أولادهم كذلك، ثم على ذريتهم ونسلهم وعقبهم كذلك، طبقة بعد طبقة، وجيلاً بعد جيل … إلخ».

ويتضح من الفقرة السابقة أن غرضاً عائلياً قوياً قد دفع الملك فاروق لعمل هذا الوقف، وأن هذا الغرض متعلق بشخص زوجته الأولى الملكة فريدة التي تزوجها في سنة 1938م وبقيت في عصمته إلى سنة 1948م. وتكشف الشروط التي اشترطها فاروق في وقفيته هذه عن أنه أراد «ترضية» زوجته فريدة أولاً وقبل أي شيء آخر. وتظهر ملامح هذه الترضية من جعلها مستحقة لريع هذه المساحات الشاسعة: «مدى حياتها شخصياً لذاتها استحقاقاً مطلقاً غير مقيد بوصف ولا شرط ولا حال ولا وقت، بل يستمر استحقاقها له ما دامت على قيد الحياة»؛ وكأن هذه «الترضية» كانت تمهيداً لانفصالهما في سنة 1948م أي بعد أربع سنوات فقط من تاريخ إنشاء هذا الوقف عليها. ولم يكن مألوفاً في حجج الأوقاف العائلية مثل هذا الشرط الذي يجعل الزوجة مستحقة في الوقف «دون قيد بوصف ولا شرط ولا حال ولا وقت». كما لم يكن مألوفاً في تلك الحجج أن يشترط الواقف تخصيص الاستحقاق في ريع الوقف لأبنائه الإناث وحرمان الذكور. وفي هذا دليل آخر على أن الغرض الأساسي مما يظهر من وقفية الملك فاروق هو «الترضية» أكثر من أي شيء آخر، والله أعلم بالسرائر.

وقد حصر الملك فاروق النظارةَ (الإدارة) على هذا الوقف في الموقوف عليهم بدءاً بالملكة فريدة طول حياتها، ثم من بعدها يكون كل مستحق ناظراً على حصته في الوقف، وأكد شروطاً أخرى تتعلق بإدارة الوقف منها «أنه لا يجوز تعيين أجنبي من غير الموقوف عليهم في النظر على هذا الوقف ما دام فيهم من يصلح لذلك مهما كانت درجته». ومبالغةً في تحصين استحقاق الملكة فريدة في النظارة على الوقف وفي ريعه، نصت الحجة على أن الملك فاروق رأى: «أن يسقط عن نفسه حق اشتراط الشروط العشرة، أو بعض منها لجلالته، وألا يبقى لجلالته حق الرجوع عن هذا الوقف كله أو بعضه، والتغيير في مصارفه».

والفقرة السابقة من نص الحجة تقدم دليلاً آخر على صحة الافتراض الذي افترضناه، وهو أن الغرض الأساسي للملك فاروق من وقفيته هو «ترضية» زوجته الملكة فريدة؛ إذ درج الواقفون في أغلبيتهم على الاحتفاظ لأنفسهم بحق الرجوع في الوقف كله أو بعضه، مع الاحتفاظ بحق استعمال الشروط العشرة المعروفة في تقاليد الوقف الأهلي أو الذري وهي: الإعطاء والحرمان، والزيادة والنقصان، والإدخال والإخراج، والتبديل والتغيير، والإبدال والاستبدال.

ونصَّت حجةُ الوقفية أيضاً على أنه في حالةِ انقراض ذرية الموقوف عليهم «كان ذلك وقفاً على الفقراء والمساكين من المسلمين أجمعين أينما كانوا وحيثما وجدوا بالديار المصرية». ولم تنقرض ذرية الموقوف عليهم إلى اليوم، وعليه لم يتحقق شرط استحقاق الفقراء والمساكين من المسلمين في ريع هذا الوقف الكبير. والذي حدث هو أن محكمة استئناف القاهرة قد أصدرت حكمها بتاريخ 29 أغسطس/آب سنة 2000 برفض دعوى الأميرات فريال وفوزية وفادية، بنات الملك فاروق، كن قد رفعنها ضد كلٍّ من: وزير الأوقاف (بصفته)، ورئيس الإصلاح الزراعي (بصفته)، ورئيس الجمهورية (بصفته)، والحارسة القضائية على أوقاف أجدادهن، وأيضاً ضد الهيئة العامة للخدمات الحكومية، باستئناف الحكم رقم 10677 لسنة 1995م الصادر من محكمة مدني/جنوب القاهرة.

وكانت الأميرات الثلاث تطالبن بحقهن: أولاً في قصر الطاهرة، الذي كان جدهن يوسف باشا ذو الفقار قد وهبه لوالدهن الملك فاروق، وثانياً في خمسين فداناً لكل واحدة منهن من أراضي الوقف البالغة 23 سهماً و11 قيراطاً و1744 فداناً تطبيقاً للقانون رقم 50 لسنة 1969م وهو آخر قوانين الإصلاح الزراعي صدوراً. ولكن المحكمة رفضت هذين المطلبين، واحتجت بأن جميع أملاك أسرة محمد علي باشا قد صودرت بموجب قرار مجلس قيادة الثورة الصادر بتاريخ 3 نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1953، وأن جميع قرارات مجلس قيادة الثورة محصنة لا يجوز التظلم منها أو الطعن عليها لكونها «كانت تستهدف الصالح العام».

والمثير أن صحيفة الأهرام نشرت في عددها رقم 604 بتاريخ 5 أغسطس/آب سنة 1953 أنه «لم تجد لجنةُ مصادرة أموال الأسرة الملكية أموالاً مهربة في الخارج، أو أملاكاً سرية غير مسجلة، أو أملاك دولة بوضع اليد، أو أملاكاً وأموالاً ناتجة عن أنشطة صناعية أو تجارية». ومع هذا صودرت كل أملاك الأسرة، ومنها أراضي وقفية الملك فاروق. وبحكم محكمة الاستئناف في 29 أغسطس/آب سنة 2000 في قضية الأميرات الثلاث، تم إغلاق ملف وقف الملك فاروق إلى أن يشاء الله.

وبموجب عقد مسجل برقم 3835 ومؤرخ في 23 أغسطس/آب سنة 1951 تصرف الملك فاروق تصرفاً آخر في أملاكه عن طريق الوقف، إذ باع لديوان الأوقاف الخصوصية الملكية، مساحة قدرها: 14 سهماً و12 قيراطاً و7856 فداناً من الأراضي الزراعية التي كان يملكها في تفتيش «إدفينا» (تتبع مركز رشيد بمحافظة البحيرة حالياً)، وما كان يتبعها من المباني والآلات الخاصة بالري، وأدوات الزراعة والمواشي الموجودة بذلك التفتيش والمواشي المخصصة لهم والأغنام الموجودة به والشايعة لهم بثمن إجمالي قدره 235 مليماً و957800 جنيه مصري لا غير، بسعر الفدان 26 مليماً و122 جنيهاً مصرياً لا غير، تم دفعها من المبالغ المتوفرة من ريع ثلاثة أوقاف تعود للأسرة العلوية وهي: وقف محمد علي باشا المعروف بوقف قولة الخيري الصادر بتاريخ 15 شوال 1259هـ، ووقفين خيريين لمحمد سعيد باشا صادرين بتاريخ 25 من ذي الحجة 1273هـ، ووقف خيري للست جميلة هانم ووالدتها، وهما من سيدات الأسرة العلوية.

ورغبت حينها الأميرات الأربع : فوزية وفائزة وفائقة وفتحية شقيقات الملك فاروق في بيع نصيبهن في تفتيش إدفينا وهو مساحة قدرها 19 سهماً و15 قيراطاً و7740 فداناً بثمن إجمالي قدره 531 مليماً و944061 جنيهاً مصرياً لا غير، وذلك ليكون التفتيش جميعه ملكاً للأوقاف الثلاثة ووقف جميلة هانم ووالدتها السابق ذكرها. ولكن خزينة ديوان الأوقاف الخصوصية الملكية لم يكن فيها مبلغ متوفر يكفي لدفع هذا الثمن، ورأي الديوان أن في بيع ما تملكه تلك الأوقاف الثلاثة (وقف قولة ووقفين لمحمد سعيد باشا) في تفتيش المطاعنة (في محافظة قنا بجنوب الصعيد) توفيراً للمصروفات وتوحيداً للإدارة وتحقيقاً لمصلحة هذه الأوقاف الخيرية، وكان إجمالي ما تملكه تلك الأوقاف الثلاثة في تفتيش المطاعنة مساحة قدرها 19 سهماً و4 قراريط و3142 فداناً. ولتوفير ثمن شراء نصيب الأميرات الأربع لصالح ديوان الأوقاف الخصوصية، كان لا بد من القيام بعميلة «إبدال واستبدال»؛ اشترى بموجبها الملك فاروق أراضي الأوقاف الثلاثة بتفتيش المطاعنة، ومن الثمن الذي دفعه اشترى الديوان نصيب الأميرات الأربع في تفتيش إدفينا وقام بضمِّه لأوقاف: محمد علي باشا، ومحمد سعيد باشا، وجميلة هانم ووالدتها. ولقصة هذا الإبدال والاستبدال بقية قد يأتي ذكرها في مقال آخر إن شاء الله.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.