يحاصر الاحتلال الإسرائيلي مستشفيات قطاع غزة ويُخرجها من الخدمة مستشفى تلو الأخرى. أحيانًا تكون الحجة وجود مراكز لقيادة حماس تحت المستشفى، وأحيانًا بزعم وجود رهائن محتجزين داخل المستشفيات. تبدو تلك المزاعم تاليةً على قرار اقتحام المشافي، فالاحتلال يقرر أولًا تدمير المستشفى، ثم يحاول لاحقًا اختراع تبرير، وإذا لم يوجد التبرير فلا يهم فسوف يتم الاقتحام في كل الأحوال.

يحوي قطاع غزة على 30 مستشفى وعدد من مراكز الخدمة الصحية الأولية. يعانون بسبب الحصار الخانق المفروض على القطاع منذ سنوات طويلة من نقص حاد ودائم في المستلزمات الطبية والأدوية. لكن رغم هذا الحصار الذي يمثل استهدافًا غير مباشر للمستشفيات والمرضى، فإن الاحتلال لا يتورع في تاريخ حروبه مع غزة عن استهداف المراكز الصحية والمستشفيات بشكل عسكري مباشر.

ففي عملية واحدة، عملية السيوف الحديدية التي جاءت ردًا على عملية طوفان الأقصى، هاجم الاحتلال، حتى لحظة كتابة التقرير قرابة 25 مستشفى، وأكثر من 50 مركزًا أوليًا للخدمة الصحية. فدمر هذه الأماكن مرتبكًا جريمة حرب باستهداف المستشفيات المدنية التي تؤي جرحى ومرضى وجثث الضحايا، والأهم أنها تؤي النازحين الذين أرادوا أن يأمنوا على حياتهم فلجأوا إلى المستشفيات لأنها أماكن محمية بقوة القانون الدولي، لكن أثبت الاحتلال الإسرائيلي أنه فوق الجميع.

منذ الأيام الأولى التي كان يسيطر فيها على قطاع غزة منذ عام 1967. فقد كانت المستشفيات تابعه للحكومة الإسرائيلية، وكانت المستشفيات وقتئذ 4 مستشفيات فقط، و25 عيادة ومركز صحي فقط. واختص الاحتلال نفسها بمستشفى تل الزهور، وقد كانت المستشفى المركزي الوحيد في قطاع غزة، لكنها أخذها وحوّلها لثكنة عسكرية.

أما باقي المستشفيات فقلّص عدد أسرّتها تباعًا على مدار السنوات. وبدأ يُغلق الأقسام الحيوية في العديد من المستشفيات مثل إغلاق قسم الجراحة في مستشفى ناصر في خان يونس عام 1980. ثم استغل الاحتلال المستشفيات لتصفية حسابات بينه وبين المقاومين ففرض أن من سيُعالج من أي إصابة نتيجة قيامه بحادث أمني ضد الاحتلال فسوف يدفع 280 شيكل إسرائيلي عن كل ليلة في المستشفى، وهو رقم مهول في سياق عام 1988 وقت فرضه.

وعمومًا يفرض الاحتلال على المرضى دفع رسوم 3 أيام مقدمًا قبل دخول المستشفى، وعند الخروج يدفع 3 أيام أخرى. وإذا لم يدفع يقوم الاحتلال بمصادرة أملاكه، منزله وأرضه وكل تجارته، دون أمر محكمة أو حق اعتراض للمريض وذويه. ثم في عام 1990 قرر الاحتلال تقليص عدد العاملين في القطاع الطبير بنسبة 10%.

لكن حين انسحب الاحتلال من قطاع غزة، وبدأ أهل القطاع في حكم أنفسهم، تزايد عدد المستشفيات وتنوعّت من حيث التخصصات والخدمات. ودخلت فيها مستشفيات لتأهيل ذوي الأطراف المقطوعة، وأصحاب الإصابات النفسية، ومستشفيات للتوليد، وأخرى لمرضى السرطان، وغيرهم من الأمراض المزمنة والطارئة. بعضهم بُنى بالتبرعات المباشرة من أهالي القطاع، وعدد منهم بنته جهات دولية مانحة مثل إندونيسيا، وقطر، وتركيا، والأردن.

لكن ظل الاحتلال حريصًا على تحطيم الجهاز الصحي في القطاع. فمثلًا يحدد الاحتلال كمية الوقود التي تدخل للمستشفيات ما يؤدي لانقطاع الكهرباء ونفاد الوقود بشكل مستمر ما يؤدي لتعطيل الخدمات الحيوية بشكل دوري. وبالطبع يمنع الاحتلال دخول غالبية الأجهزة الطبية المتطورة. ويمنع مرضى غزة من حقهم في تلقي العلاج خارج القطاع.

وحين يرى الاحتلال تلك القيود غير كافية لكسر إرادة أهل غزة، ومنع الخدمة الصحية عنهم، يقوم بالاقتحام المباشر للمستشفيات وارتكاب المجازر فيها. مثل اقتحام مستشفى ناصر في خان يونس عام 1990، والقبض على عشرات الجرحى وحطم الأجهزة والمعدات الطبية.

 كذلك قام الاحتلال بنفس السيناريو في 17 أكتوبر/ تشيرين الأول 2023 في المستشفى المعمداني، المعروف باسم المستشفى الأهلي العربي. وليس مفاجئأ أن الاحتلال اقتحم نفس المستشفى عام 1989. في مجزرة أكتوبر قصف الاحتلال ساحة المسشتفى التي كانت مكتظة بالجرحى والأطفال والنازحين.

لم تكتفي الغارة الإسرائيلية بقتل الآمنين بل حوّلتهم لأشلاء متفرقة محترقة. وصارت ساحة المستشفى نهرًا من الدماء. وعلاوة على ذلك تفاخر الجيش الإسرائيلي بتلك المجزرة ابتداءًا، لكن لاحقًا تبرأ منها قائلًا أنها حدثت جراء صاروخ بالخطأ أطلقته المقاومة الفلسطينية. كانت الكذبة واضحة بالطبع، وأثبتت التحاليل التقنية للفيديوهات والمقاطع التي صوّرت الانفجار كذب رواية الاحتلال.

وفي نوفمبر/ تشيرين الثاني 2023 اقتحم الاحتلال مستشفى الشفاء في غزة، وسط دعم دولي أمريكي، وقصف محيطه، وسيطر على مباني منه. وحولته إسرائيل لثكنة عسكرية، والأهم أنها جعلته عنوان انتصارها على أهالي وشمال قطاع غزة بالكامل. واقتحم قرابة 100 جندي إسرائيلي حرم المجمع، وأجروا عمليات تفتيش واسعة واستجوبوا الطواقم الطبية والمرضى.

المجمع يضم 3 مستشفيات كبرى متخصصة، ويعمل فيه 25% من العاملين في القطاع الصحي في قطاع غزة. وبات يؤوي 40 ألف من النازحين الراغبين في الأمان أثناء العدوان الإسرائيلي الأخير. لكن يبدو أن ذلك كله كان سببًا أدعى ليستمر الاحتلال في محاصرته، وقنص كل من يتحرك في أروقته لدرجة تراكم الجثث في الممرات والساحات دون أن يستطيع أحد التقدم لإسعافها، أو حتى دفنها.

كل هذه الوحشية تحت ذريعة السيطرة على حماس وتقويض قدراتها، ورغم مكوث القوات الإسرائيلية في المجمع لعدة أيام فإنهم لم يجدوا شيئًا. وخرج الجيش الإسرائيلي بعدد من الفيديوهات التي ادعى أنه تثبت روايته، ليُفنّدها الرأي العام الدولي لاحقًا ويتبيّن كذبها وتزييفها، ويتحول معها جيش الاحتلال لمادة للسخرية عالميًا.

كذلك في نفس الشهر استهدف الاحتلال بالقصف الصاروخي والاقتحام والتدمير مستشفيات عدة مثل مستشفى القدس، ومستشفى النصر للأطفال، ومستشفى العيون في غزة. كما قصف واقتحم مستشفى الرنتيسي. أما المستشفى الإندونيسي الواقع شمال غزة والممتلئ بالجرحي فقد استهدفه الاحتلال يوم 20 نوفمبر/ تشيرين الثاني بقصف مباشر وإطلاق للرصاص على ساحاته. ما أدى لسقوط 8 شهداف في ساعات الفجر الأولى يوم 20 نوفمبر/ تشيرين الثاني، دون احتساب من ارتقوا سابقًا. أو احتساب الذين سيرتقوا لاحقًا بفعل توقف المولدات الكهربائية عن العمل في المستشفى بسبب نفاد الوقود ومنع الاحتلال دخوله.

ولم يقف الأمر على مستشفيات قطاع غزة فحسب، بل امتد الأمر لمخيم جنين كذلك. إذ أمر الاحتلال الطواقم الطبية والمرضى بمغادرة مستشفى ابن سينا في مدينة جنين، بعد أن حاصرها بالدبابات. وأجبر الاحتلال المسعفين على الخروج من المستشفى رافعي أيديهم، وقام بتفتشيهم في الساحات، واعتقل عددًا منهم رغم امتثالهم لأوامره.

إسرائيل تبرر اقتحاماتها بأنها بحثًا عن حماس، أو استجابة لتقارير استخباراتية تفيد بوجود رهائن أو قيادات حماس، لكن كل مرة تخرج إسرائيل خاسرة من تلك الحرب الوهمية ضد المستشفيات والرهائن الأشباح. لكن بعد أن تكون قد دمرّت المؤسسة الطبية تمامًا، وجعلتها غير قادرة على استقبال جرحى جدد أو دفن جثث المرضى الذين قتلتهم إسرائيل بقطع الأكسجين والكهرباء.

فيما يُعد انتهاكًا واضحًا لكافة وكل الاتفاقيات الدولية التي تتحدث عن مواثيق الحروب وأخلاقياتها، لكن لا تمانع الولايات المتحدة من انتهاك تلك المواثيق، فقبل الاقتحام تعطي ضوءً أخضر له بتبنيها رواية الاحتلال عن وجود أنفاق ورهائن، وحين تفشل إسرائيل في الخروج بأي قصة محبوكة عما وجدته في المستشفى تقول الولايات المتحدة أنها لم تعط الضوء الأخضر لهذه الاقتحامات، فكأنما يراهن البيت الأبيض أن كثرة تصريحاته المتضاربة يُنسي بعضها بعضًا. كذلك لا يبالي العالم الأبيض المُتحضر بتجاهل الأعراف الدبلوماسية، طالما كان الجاني هو إسرائيل والمجني عليه فلسطيني.