الروس استغلوا ثغرات فيسبوك وتويتر لنشر معلومات وأحداث زائفة لإلهاء النقاشات الأمريكية العامة وإثارة الاضطراب الاجتماعي والتشويش على الحقيقة.أنفقت وكالات أبحاث الإنترنت الروسية حوالي 150 مليون أمريكي للتلاعب بمنصة إنستغرام وفيسبوك وتويتر خلال الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2016.يثير التقرير تساؤلات هامة حول حجم التأثير الروسي على المجتمع الأمريكي، ومدى تغلغلها فيه.


انتهت الحرب الباردة يوم سقط الاتحاد السوفييتي، لكن الهيمنة الأمريكية على العالم لم تكتمل أركانها رغم محاولاتها المضنية لصنع القطب الأوحد. فالصين برزت كقوة عظمى لا يستهان بها رغم التزامها جانب السلمية والحيادية (الظاهرة) في العلاقات الدولية. كما أن الدب الروسي ما زال منتصبًا على قدميه؛ ويبتكر باستمرار وسائل جديدة مؤلمة تنغص على السياسة الأمريكية حياتها اليومية وتتدخل في شئونها الداخلية والخارجية، وقد ظهرت آثار تلك التحركات الروسية جلية في الانتخابات الرئاسية الماضية.وفي مستهل نوفمبر/ تشرين الثاني 2018 أصدرت مؤسسة راند البحثية، والمرتبطة بعلاقات وثيقة مع وزارة الدفاع الأمريكية، تقريرًا حول كيفية مواجهة تأثیر الإعلام الاجتماعي الروسي، أعدّه مجموعة من المؤلفين وبدعم من مكتب وزير الدفاع الأمريكي. ويفصّل التقرير عبر صفحاته التي تزيد عن الثمانين؛ كيف استطاع الروس التأثير على الناخبين الأمريكيين وتوجيه مجرى الانتخابات الرئاسية الأمريكية عبر وسائل السوشيال ميديا وخاصة تويتر وفيسبوك، بعد أن جرّت رئاسة ترامب على الولايات المتحدة الكثير من المتاعب وانكشفت من ورائها العديد من الفضائح، بدءًا من الانتخابات التي فاز بها بصورة لا يزال الكثير من المحللين الأمريكيين يشكك بها، وحتى اليوم.المؤسسة الاستخباراتية الأمريكية التي تضم العديد من هيئات وأجهزة التحقيقات الداخلية والخارجية كانت قد أصدرت في يناير/ كانون الثاني 2017 تقريرًا عامًا يفصّل حملة التأثير الروسية، التي أمر بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لعرقلة الانتخابات الرئاسية الأمريكية، كجزء من نهج أكبر متعدد الأوجه. وشملت هذه الحملة ترويج معلومات إعلامية قائمة على وسائل التواصل الاجتماعي، وموزعة عن طريق حسابات شخصية وهمية وبرامج تتبّع مدفوعة الأجر عبر فيسبوك وتويتر.

كانت إستراتيجية روسيا هي دفع العديد من الروايات المتضاربة للأحداث والأخبار في وقت واحد، وتعميق الانقسامات السياسية والعرقية القائمة داخل المجتمع الأمريكي، وبذر ونشر فكرة تراجع الثقة بالمؤسسات الغربية والعملية الديمقراطية، ومحاولة تحويل الفكرة إلى واقع. واستطاع الروس (وفقًا لتقرير شبكة CNN الأمريكية في 26 يناير/كانون الثاني 2018) إنشاء معلومات وأحداث وهمية مضللة؛ والوصول بها إلى 300,000 أمريكي عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

يقول كلاوزفيتز المؤرخ والقائد العسكري الألماني:

إن الحرب هي امتداد للسياسة ولكن بوسائل أخرى.

واستخدام السوشيال ميديا في عصرنا الحالي هو وسيلة فعالة وجديدة للتأثير على السياسة وكسب الحرب وامتلاك لميزة في الصراع المستمر بين الدول. والأمريكيون يعلمون تمامًا – عبر تاريخ مكثف من الحروب المتعددة عبر العالم – أن النصر والقدرة على الاستمرار تأتي من التوازن بين القدرات الهجومية والدفاعية.

استخدام الشبكات الاجتماعية كسلاح في الحرب ظهر مع نجاح ثورات الربيع حول العالم، والتغيرات الكبيرة التي أحدثها التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت. ما جعل القوى العظمى والدول المختلفة تلتفت إليه؛ وتحاول استخدامه لمهاجمة أعدائها داخليًا وخارجيًا، واستغلته روسيا ضد الولايات المتحدة وحققت به نجاحات كبيرة. وفي سبيل ذلك أنفقت وكالات أبحاث الإنترنت الروسية التابعة مباشرة للرئيس بوتين حوالي 150 مليون أمريكي للتلاعب بمنصة إنستغرام وفيسبوك وتويتر خلال الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2016 (حسب تقرير نشرته صحيفة النيويورك تايمز في 17 فبراير/ شباط 2018).

ويصنف تقرير راند ويحلل المقاربات المختلفة، والخيارات السياسية المطروحة للاستجابة والرد على التهديد الروسي، وكيف سعى لنشر المعلومات المضللة على وسائل التواصل الاجتماعي في الولايات المتحدة. كما يهدف إلى تثقيف وإعلام المسؤولين الحكوميين الأمريكيين حول السياسات اللازمة لمكافحة التضليل الروسي، وما يمكن أن تبذله شركات الإعلام الاجتماعي من جهود للحد من انتشار المعلومات المضللة على منصاتها، وضرورة أن تقوم المنظمات غير الحكومية ومراكز الفكر والأكاديميون بتطوير مناهج جديدة للتصدي لخطر التضليل الذي يستهدف الجمهور الأمريكي.وضعت الدراسة أسئلة تحدد مشكلة البحث الواجب الإجابة عليها؛ وهي كيفية وصف تأثير الإعلام الاجتماعي الروسي، وماهي الأدوات والأساليب المتاحة لمواجهة تأثير السوشيال ميديا الروسية؟ ومدى فعالية الجهود المبذولة حاليًا لمواجهة هذا التهديد؟ وما الخطوات الإضافية التي يمكن اتخاذها؟ وكيف تزيد فعاليتها؟ وما هي الأضرار الجانبية لأساليب المواجهة المقترحة؟ وهل تزيد الأضرار عن الفوائد المحتملة؟يقدم التقرير خلاصة تحليل مقاربات وخيارات سياسية مختلفة للاستجابة للتهديد المحدد للتأثير الروسي على وسائل التواصل الاجتماعي في الولايات المتحدة. وفي سبيل ذلك أجرى الباحثون مسحًا لكثير من الأدبيات ذات الصلة لفهم الحلول المقترحة بالفعل، من خلال المقالات الأكاديمية، أو تقارير مراكز الأبحاث، أو وسائل الإعلام الإخبارية، أو المجلات القانونية، أو المصادر الأخرى.

ومن هذا المسح وضعوا إطارًا واسعًا لتحليل التهديد الذي تشكله عمليات التضليل الروسية على وسائل الإعلام الاجتماعية ومجموعة أولية من الحلول، ثم جرى عقد ورشة عمل لأكثر من خمسين خبيرًا متخصصًا من القطاعين العام والخاص، واستضافتها راند في العاصمة واشنطن يوم 29 مايو/ أيار 2018 لمناقشة منهجية التعامل مع حلقة من سلسلة التضليل الروسية. واقترح الباحثون إطارًا يوضح التسلسل الهرمي لتلك السلسلة بدءًا من القيادة الروسية إلى الأجهزة والوكالات الاستخبارية الروسية، ثم عبر قنوات التضخيم (فيسبوك وتويتر) وصولًا إلى المستهلك (الأمريكي) المستهدف بتلك العملية المعقدة بحرفية شديدة.

كما قدم التقرير تقييمًا للجهود الحالية القائمة بغرض مكافحة العمليات الروسية، ووصف تلك الجهود بأنها مجزأة وغير كاملة، ويركز معظمها على مسألة الشفافية السياسية لمواجهة التضليل والكذب. ويبدو بالفعل أن عدم الشفافية والغموض المشبوه في تصريحات المرشحين والقائمين على العمليات السياسية في الولايات المتحدة قد أتاح ثغرة كبيرة لعمليات الاختراق الروسي لعقول الناخبين الأمريكيين، وغيّر بالطبع مجرى الانتخابات الرئاسية.الجزر المنعزلة في عملية المواجهة هي إحدى المشكلات في الجهود الحالية، فرغم أن الجهود لزيادة التعاون وتبادل المعلومات بين الوكالات هي وليدة وتفتقر إلى الموارد والسلطات اللازمة لإحداث فرق كبير، فإن اقتراح الحلول يتم بشكل مستقل عن التنفيذ أحيانًا. كما أن أصحاب المقترحات نادرًا ما يكونون على وعي بما يفعله الآخرون، ولا عن وجود طرق للتعاون والتنسيق بينهم، فتنعدم فعالية الجهود والحلول.التفسيرات القانونية المتعددة المتعلقة بسياسة الخصوصية الحالية تعقد الجهود والحلول المحتملة أيضًا، وتحد كثيرًا من قدرة الحكومة الأمريكية على التواصل مع مواطنيها، كما تجعل السلطات القانونية الأمريكية من الصعب على المنظمات العسكرية والاستخباراتية مراقبة، أو جمع، أو تحليل معلومات وسائل الإعلام الاجتماعية (تحت غطاء قانوني رسمي).والملاحظ في تحليل التقرير لواقع الجبهة الأمريكية في هذه الحرب الباردة الجديدة على السوشيال ميديا؛ تأكيده على أنه لا توجد إستراتيجية واضحة تحدد المهام والمسؤوليات المطلوبة، من أجل استجابة منظمة لعمليات التضليل الروسية في الولايات المتحدة. وأوضح ذلك بجلاء أحد المسئولين الرسميين خلال ورشة العمل عندما أكد افتقار الولايات المتحدة الأمريكية إلى رسالة سياسية حقيقية لمواجهة التضليل الروسي، ثم جاءت توصيات التقرير لتحدد المطلوب والمقترح مرتبًا حسب الأهمية:

– وضع قواعد واضحة وقابلة للتنفيذ للسلوك المقبول في الدول والكيانات الإعلامية على منصات وسائل التواصل الاجتماعي.

– تنسيق أنشطة السلطة التنفيذية والتشريعية في الولايات المتحدة.

– إنشاء آلية رسمية لتبادل المعلومات تضم لاعبين رئيسيين من الحكومة الأمريكية وشركات وسائل الإعلام الاجتماعية الخاصة.

– زيادة شفافية سياسات منصات الوسائط الاجتماعية للكشف عن المعلومات الخاطئة والسلوكيات والتوجهات الضارة وإزالتها.

– تشجيع المؤسسات الأكاديمية وتمويلها لتطوير أدوات أفضل لتحديد المعلومات المغلوطة ونشر الحقائق المقابلة لها على وسائل الإعلام الاجتماعية.

– إعطاء الأولوية للأنشطة الدفاعية عن العقوبات لتشكيل صناعة القرار في موسكو.

– التقييم المستمر لكلفة وتأثير الحلول المقترحة مقارنة بفعالية الأنشطة الروسية.وفي الختام، يؤكد التقرير على أنه كي تتمتع هذه المقاربات والسياسات المرتبطة بها بأفضل فرصة لتحقيق التأثير المرغوب، ستحتاج الحكومة الأمريكية والمنظمات غير الحكومية وشركات الإعلام الاجتماعي الكبيرة والصغيرة والمنافذ الإعلامية والأوساط الأكاديمية إلى المشاركة بحماس في هذه الحلول والسياسات ودعمها. وبدون التعاون والتنسيق؛ ستبقى الجهود مجزأة وغير كافية، وستظل الولايات المتحدة عرضة للتأثر بحملات التوجيه من قبل روسيا والخصوم الآخرين.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.