تمر العلاقات السودانية الإثيوبية هذه الأيام بانعطافة تاريخية نحو المواجهة لأول مرة منذ عقود، بعد علاقات وصفت بالدافئة جدًا في زمن النظام السوداني السابق. لا يمكن اختزال هذا التحول السوداني في غضب المكون العسكري السوداني من أديس أبابا بسبب دعمها المكون المدني في منظومة الحكم الانتقالي كما يعتقد بعض المحللين، أو في تحريض طرف ثالث مصري للسودان ليغير موقفه من إثيوبيا.

فالعلاقات بين الدول لا تشبه العلاقات بين الأفراد والشعوب التي ترتبط بالثقافة واللغة وحتى الدين، فنجد عداء شديدًا ما بين أذربيجان الشيعية وإيران الشيعية رغم أن هاتين الدولتين يجمعهما المذهب والدين والجوار، وحتى الانتماء العرقي؛ ذلك لأن موقع أذربيجان يهمّش الموقع الاستراتيجي لإيران كممر للبضائع والطاقة بين أوروبا وآسيا الوسطى، كما أن تحالف أذربيجان مع إسرائيل يهدد الأمن الإيراني باستمرار.

ترتبط العلاقات بين الدول بالمصالح الاقتصادية أولًا، وبالمشاغل الأمنية ثانيًا؛ ولذلك فإن كل الدول تغير مواقفها من القطيعة للتعاون أو العكس بحثًا عن تعظيم المصالح الاقتصادية وتوفير الأمن، وهذا المنطق هو ما نجده في قوله تعالى في سورة قريش: «الذي أطعمهم من جوع . وآمنهم من خوف» .

التغير الذي حدث في الموقف السوداني في العلاقة مع إثيوبيا يمكن فهمه على هذا الأساس. فالموقف السوداني تغيّر من عهد  نظام البشير والعام الأول من الفترة الانتقالية؛ لأن الموقف السوداني القديم لم يعد يحقق مصالح السودان العليا.

فالسودان لم يتقبل محاولة فرض الأمر الواقع التي قامت بها إثيوبيا في الصيف الماضي، بعد ما قامت بالانسحاب من مفاوضات واشنطن رغم انخراطها في المحادثات حتى النهاية، وتعذرها بإجراء الانتخابات، ثم القيام بتنفيذ الملء الأول لسد النهضة دون توافق مع السودان ومصر، وما صاحب ذلك من وقاحة سياسية واستفزاز  لا يعترف بالاتفاقات التاريخية، خصوصًا اتفاقية 1902 التي منعت قيام أي منشأة إثيوبية على النيل الأزرق إلا بموافقة السودان، وقامت بترسيم الحدود بين أديس أبابا والخرطوم.

هذا التغيير في الموقف السوداني يجب ألا يفهم منه أنه انسياق خلف الموقف المصري كما تزعم أديس أبابا، بل هو موقف جديد يبحث عن المصالح السودانية. مصلحة السودان هي في أن يكون شريكًا في إدارة سد النهضة. هذه الشراكة في إدارة سد النهضة هي التي سوف تحمي السودان مما حدث في خريف العام الماضي عندما ملأت أديس أبابا بحيرة السد الملء الأولى، ثم فتحت من دون تنسيق بوابات السودان لتغرق الخرطوم وسنار والجيلي شمال السودان؛ ما تسبب في خسائر اقتصادية هائلة للبلاد وفوضى أمنية كبرى؛ بينما ما تبحث عنه مصر هو اقتسام مياه النيل وتعيين حصة مخصوصة  لها منه. هذا الأمر ليس أولوية للخرطوم كما هو للقاهرة، والسبب هو أن السودان دولة معبر ومصر دولة مصب، فهناك اختلاف في الأولويات.

تداخل مع هذا الأمر، أخيرًا، الصراع الحدودي بسبب عدوان الميليشيات الإثيوبية على منطقة الفشقة السودانية، والحرب الأهلية في إقليم تيجراي بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم تيجراي التي أُسقطت بالقوة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، ما تسبب في كارثة إنسانية ونزوح عشرات الآلاف نحو السودان، وسبب صداعًا لحكومة الخرطوم التي لا يمكن أن تتخلى عن التزاماتها بتوفير الأمان للاجئين، وهو ما اعتبره رئيس الوزراء الإثيوبي دعمًا لإقليم تيجراي عبر توفير ملاذ آمن للمطلوبين.

ورغم تفكيك السودان لعدة خلايا تجسس حبشية وسط اللاجئين، فإنه لم يقدم هذا الأمر لوسائل الإعلام من أجل عدم توتير الأجواء أكثر من ذلك، لكن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد اتخذ قرارًا خطيرًا، وهو  الضغط على الخرطوم عبر تهديد الحدود الشرقية عبر تحريك ميليشياته الموجودة في منطقة الفشقة السودانية لعمل كمين للجيش السوداني تسبّب في مقتل وإصابة عدد من الجنود؛ كذلك القيام بعدة حركات استفزازية عبر إطلاق مستمر للمقذوفات نحو الأراضي السودانية بزعم مطاردة مسلحي جبهة تحرير تيجراي.

تحول الأمر لوضع لا يمكن السكوت عليه، وبدأ الجيش السوداني إعادة انتشار واسع في منطقة الفشقة، قام فيها بطرد جميع الإثيوبيين الذين يقيمون بشكل غير قانوني على الطرف السوداني من الحدود، كما تم طرد جميع مسلحي «الشفتة» (ميليشيا إثيوبية تحاول السيطرة على منطقة الشفقة الحدودية مع السودان)، ولكن بسبب كبر مساحة المنطقة، فما زال الشفتة موجودين في بعض أطراف الفشقة السودانية .

الغريب في الأمر أن حكومة أديس أبابا أعلنت عدم اعترافها بترسيم الحدود الذي تم في في اتفاقية 1902، وبالتالي بدأ القوميون من عرقية الأمهرا، الداعم الرئيس لأحمد، بالترويج لأن هذه أراضٍ إثيوبية يحتلها الجيش السوداني. وبدلًا من أن تقوم أديس أبابا بتصويب هذه الأقوال، بدأت الحكومة الإثيوبية ترددها. فزعم آبي أحمد في البرلمان الإثيوبي أن الحكومة الإثيوبية السابقة اعترفت للسودان بأراضٍ إثيوبية، علاوة على المواقف المستفزة الإعلامية الصادرة عن المكتب الإعلامي لرئاسة الوزراء الإثيوبية والخارجية الإثيوبية والمتحدث باسم الجيش الإثيوبي التي تصف التحركات السودانية بالعمالة لأطراف أخرى، في إشارة لا تخفى إلى مصر، وهو ما يرفضه السودان.

ما المقبل؟

هناك ثلاثة سيناريوهات لتطور الأزمة بين السودان وإثيوبيا. الأول، هو أن يبادر الإثيوبيون بفصل الملفات، فيتم ترسيم الحدود مع السودان، ثم تسوية قضية سد النهضة بحيث لا يتم أي ملء جديد للسد إلا عبر اتفاق كامل وشامل لإدارة السد. إعلاميًا، ما زال السودان غير راغب في التصعيد مع إثيوبيا؛ ولكن القوميين الأمهرا الذين يتحالف معهم آبي أحمد سوف يرفضون أي حل لا يتضمن استيلاءهم على منطقة الفشقة أو إيجاد صيغة ما لبقائهم تحت مسمى مزارعين موسميين كما كان الحال في زمن الرئيس السابق عمر البشير؛ وهو الأمر الذي لن يقبله السودان بأي حال.

كما أن قبول إثيوبيا بالإدارة المشتركة لسد النهضة سوف يضر بسمعة آبي أحمد الذي يسوّق نفسه لأتباعه أنه قادم ليعيد أمجاد إثيوبيا، ولذلك تهرب آبي أحمد من توقيع أي اتفاق قبل الانتخابات لأن توقيعه أي اتفاق سوف يواجه أزمة تسويق وسط أتباعه الذين يرددون أن النيل نهر إثيوبي، ولا حق لمصر والسودان أن يقررا لإثيوبيا ما الذي يجب أن تقوم به تجاه أحد الأنهار الإثيوبية.

السيناريو الثاني، هو أن يصر آبي أحمد على خلط الأوراق والترويج لكون عملية انتشار الجيش السوداني في الفشقة السودانية هو تحريض من جهة خارجية، وبالتالي سوف يقود هذا المسار إلى الحرب بين السودان وإثيوبيا لا محالة؛ فالسودان لن يقبل بالتواجد الإثيوبي في الفشقة ولا بملء جديد لسد النهضة دون اتفاق.

هذه الحرب لن تكون مقتصرة على السودان وإثيوبيا، فسوف تكون إريتريا جزءًا من الحرب لا محالة، فالتحالف بين أسياسي أفورقي وآبي أحمد يبدو كزواج كاثوليكي، وهم متحدون ضد حلفاء السودان المحتملين وهم جبهة تحرير شعب تيجراي وبقية التنظيمات القومية الأخرى كحركة تحرير بني شنقول. لن تكون الحرب بين إثيوبيا والسودان وحدهما، بل ستمتد نيرانها لتحرق القرن الإفريقي كله. وللأسف، هذا السناريو هو الأكثر احتمالا، والجميع كان يخشى هذا الكابوس منذ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي عندما أعلن آبي أحمد انتصاره في الحرب على تجراي.

السناريو الثالث، هو التدخل الدولي الحميد. وهذا الأمر يعتمد على إدارة الرئيس بايدن المقبلة إلى حد كبير ورغبتها في حل أزمات العالم. ولكن الأوضاع الداخلية في أمريكا لن تشجّع بايدن على القيام بخطوة كبيرة لحلحلة هذا النزاع بسبب أن هناك صراع لوبيات داخل الحزب الديمقراطي، بين اللوبيات الداعمة لآبي أحمد والأخرى الداعمة لجبهة تحرير تيجراي. وحتى الآن، من غير المعلوم من هو اللوبي الذي سينتصر، علمًا أن الحزب الديمقراطي كان تاريخيًا حليفًا لجبهة تحرير تيجراي منذ إسقاطها نظام الدرج الشيوعي في  مطلع تسعينيات القرن الماضي.

التدخل الذي أعنيه هو تدخل الولايات المتحدة الأمريكية لوقف الحكومة الإثيوبية عند حدها بإجبارها على التوافق مع السودان ومصر في سد النهضة، والانسحاب الإثيوبي من الفشقة قد يكون سيناريو يحفظ ماء وجه جميع الأطراف.