كانت حيفا ترتسم في خيالي تلك اللحظة، وأفكر هل من الممكن يومًا ما أن يدرك العالم أن ما حصل لنا في أيار 1948 شيءٌ فظيع، ربما أكثر من فظاعة مما حصل في الأندلس!

في نوفمبر الماضي رحل جدي رحيلًا مفاجئًا بالنسبة لطفلةٍ كأنها لا زالت تنتظر أن تسمع منه الكثير عما عايشه خلال النكبة، كان شابًا في السادسة والعشرين حين هُجِّرَ من مُرّان، وكنتُ كلَّما التقيتُ به أسأله عن البلاد وكيف سرقها اليهود وماذا فعلت الهاجاناه، وكان كثيرًا ما يروي لي رحمه الله عن عمله في البلاد وعن الناس، أشتاق كثيرًا يا جدي أن أسمع منك مجددًا ولو كانت القصة نفسها، في الخامس عشر من أيار هذا العام لمن يا جدي سأجلس وأستمع؟

كان رحيل جدي بالنسبة لي صدمةً كبيرةً لم أستوعب حجمها إلا مع مرور الوقت وحنيني للتفاصيل الصغيرة، حلوى النعناع، القرنية، خبز الطابون الساخن، قبلة الصباح كلَّ جمعة، الشغف بالأرض وما فيها، صباح العيد، الشاي، الحب، كل شيء! كلَّما أتذكر جدي أبكي بمرارة، بحرقة، بألم وشوق، آهٍ ما أوجع الغياب يا جدّي!

حلت ذكرى النكبة السابعة والستين، أنا هنا وجدي في عليين هناك، ولن أجد على الأغلب من أجلس له الجمعة لأسأله وأسمع منه عن النكبة، وآهٌ عميقةٌ تخرج من أعماقي، ما أوجع هذه الذكرى يا جدي، الجمعة والنكبة، ولا قبلة في الصباح، على الأقل كي يتخدَّر الوجع في يوم النكبة هذا! رحل جدي دون أن يدوِّن ما عاشه من تفاصيل كثيرة إبان النكبة وما بعدها، لقد كانت التسعين عامًا التي عاشها جدي ثرية جدًا بالكثير بما يجب علينا أن نعرفه، عن تاريخنا الطويل المسروق، ولكنه لم يكن كاتبًا بل كان صاحب أرضٍ صادقًا معها، يحترف ابتكار السبل ليصونها كما لو أنها ابنته الرابعة!

لم يكتب جدي، في يومٍ ما سأرحل أنا أيضًا، تاركةً روحًا شغوفةً باحثةً، تريد أن تعرف حقائق ما عن فلسطين التي أعيشها اليوم، بكل تفاصيلها، مسؤوليةً وأمانةً وحبًا، وخطوة على طريق إعداد جيشٍ يعي بحق ما يجري هنا على هذه الأرض المقدسة، أكتب!

لا أستطيع أن أقول أن هذه الكتابة قد ترقى لمستوى أن تكون شهادة للتاريخ عمّا يحصل على هذه الأرض المقدسة، لكن قد يصح أن أقول أنها تدوينٌ لمذكرات شابة عشرينية، تَشَكَّلَ وعيها بطريقة مختلفة!

كثيرًا ما وددت أن أجلس لأي جمع من الشباب العرب أوالمسلمين – الذين على الأغلب لم يدخلوا فلسطين – وكذا شباب فلسطين المغتربين في أصقاع هذه الأرض، الذين ولدوا في الغربة ولم يعايشوا فلسطين إلا افتراضيًا بالصور والأخبار – ولا أعني أبدًا هنا أبناء المخيمات، بل أعني الشباب الذين يعيشون خارج نطاق المخيمات، أسمع منهم عن نظرتهم لفلسطين، فلسطين التي منذ تفتح وعيهم على الدنيا وهي محتلة، منطقة متفجرة، مليئة بالصراع، والقتال والدم، على الأقل هكذا كانت وسائل الإعلام تنقل الصورة، بل ربما إن تسلسل الأحداث لم يكن يفسح المجال لها لتنظر إلى فلسطين من الزاوية الأخرى.

زاوية القتال الصامت، الحرب التي لا دم فيها ولا صخب، الحرب التي ضد الإنسان في كل لحظة دون أن تراق قطرةُ دمٍ واحدة، الحرب التي يُقتَلُ فيها الإنسان الواحد كلَّ يومٍ ألف مرة!

صديقي الشاب العربي الذي تقرأ لي الآن، ما أريد أن أتفق أنا وأنت عليه منذ البداية هوأنَّ الحرب في فلسطين ليست فقط ما تراه أوتسمعه في الأخبار؛ حين تتفجر المواجهة في غزَّة على شكل حرب طاحنة، ولا هي التي تتابع أخبارها في الضفة الغربية حين يرتقي شهيد فتندلع المواجهات بين الشبان والاحتلال قرب نقاط التَّماس، هي أيضًا ليست ما قد تسمعه عن حملات الاعتقالات الوحشية التي تشنها قوات الاحتلال تحت جنح الظلام، هي ليست أيضًا ما تكون قد قرأته في كتاب تاريخ من مئات الصفحات أو شاهدته في فيلم وثائقي لمدة ساعة عن مجريات النكبة والجرائم التي ارتكبت، من قتل وتنكيل وتهجير وهدم، القضية أكبر وأعمق من هذا بكثير!

كلُّ ما نقلته آلة الإعلام وتنقله عمّا يجري هنا أوفي أي بقعة متفجرة في هذا العالم لا يتعدى كونه الصورة السطحية جدًا للحرب، تتحدث وسائل الإعلام عن هجوم بالأسلحة – على اختلاف أنواعها – بين الطرفين المتحاربين، عن قتلى وجرحى ودمار،

هذه هي الهيكلية العامة لأي خبرٍ قد يرد من أي منطقة فيها حرب، مع اختلاف في التفاصيل بحكم المنطقة وسبب المواجهة وعدة معايير أخرى، كل أشكال الحرب التي تقدم ذكرها لا تعتبر إلا انفجارًا لحظيًا تنشغل به وسائل الإعلام وقتًا قد يطول أو يقصر، ثم حين تهدأ جبهة الصراع يهدأ كلُّ شيء وتتذيل القضية القائمة، لحين حدوث انفجار جديد!

لكن الحقيقة التي على كل واحدٍ منّا إدراكها هي أنه ثمَّة حربٌ قائمة ومستمرة، لا تتوقف ولا تنتهي، الحرب الصامتة، الحرب التي لا دم فيها، ولا ضجيج، الحرب التي لا تلتفت لها وسائل الإعلام – غالبًا – على الإطلاق، الحرب التي لم تتوقف منذ أعلن هرتزل في بازل أن فلسطين ستكون هي الوطن القومي لليهود، الحرب التي تتمخض عنها المواجهات اللحظية الصاخبة التي حدثتك عنها سابقًا، لا أحد يلتفت إلى أن الحرب الصامتة هي سبب المواجهة الحقيقي العميق، ينظرون إلى الأمر من زاويته الدولية والحسابات الدبلوماسية، ويغرقون في التحليلات السياسية واستشراف آفاق مستقبل المنطقة بعد انتهاء المواجهة، وعن التهدئة وعن المفاوضات، وعن كل ما قد يخطر ببالك من حلول لا تستأصل السبب الحقيقي لهذه الانفجارات المتتالية في فلسطين وما حولها!

في علم الطب هناك أمراضٌ تسمى الـ silent killers، ضغط الدم مثلًا، السرطان، وغيرهما، ضغط الدم والسرطان يفكران تمامًا كما يفكر واقع الحرب هنا، تظل الحالة تتطور بصمت مطبق دون أن يلاحظ ذلك أحد حتى المريض نفسه، ثم فجأة حين يأتي الحفيد الصغير فيكسر زجاجة الماء بغير قصد يغضب منه الجد، فيتصدع رأسه بشدة وقد يفقد وعيه، ثمَّ حين يخضع للتشخيص نكتشف أنه يعاني من ارتفاع حادٍ في ضغط الدم، ظاهريًا وللوهلة الأولى سيعتقد الجميع أن السبب هوما فعله الصغير، والحقيقة تقول بأن ما فعله الصغير هو الشعرة التي قصمت ظهر البعير فحسب، وأن المرض ساكن في الجسد منذ فترة طويلة، يقتل بصمت!

كذلك السرطان، كذلك أمراض القلب، وكذلك الحرب هنا أيضًا، قد تغتال إسرائيل قياديًا بارزًا في المقاومة فتشتعل حرب، السبب الحقيقي هو اغتيال هذا الرجل؟ قطعًا لا، قد تطلق المقاومة زخاتٍ من الصواريخ، فتقوم لأجلها حرب، السبب الحقيقي هذه الزخات؟ من المؤكد، لا.

الحرب الأخيرة في غزَّة، كان سببها الظاهري هو عملية اختطاف الجنود الثلاثة في الخليل، لكن في الحقيقة السبب ليس كذلك، إنما هو الحجة التي تذرعت بها إسرائيل لتحاول مجددًا سحق المقاومة في غزَّة.

مقدار ما يراه العالم مما يجري هنا هوربالضبط بمقدار ما رأى أحد المراجعين حالة الجد حين ارتفع ضغطه، حتى الجد نفسه، لم يلتفت لمرضه إلا حين غضب، وظهرت الأعراض عليه بوضوح.

قد أصدمك يا صديقي إن قلت لك بأن الحرب الصامتة هذه لا توجعنا نحن وحدنا فقط، بل إنها توجع الطرف الآخر أيضًا، توجعه أكثر منّا بكثير، وأستطيع أن أقول لك بثقة مطلقة، بأن نتائجها النهائية ستظهر أن الخسارة في طرفهم ستكون أضعاف خسارتنا،

الحرب الصامتة لن تنتهي حين نرفع راية النصر المبين في جنبات القدس، ويعتلي بلال سطح الجامع القبلي أو قبة الصخرة، يؤذن أذان الفتح العمري الجديد، ربما نحن بحاجة إلى جيلين على الأقل لنُشفى من مرارة الحرب، لكننا قطعًا لن نموت ولن نتلاشى خلال هذه المواجهة، ولن نهزم عن فلسطين الجميلة التي لن تنتصر عليها الحرب الصامتة، سأكتب لكم عن فلسطين التي رأيتها في عيني جدّي، في صبره وتحديه، وفي كلّ فسيلة غرسها في محيط بيته، في قلبه النابض بالدفء والحب، كان وما يزال وسيبقى، عن فلسطين بعمق أبعد من خبرٍ عبر وسائل الإعلام.