تباعدتْ مطارحُ أنظارِ النُّظَّارِ من فقهاءِ المذاهب والأمصارِ بشأن حقيقة المِلْكية، ومنها الملكية الفكرية، وعلاقة الإنسان بالشيء المملوك: منقولاً؛ مثل الكتب والنقود والسيوف، أو عقارًا ثابتاً؛ مثل المزارع، والمنازل، والأراضي الفضاء، كما تنوعت اجتهاداتهم في جواز وقف حقوق الملكية الفكرية تحديداً، أو عدم جوازها.

فالسادةُ المالكيةُ ذهبوا إلى أن المِلكَ بمعنى «القدرة على التصرف»، لا يتجاوزُ المنافعَ، ولا يقعُ على ذات الشيء؛ لأنَّ وقوعَ التصرف على ذات الشيء ليس في قدرةِ الإنسان. والذي في قدرتِه هو أن يُعطِي المنفعةَ لغيره، وهي مقيدةً بمدةٍ عن طريق الإجارة، أو العارية، أو الوصية بالمنافع، أو أن يُعطِي المنفعةَ لغيره مطلقاً؛أي غير مقيدة بمدة، وذلك عن طريق البيع، والهبة، والميراث، والوقف المؤبد. وتأسيساً على ذلك جوَّز المالكية وقف المنقول؛ ككتاب وكسيف؛ لحصول المنفعة منه مع بقاء أصله.

أما السادةُ الأحنافُ فذهبوا إلى أن المِلكَ يقعُ على العينِ؛ كالأرض والبيت والكتاب، ويقع على المنفعة في العقود التي تُقيدُ ملكيةَ المنفعةِ؛ كالإجارة والإعارة. وقالوا: إن ملكَ المنفعةِ له أسباب أربعةٌ هي: الإجارة، والإعارة، والوصية، والوقف. وأجاز السادةُ الأحناف وقف المنقول استثناءً على خلاف الأصلِ في حالات ثلاث هي: ما ورد نص بوقفه، أو ما جرى التعامل بوقفه، أو ما لم يرد فيه نص ولم يجر فيه تعامل.

أما ما ورد النص بوقفه فوقفه صحيحٌ بالاتفاق بين صاحبي أبي حنيفة، رضي الله عنهم، ويُترك القياسُ لوجود النص، وذلك كوقف السلاح والكراع استقلالاً. وأما ما جرى التعاملُ بوقفه فمنعه أبو يوسف، وأجازه محمد؛ لأن التعامل يُترك القياس به أيضاً، ومما جرى التعامل بوقفه: «وقف المصاحف والكتب على المساجد والمدارس وطلبة العلم، وفي الاستحسان يجوز لتعامل الناس في ذلك، وما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن».[علاء الدين أبو بكر بن مسعود الكاساني الحنفي (ت:587هـ)، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، تحقيق علي محمد معوض، وعادل أحمد عبد الموجود (بيروت: دار الكتب العلمية، ب.ت) ج8/330ـ333. وقارن: وهبة الزحيلي، الوصايا في الفقه الإسلامي (بيروت: دار الفكر المعاصر، 1419هـ)، ص160؛ حيث يعيد صوغ عبارة الكاساني ويعدلها]. وتأسيسياً على ذلك جاز عندهم وقفُ المنقول، مثلما جاز أيضاً عند نظرائِهم من السادة المالكية.

ويشترطُ جمهور فقهاء أغلب المذاهب أن يكونَ الشيءُ الموقوفُ مملوكاً ملكيةً تامة لصاحبه؛ أي أن تكون عينُه ومنفعتُه مملوكتين له. والمِلكُ عندهم هو «الاختصاص الحاجز»؛ أي الذي يخوِّل صاحبه الاستعمال، والاستغلال، والتصرف؛ ويحجزُ غيره عن ذلك، إلا لمانعٍ شرعاً؛ كأن يكون المملوكُ مشغولاً بدَيْنٍ أو رهن مثلاً.

ولكن بعضَهم أجازَ وقفَ المنفعة، دون أصلِها، وقفاً مؤبداً، أو مؤقتاً بمدةٍ زمنية. واختلفوا في وقف منفعة المملوك دون عينه؛ فالمالكية والشافعية أجازوا وقف المنفعة باعتبار أنها «مالٌ مُتَقَوَّم» (له منفعة وغير محرم في الشرع)، واحتجوا لرأيهم بحجج كثيرة منها: أن الطبعَ يميلُ إلى المنفعة، وكل ما يميلُ إليه الطبع فهو «مال»؛ إذا أمكنت حيازتُه وكان جائزاً شرعاً. ومنها: أن المنافعَ يجري التعاقدُ عليها، وتُضمَنُ، وضمانُها هو دليلُ ماليتها.

أما السادة الأحناف فهم وإن كانوا يجعلون المِلكَ وارداً على المنفعة؛ لا لماليِتها كما ذهب المالكية؛ وإنما لأن الملكَ اختصاصٌ، والاختصاصُ يرد على المنافع، كا يردُ على الأعيان. أقول: إن كانوا قد ذهبوا لذلك إلا أنهم لم يجوزوا وقف المنفعةِ وحدها دون العين، واحتجوا بحجج كثيرة منها: أن صفةَ المالية لا تثبت إلا بالتمول، والتمول لا يكون إلا بإحراز الشيء، وصونه، واسترجاعه عند الحاجة؛ والمنفعةُ لا يمكن فيها شيء من ذلك؛ لأنها لا تَبقى في زمنين متتاليين، بل تُكتسبُ آناً بعد آن، وتتلاشى بعد الكسبِ. وعليه: فإذا كانت المنفعةُ تتلاشى بعد كسبِها، وهي معدومة قبل كسبِها، فإن النتيجةَ هي: أن المعدومَ ليس مالاً، ومن ثم لا يجوزُ وقفُ المنفعة لانتفاءِ ماليتها.

وحبُّ حصيد ما سبق من تلك المطارحات الممتعة والمقنعة في آن واحد، والمشبعة أيضاً في هذه المسألة، هو: أنَّها لم تؤثِّر على جواز وقف الكتب باعتبارها منقولات، ولا على جواز وقف حقوق الملكية الفكرية المرتبطة بها؛ إذ تحصلُ المنفعة منها بقراءتها والتدبر فيها؛ حتى وإن لم يختص بها الذي يقرؤها وحده، وحتى إن لم يحرز الذي يقرؤها تلك المنفعةبمفرده على سبيل التملك، ثم تتجدد المنفعة بتجدد الواردين عليها من القُّراء والنسَّاخ وطلبة العلم.

وأشباه هذا الخلاف بين العلماء الذي يوسع على المسلمين ويفتح أمامهم أبواب الاختيار، ولا يضيق عليهم، نجدها كثيرة في مسائل الفقه الإسلامي بعامة، ومنها مثلاً: أنَّ الإمام الشافعي خالفَ الإمامَ أبي حنيفة بشأن تكبيرات صلاة العيد، ورغم ذلك صلى الإمام الشافعي نفسُه صلاة العيد بحسب رأي أبي حنيفة في عدد التكبيرات، وهذا مما يدل على السعة وتفضيل الخروج من الحرج على الوقوع فيه.

وقد وجدْتُ في اجتهادات قدماء العلماء ــ من أصوليين ومقاصديين ــ في تحقيق معنى المنفعةِ، أنَّ الإمام فخر الدين الرازي، يقول إنَّ: «المصلحة لا معنى لها إلا اللذة، أو ما يكون وسيلة إليها، والمفسدة لا معنى لها إلا الألم، أو ما يكون وسيلة إليه» [فخر الدين الرازي، محمد بن عمر بن الحسين، المحصول في علم الأصول، تحقيق: طه جابر فياض العلواني (الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1400هـ/)، الجزء السادس، ص 240.]. ووجدت أيضاً أنَّ الإمام العلامة العز بن عبد السلام (ت:660هـ) يقول إنَّ: «المصالحَ أربعةُ أنواع: اللذات وأسبابها، والأفراح وأسبابها… وهي منقسمة إلى دنيوية وأخروية» [عز الدين بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد (القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية،1414هـ/1991م)ج/1ص 10.].

ونحن نعرف ألا شيء يعدلُ لذة القراءة والمعرفة، وأن الكتب هي الوسيلة الأساسية والأولى للقراءة وتحصيل العلم، وعليه فحكمها كحكمها. وقديماً قالوا: إن العلمَ أعظمُ لذةٍ، وإن الجهلَ أفدحُ ألم. وقد حضَّت آيات القرآن الكريم على العلم والتَّعلم، وهدتْ أحاديث الرسول، صلى الله عليه وسلم، إلى «طلب العلم»، وبيَّنت ما لطلابِ العلم وما للعلماءِ من منزلة رفيعة، ومن ذلك قوله تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ. وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (المجادلة:11). وعن أبي الدرداء رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال سمعت رَسُول اللَّهِ ﷺ يقول: «من سلكَ طريقاً يبتغي فيه علماً سهل اللَّه له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن العالمَ ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء. وفضلُ العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب. وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر» [رواه أبو داود والترمذي].

ومن الثابت في تاريخ العلم والمعرفة في الحضارة الإسلامية، أن الكُتبَ كانت ــ ولا تزال ــ موضوعاً للتمَلك والتَّمليك. وأول مالك للكتاب هو مؤلفه أو مصنفه؛ الذي له وحدُه حقوقُ الملكية الفكرية، أو حقوق التأليف والنشر ابتداءً. ثم يكون لغير المؤلف أن يتملك الكتاب بعد ذلك بالشراء أو الهبة أو الوصية. وكثيرة هي نصوص التمليكات التي سجَّلها أصحابُ الكتب بصيغٍ متنوعة على نسخ المخطوطات التي تذخر بها المكتبات وخزائن الكتب؛ فمنها ما هو مكتوب فوق طرة الكتاب أو أسفلها، ومنها ما هو مكتوبٌ على ظهريته، أو في حاشيته، ومنها ما هو مكتوب في ثَبَتٍ خاص يشتمل على مجموعة كتب يملكها صاحبها.

ومن التمليكات أيضاً «تمَلُّكٌ» وجده المحققون على يسار عنوان مخطوطة كتاب «بغية الطلب في تاريخ حلب» لابن العديم، ونصه: «الحمد لله، وبه أكتفي من عوادي الدهر، في نوبةِ أقل عبيد الله تعالى وأفقرهم وأحقرهم محمد بن أحمد بن إينال العلائي الحنفي، عامله ربه بلطفه الجلي والخفي». [كمال الدين محمد بن أحمد بن هبة الله العقيلي الحلبي، ابن العديم، بغية الطلب في تاريخ حلب، تحقيق: المهدي عيد الرواضية (لندن: مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، مركز دراسات المخطوطات الإسلامية، 1438هـ/2016م)، ج1/ 124 من مقدمة المحقق].

ومن الأمثلة على نصوص تلك التمليكات ما هو مسجلٌ في يسار الحاشية السفلى من الطٌرةِ لنسخة من مخطوطة كتاب «التمهيد لما في الموطأِ من المعاني والأسانيد في حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لأبي عمر بن عبد البر النمري القرطبي، ونصه: «هذا الجزء وعشرةٌ معه، من كُتُبِ الفقير الحقير أبي البركات محمد بن الكيال الشافعي لطف الله به آمين، سنة 899هـ». وعلى المجلد التاسع من المخطوطة نفسها مكتوبٌ في أعلى الطرة باللَّون الأحمر «ملكٌ لسليمان بن عبد الله». وكتب أحدُ نسَّاخ «التمهيد» نصَّ تملكه شعراً فقال: يا خالقَ الخلقِ طوراً بعد أطوار… وغافرَ الذنبِ من سرٍ وإجهار. اغفر لمالِكِه، أيضاً وناظرِه… والمستعيرِ له؛ إن ردَّوُا الْقاري [ابن عبد البر النمري القرطبي، التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، تحقيق بشار عواد معروف، وسليم محمد عامر، ومحمد بشار عواد (لندن: مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، 1439هـ/2018م)، من مقدمة المحققين، ص29].

وثبوت ملكية الكتاب بالتأليف أو بالشراء أو بالوصية أو بالهبة أو بالإهداء؛ يعني إمكانيةَ وقْفِه. ولا يجوز وقفُ الكتب إن كانت مسروقة؛ لأن الوقفَ يكون لله تعالى، والله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، ولا خلاف بين أصحاب المذاهب الفقهية في شيء من ذلك.