سجَّل محمد سعيد باشا وقفياته في خمس حجج تأسيسية، وبيانات هذه الحجج محفوظة مع بعض نصوصها (وليس كلها) في قسم الحجج والسجلات بوزارة الأوقاف، وبعضها محفوظ في دار الوثائق القومية وأرشيف الشهر العقاري. ووقفياته خيرية في مجملها، وليس فيها حصص أهلية. وقد جرت على تلك الوقفيات تصرفات كثيرة بلغت 325 تصرفًا: منها 18 تصرفًا بالبدل والإبدال، ومستنداتها محفوظة بملف التولية رقم 11446 محفظة رقم 614 بقسم الحجج والسجلات، وأقدم تلك التصرفات كان بتاريخ غاية رجب سنة 1283هـ/6 ديسمبر/كانون الأول 1866م، وآخرها كان بتاريخ 11 رمضان 1359هـ/ 12 أكتوبر/تشرين الأول سنة 1940م. ومنها 307 تصرفات جرت بالبدل والإبدال أيضًا، أو صدرت بشأنها أحكام قضائية، وتقارير خاصة بالنظارة على تلك الوقفيات، وهي محفوظة بملف التولية رقم 5323 ومسجلة في سجلات (أحكام)، وسجلات (خيري) من سجلات قسم الحجج والسجلات. وأقدم تلك التصرفات كان بتاريخ غرة جمادى الأولى سنة 1286هـ/8 أغسطس/آب 1869م، وأحدثها كان بتاريخ 29 رمضان 1399هـ/ 22 أغسطس/آب 1979م.

ومن تلك التصرفات تبين لنا أن أوقاف محمد سعيد باشا غطت مساحات واسعة من الأراضي في وجهي بحري وقبلي، وذلك بدلالة جريان التصرفات وتوثيقها أمام المحاكم الشرعية في كل من: القاهرة (محكمة مصر الشرعية)، ومحكمة القسمة العسكرية، والمحكمة المختلطة بالقاهرة، والمحاكم الشرعية في كل من: قنا، والإسكندرية، وطنطا، والزقازيق، والجيزة، ودمنهور، وبني سويف، والمنيا، وأشمون، والمنصورة، وشبين الكوم، إضافة إلى إجراءات الشهر العقاري، ولجنة شئون الأوقاف ابتداءً من منتصف خمسينيات القرن العشرين. وقد ظلت أعيان تلك الأوقاف في نمو وزيادة حتى الربع الثالث من القرن الرابع عشر الهجري/ النصف الأول من االقرن العشرين الميلادي، ثم أخذت في التراجع حتى تضاءلت، ويكاد وجودها يقتصر على صفحات وثائقها، التي لم يسلم بعضها من التلف بفعل مرور الزمن، أو بالخرق، أو بالحرق بفعل فاعل أثيم.

بعد عامين من توليته حكم مصر؛ تحررت وقفيته الأولى بموجب حجة صدرت بتاريخ 26 محرم سنة 1272هـ من محكمة الإسكندرية الشرعية، وهي مسجلة تحت رقم 5 دفتر رقم 1/إسكندرية (وهي محترقة، ولا وجود لنصها ولا صورة منها في محفوظات وزارة الأوقاف). وتفيد بيانات التوثيق أنه قد وقف بموجبها ما جملته من الأطيان الزراعية: 8 أسهم، وقيراط واحد، و3129 فدانًا على تكية المدينة المنورة، وجعلها ملحقة بوقف أبيه محمد علي باشا على تلك التكية، وجعل حكم وقفيته هذه كحكم وقفية أبيه تلك، وشرطها كشرطها. وكان محمد علي باشا قد وقف أراضي قريتين بمديرية الغربية مساحتهما 8 أسهم وستة قراريط و1976 فدانًا للإنفاق على تكية مكة المكرمة، ووقف جملة مرتبات أخرى قدرها 135670 قرشًا روميًا لصرفها على تكية المدينة المنورة في لوازم كلية وأخرى جزئية، أوضحتها حجة الوقفية التي أنشأها محمد علي، وتحررت أمام محكمة الباب العالي في 20 صفر سنة 1260هـ/ 10 مارس/أذار سنة 1844م. وما أوضحته هذه الحجة بشأن مخصصات التكيتين شيء بديع، وتفاصيله شيقة، وقد أثبتناها في حديثنا عن أوقاف الباشا الكبير، فاطلبها هناك.

وتحررت الحجج: الثانية، والثالثة، والرابعة لوقفيات محمد سعيد باشا بتاريخ 25 ذي الحجة سنة 1273هـ، تحت أرقام 106، و110، و116 على التوالي، وهي مسجلة بدفتر رقم 3/خيري. أما الحجة الخامسة فتحررت بتاريخ 19 رجب سنة 1277هـ (أي قبل وفاته بعامين)، وهي مسجلة تحت رقم 319 بدفتر رقم21/قديم. وأما الحجة السادسة فهي محررة أمام محكمة مديرية البحيرة الشرعية بتاريخ غاية رجب سنة 1283هـ (1866م)، وكانت عبارة عن مساحة 2052 فداناً، وقد اشترط أن يصرف ريعها على تكية المدينة المنورة، وأن تكون ملحقة بوقفية أبيه محمد علي الخاصة بتكيتي مكة والمدينة.

وقد تم بموجب تلك الوقفيات وقف مساحات من الأطيان الزراعية لم أتمكن من حصرها حصرًا شاملاً نظرًا لأن أوراق بعضها متهتكة وغير مقروءة، وبعضها مكتوب أمامه «ناقصة». وقد جعل محمد سعيد بعض تلك الوقفيات مضمومة وملحقة بوقف (قوله) الذي أنشأه أبوه محمد علي باشا. ووقف (قوله) هو الأكبر حجمًا بجميع الأوقاف التي تأسست في مصر منذ عهد محمد علي باشا إلى اليوم، ووثائقه هي الأكثر عددًا، والتصرفات التي جرت عليه لا تقع تحت الحصر، والمشكلات والمنازعات القضائية بشأنه لم تتوقف منذ منتصف القرن العشرين تقريبًا إلى اليوم. وأهم أعيان وقفيات (قوله) هي Gجزيرة طاشيوز» الواقعة ببحر اليونان، وهي مشاطئة لمدينة قولة مسقط رأس محمد علي باشا، وبعد أن ملكها له السلطان محمود الثاني بكتاب تمليك همايوني، بادر محمد علي باشا بوقفها بموجب حجة محررة أمام محكمة الباب العالي بمصر بتاريخ 25 جمادى الآخرة 1228هـ/24 يونيو/حزيران 1813م. وقد أرّخنا لهذه الوقفية وبينَّا أهميتها الإستراتيجية في مقالة مطولة نشرتها صحيفة الشروق المصرية بتاريخ 3 سبتمبر/أيلول 2016م.

ومن أهم الإجراءات التي لحقت بوقف محمد سعيد باشا الذي ألحقه بوقف قوله، قيام ديوان عموم الأوقاف الخديوية في سنة 1318ه/1900م بشراء مساحة قدرها 1836 فدانًا، بمبلغ 43464 جنيهًا مصريًا من فائض ريع وقف محمد سعيد باشا، المتجمد له بعد مصروفاته الضرورية التي صرفت في شئونه حسب شروط الواقف المذكور. وقد اشترى تلك المساحة بذلك المبلغ: عبد الحليم باشا عاصم، بصفته مديرًا لديوان الأوقاف آنذاك، وتم إلحاقها بوقف محمد سعيد باشا الملحق في أصله على (وقف قوله). والمرجع في هذا الإجراء هو: حجة مشترى لجهة وقف محمد سعيد باشا، وسنان باشا، مسجلة وجه نمرة 10، من الجزء الثامن: إشهادات سنة 1901 أفرنكية الموجود بقلم السجلات، بمحكمة مصر الشرعية. وهذه الحجة عبارة عن مخطوطة، تقع في 166 صفحة من القطع الكبير.

ولد محمد سعيد باشا في 29 جمادى الآخرة 1237 هـ /22 مارس/أذار 1822م، وتوفي في 28 رجب 1279 هـ / 18 يناير/كانون الثاني 1863م. وهو رابع حكام مصر من أسرة محمد علي باشا، وقد تولى الحكم بعد وفاة عباس الأول ابن شقيقه. وتلقى تعليمه الأولي في مصر، ثم أكمل دراسته في فرنسا، وهناك تعرف على «فريدناند ديليسبس»، الذي سيكون له دور خطير في تاريخ مصر الحديث والمعاصر بسبب حظوته لدى محمد سعيد باشا وحصوله منه على امتياز تأسيس شركة لحفر قناة السويس. وكان محمد سعيد أول حكام مصر من أسرة محمد علي يتلقى تعليمه في جامعات أوربية، ثم توالى إرسال أبناء الأسرة للتعليم في تلك الجامعات ضمن تقاليد تربيتهم وتثقيفهم وتأهيلهم لمسئوليات الحكم ورسم السياسات العامة لمصر. وقد كان لهذا التوجه صوب جامعات أوروبا ومعاهدها ومناهجها وأساتذتها أثر بعيد المدى في تكوين عقول النخبة الحاكمة وفي توجيه السياسة المصرية داخليًا وخارجيًا منذ منتصف القرن التاسع عشر.

حكم محمد سعيد باشا مصر من 29 شوال 1270هـ/ 24 يوليو/تموز 1854 إلى 28 رجب 1279هـ/ 18 يناير/كانون الثاني 1863م. وقد حقق بعض الإنجازات منها: تخفيض الضرائب على الأراضي الزراعية، وإسقاط المتأخرات عن الفلاحين، ومنحهم حق تملك الأرض وذلك طبقًا للقانون الذي أصدره في 5 أغسطس/آب سنة 1858م، وإتمام سكة حديد القاهرة-الإسكندرية والذي كان العمل قد بدأ به في فترة حكم عباس حلمي الأول.

ولكن سياساته العامة لم تكن موفقة في أغلب المجالات؛ إذ أغلق أغلب المدارس التي كان أبوه قد افتتحها، واعتمد على الاستدانة من الدول الأجنبية، الأمر الذي أسهم في زيادة النفوذ الأجنبي في البلاد. ويمكن أن نقول إنه كان طيب القلب، ولكنه كان ضيق الأفق، قصير النظر، ويكاد أن يكون معدوم الرؤية بعيدة المدى إذا قارناه بأبيه محمد علي باشا، أو بخلفه الخديو إسماعيل باشا. والدليل على ذلك هو منحه امتياز شركة قناة السويس لديليسبس، وغفلته عن استيلاء هذه الشركة بثمن بخس على جفلك الوادي بمساحته الشاسعة، وأرضه الخصبة، وموقعه الإستراتيجي على خط الدفاع الأول عن الدلتا من الجهة الشرقية. وتلك الغفلة قد تنبه لها خلفه الخديو إسماعيل منذ الأيام الأولى لتوليه حكم مصر، وسعى لتغيير صفقة بيع جفلك الوادي، ونجح في استرداده، وقام بتحصينه بوقفه وقفًا خيريًا، كما أثبتناه في حديثنا عن أوقاف الخديوي إسماعيل.

لم يكد محمد سعيد يجلس في دست الحكم حتى منح صديقه أيام دراسته في فرنسا، الفرنسي «فريدناند ديليسبس» امتياز تأسيس شركة لحفر قناة السويس. وكان ذلك في 30 نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1854م؛ أي بعد أقل من أربعة أشهر من بدء ولايته. وتضمن هذا الامتياز شروطًا مجحفة بحقوق مصر، ومنها: أن مدة الامتياز 99 سنة، وهي مدة طويلة جدًا، وبخاصة أنها كانت تبدأ من تاريخ افتتاح القناة، وليس من تاريخ بدء أعمال الحفر في مجراها. ومنها أيضًا: أن تقدم الحكومة المصرية أربعة أخماس العاملين في حفر الترعة، وقد بلغ عدد المسخرين من الفلاحين 30 ألفًا كل 3 شهور؛ مما أدي إلى أضرار كثيرة لحقت بالنشاط الزراعي في عموم البلاد المصرية. ومن تلك الشروط المجحفة وأخطرها كذلك: أن يُسمح للشركة أن تشق ترعة لتوصيل المياه العذبة من النيل إلى مواقع المشروع، وتكون القناة والترعة ملكًا للشركة بعرض كيلو مترين من الجانبين دون أي مقابل، وإذا أراد أصحاب الأراضي الواقعة على ضفتي الترعة العذبة ري أراضيهم من مياهها فعليهم الحصول على ترخيص من الشركة.

وفي مقابل هذه الشروط الظالمة تحصل مصر على 15% فقط من صافي أرباح الشركة، وسرعان ما خسرت مصر هذه الحصة الهزيلة في سنة 1888م سدادًا لأقساط الديون الأجنبية التي غرقت فيها البلاد آنذاك، وتبين أن ديليسبس كان يخطط لإنشاء مستعمرة فرنسية في منطقة القناة في سياق التنافس الاستعماري الفرنسي البريطاني (راجع: سيد حامد، من الحلبي إلى التنظيم الطليعي: التنظيمات السرية للحركة الوطنية المصرية «تحت الطبع»، ص72 وما بعدها، وهو يستند إلى كل من: محمد فهمي لهيطة، تاريخ مصر الاقتصادي، ص251، وعبد الرحمن الرافعي، عصر إسماعيل، جزء 1، ص59-60، ومحمد صبري السربوني، الإمبراطورية المصرية في عهد إسماعيل، ص130-132).

ويذكر محمد صبري السربوني أن ديليسبس قدم للجمعية العمومية للمساهمين في شركة القناة بتاريخ أول مايو/آيار سنة 1862م تقريرًا عن المكتسبات الجديدة التي حققتها للشركة، وتبين من هذا التقرير أن محمد سعيد باشا قدم امتيازات أخرى للشركة لا تقل خطورة عن امتياز تأسيسها، وذلك عندما سمح لها بامتلاك مساحات شاسعة ومتصلة من الأراضي ومراكز تموين وإعاشة داخل البلاد، وكلها مرتبطة بوسائل اتصال مباشرة وآمنة بمجرى القناة، ومما جاء في تقرير ديليسبس أن:

أملاك الشركة تشتمل على ثلاثة عقارات مهمة في دمياط، وبولاق، وتفتيش الوادي.

وبعد أن وصف العقارات التي اشتراها بثمن بخس في دمياط وبولاق، وبيّن أهميتها لمستقبل شركة قناة السويس وللوجود الفرنسي بصفة خاصة؛ شرح ديليسبس أهمية «تفتيش الوادي» وقال:

إن المكاسب التي تحققت بشراء عقارات في دمياط وبولاق هي نفسها التي جعلتنا نحصل على تفتيش الوادي (ويُسمى أيضًا: جفلك الوادي، أو وادي الطميلات). إن خط اتصالاتنا بين النيل وبحيرة التمساح، يتكون من مجموعة ترع داخلية متتالية عددها أربع ترع: ترعة بحر مويس، وترعة الزقازيق، وهما جزء من الأملاك العامة، والترعة التي ستشقها الشركة، ولكن ترعة الوادي ليست كذلك، وهي تقع في وسط هذا الخط وتشكل جزءًا من التفتيش المعروف بهذا الاسم، «تفتيش الوادي»، وسيقوم المالك (للتفتيش) بالضرورة بتنظيم مجرى ترعته كما يشاء، إن عملية شراء تفتيش الوادي ستحمي الخط الأساسي لمواصلاتنا النهرية مع مراكز التموين من أي ضرر. (محمد صبري السربوني، الإمبراطورية المصرية في عهد إسماعيل، ص 123-131).

كان ديليسبس -عن طريق شركة القناة- قد اشترى تفتيش الوادي البالغ مساحته 21.918 فدانًا من تركة إلهامي باشا ابن عباس الأول (1836-1860م)، بثمن بخس قدره: 68 ألف جنيه تحت سمع وبصر محمد سعيد باشا، ولكنه لم يبدِ أدنى اعتراض على تلك الصفقة. وعندما تولى خلفه الخديو إسماعيل أبدى حرصًا شديدًا على استرداد «تفتيش الوادي»، وبذل جهودًا كبيرة للخروج من هذا المأزق، ونجح فعلاً في استرداده، وقام بوقفه بموجب حجة محررة أمام محكمة الباب العالي بمصر بتاريخ 9 ربيع الثاني 1304هـ / 4 يناير/كانون الثاني 1887م، وخصّص ريعه للإنفاق على المكاتب الأهلية وشئون التعليم في عموم القطر المصري، وذلك بعد أن اشتراه من شركة القناة بثمن باهظ بلغ 400 ألف جنيه (محمد فهمي لهيطة، تاريخ مصر الاقتصادي، ص258، والسربوني ص456). وسنعرفُ في مناسبة أخرى، بقية قصة وقف تفتيش الوادي ومساراته ومآلاته، في حديثنا عن أوقاف الخديو إسماعيل ومشروعاته الخيرية وأثرها في تاريخ مصر الحديث والمعاصر.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.