نحن نسير في طريق هذه الرسالة، الثورة الخالدة، الثورة الحقيقية، ومن لا يمشي معنا يسقط تحت أقدامنا.
معمر القذافي، في خطابه بمدينة زوارة، 15 أبريل/نيسان 1973

في الأول من سبتمبر/ أيلول من عام 1969، التاريخ الذي استمدت منه ثورة الفاتح الشهيرة اسمها. تحركت مجموعة من الضباط الأحرار الليبيين، وأنهت الحكم الملكي في بنغازي، في انقلابٍ سلمي حظي بتأييد شعبي وعسكري واسع.

لكنَّ القذافي والأجنحة الموالية له في مجلس قيادة الثورة سُرعان ما أدركوا فشلهم في حشد وتسييس الجماهير الليبية للمشاركة السياسية عن طريق منظمة الاتحاد العربي الاشتراكي، وبطء وترهل الجهاز البيروقراطي الليبي الذي قاوم أغلب الإصلاحات الاقتصادية للقذافي، ومثَّل عقبةً في طريق الثورة، من وجهة نظره. ومن ثمَّ ارتأى القذافي وجوب شن ثورة شاملة جديدة، سياسية واجتماعية وثقافية، تجبُّ ما قبلها، من أجل بناء نظامٍ ديمقراطي حقيقي.

ما سعى القذافي إلى تقديمه كان نظامًا فريدًا يجمع بين الديمقراطية المباشرة، والاشتراكية الاقتصادية، والشريعة الإسلامية، صاغ ملامحه في «الكتاب الأخضر». عمله الشهير والدستور الفعلي للجماهيرية العربية الليبية. غير أن التطبيق العملي أنتج نظامًا دكتاتوريًا عنيفًا، فرَّغ المجتمع الليبي من الداخل وأضعفه بشدة، وبدد ثروة نفطية طائلة في مشاريع اقتصادية فاشلة، وحروب لا طائل من ورائها. وتلا ذلك محاولات لإصلاح النظام من الداخل، ومخاطبة الجوانب القمعية التي ظهرت بقوة في عنف اللجان الثورية الذي عجز القذافي في ما يبدو عن السيطرة عليه.


النظرية العالمية الثالثة

لأسباب واضحة، من الصعب إلقاء نظرة جادة على الإنتاج الفكري للعقيد معمر. من بين الاقتباسات الأكثر تداولًا من الكتاب الأخضر تأكيد على أن «المرأة أنثى، والرجل ذكر»، كدليلٍ يدعم نظريته حول استحالة المساواة المجتمعية الكاملة بينهما. لكن فكر القذافي يكتسب أهميته لا من قوة الحجة والنظرية المحكمة، بل من كونه مخططًا لواحدة من أكبر تجارب الهندسة الاجتماعية وأوسعها نطاقًا في الشرق الأوسط.

يفتتح القذافي كتابه الأخضر، الذي نُشِر أول مجلداته في العام 1975، بقوله إن «أداة الحكم هي المشكلة السياسية الأولى التي تواجه المجتمعات البشرية». ففي نظر العقيد معمر، والكثير من الليبيين الذين تزامنت ولادتهم مع عصر الاحتلال الإيطالي لليبيا الذي حصد قرابة نصف مليون قتيل، لم تكن الدولة الحديثة أداة مقبولة للحصول على السلطة وتنفيذ السياسات، بل أداة لاستغلال الشعب وقمعه. وكان من الصعب إقناع الشعب الليبي بأن الدولة الحديثة تخدم الصالح العام، بعد تجاربهم السلبية مع الإيطاليين والعثمانيين والحكم الملكي من بعدهم. الدولة، من هذا المنطلق، اختراعٌ أجنبي على الليبيين، وقرر القذافي شن حملة ضدها، وضد النظريات العلمية المنهجية للممارسات السياسية[1].

لكن ما هي أداة الحكم المناسبة؟

احتقر القذافي الديمقراطية النيابية، باعتبارها «حلًا تلفيقيًا لمشكل الديمقراطية». فالسيادة الحقيقية هي سيادة الشعب، وانتخاب نواب ممثلين للشعب يصنع «حاجزًا شرعيًا بين الشعوب وممارسة السلطة». لا يشترك القذافي في اعتبار الديمقراطية النيابية تطورًا عن الديمقراطية المباشرة، بل يراها انحرافًا إلى الدكتاتورية. وينطلق الكتاب الأخضر من هذه النقطة ليطرح جانبًا الأحزاب التي هي «أداة الحكم الدكتاتورية الحديثة»، والاستفتاءات التي هي «تدجيل على الديمقراطية» بحصر التصويت بين نعم ولا.

هذه الانتقادات، على بساطة اللغة والحجة التي يقدمها بها القذافي، لها أدلتها الواقعية، وبل وسوابقها النظرية. بالفعل قامت واحدة من أعتى الأنظمة الدكتاتورية في العالم، نظام أدولف هتلر، من انتخابات نيابية نزيهة. وقد سبق أن صاغ السوسيولوجي الألماني روبرت مايكلز نظرية «القانون الحديدي للأوليجاركية»، التي تذهب إلى أن كافة التنظيمات الحديثة تحكمها أقلية في نهاية المطاف تتولى تشكيل سياستها وتوجهها، حتى في ظل الأنظمة الديمقراطية.

ننتقل إلى «النظرية العالمية الثالثة»، التي يقدمها القذافي كبديلٍ لنظريتي الرأسمالية والشيوعية يناسب دول العالم الثالث. تحت اسم «الجماهيرية»، يضع القذافي ملامح نظامٍ سياسي قائم على التراجع إلى الديمقراطية المباشرة، التي «كان» أسلوب تطبيقها مستحيلًا، وفقًا للكتاب الأخضر، قبل نشأة فكرة «المؤتمرات الشعبية» و«اللجان الشعبية». عبر تشكيل أجهزة تشريعية/رقابية وتنفيذية مصغرة في كل قرية ومدينة، تضم جميع المواطنين بلا استثناء، تتحول «رقابة الشعب على الحكومة» إلى «رقابة الشعب على نفسه»، ويصبح الشعب ليس فقط مصدر السلطات، بل أداة السلطة نفسها.

في جماهيرية القذافي القائمة على الديمقراطية المباشرة، لا مجال – نظريًا بالطبع – لأي شكلٍ من أشكال التمييز، سواء الطبقي أو العرقي أو الجنسي. وبالتبعية تبنى القذافي في جماهيريته النموذج الاشتراكي، القائم على الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج عوضًا عن تركزها في أيدي طبقة بعينها. لم يحظر القذافي الملكية الخاصة برمتها، بل وضع لها حدودًا، تقضي ألا يمتلك الشخص أكثر من احتياجاته الأساسية، وأن يقتصر إنتاجه على ما عمله الشخصي دون استئجار العمالة. وما زاد عن ذلك فهو ملكية مشتركة للعاملين فيه.


اللجان والمؤتمرات الشعبية

انطلق القذافي ليُعلِن ثورته بدءًا من العام 1973، في خطابه الشهير بمدينة زوارة الليبية أمام حشدٍ من أنصاره، بمناسبة المولد النبوي الشريف. لم يأتِ اختيار الموعد اعتباطًا، فقد رأى القذافي دورًا مركزيًا للدين الإسلامي في أيديولوجيته الوليدة، واصطبغت أفكاره وخطابه بصبغة إسلامية واضحة، مشبهًا ثورة الفاتح ضمنيًا بدعوة النبي محمد التي صنعت دولة عظيمة عبر التنظيم السياسي لقبائل صحراوية اعتادت على التناحر فيما بينها.

في خطابه، وضع القذافي خمس نقاطٍ من أجل تحقيق أهداف الثورة الليبية، تضمنت إلغاء كافة القوانين المعمول بها في ليبيا، وإلغاء أدوات الدولة الكلاسيكية كما أسماها، في ما عدا منصب الرئيس وعددٍ من المناصب العليا الأخرى، وبدء ثورة ثقافية تطهر ليبيا من البيروقراطيين والبرجوازيين، وجميع الأفكار الهدامة المُعادية للشعبية الجماهيرية وثورة الفاتح.

دعا القذافي المواطنين إلى تكوين لجان شعبية منتخبة في كل القرى والمدن الليبية، تتولى إدارة كافة الشؤون العامة وتسيير المصانع والكليات. وبالفعل، في أكتوبر/تشرين الأول، صارت اللجان الشعبية مسؤولة بالكامل عن إدارة الشؤون العامة في ليبيا. في بداية الأمر، لم تتقاضَ الإدارة المنتخبة لهذه اللجان رواتب عن أعمالها، باعتبار خدمة الشعب شرفًا وطنيًا. وكما هو متوقع ثبتت عدم فعالية هذا النموذج إداريًا، وتم تخصيص رواتب لرؤساء اللجان وموظفيها بدوامٍ كامل.

بعدها بدأ العمل على تشكيل المؤتمرات الشعبية الأساسية، الجهاز التشريعي المكافئ للجان التنفيذية. بصفته مهندس النظام السياسي الثوري الجديد، حضر القذافي انعقاد أول مؤتمر شعبي أساسي بمدينة تاورغاء في العام 1976، وأسهب في شرح تفاصيل النظام السياسي الجديد للمواطنين، مؤكدًا على مبادئ المساواة الكاملة بين كافة المواطنين رجالًا ونساءً، وعلى المسؤولية الديمقراطية الملقاة الآن على عاتقهم من أجل التشريع والتنفيذ لأنفسهم وبأنفسهم، في كل ما يخص حياة المواطن، من الخدمات العامة إلى التنمية الاقتصادية، إلى السياسة الخارجية والدفاع. قراراتهم، كما زعم القذافي، ستكون سارية فور إصدارها، ولا يجوز التدخل فيها بالإلغاء أو التعديل، حتى من جانبه هو، قائد ثورة الفاتح[2].

أخيرًا، تنتخب قيادات المؤتمرات الشعبية الأساسية أعضاء المؤتمر الشعبي العام، وهو الجهة التشريعية العليا في النظام الجماهيري. ويعيِّن المؤتمر الشعبي العام أعضاء اللجنة الشعبية العامة، السلطة التنفيذية العليا. ثم كانت الخطوة التالية، التي أصر عليها القذافي رغم اعتراضات أعضاء المؤتمر الشعبي العام واللجنة الشعبية العامة، هي حل مجلس قيادة الثورة، وتسليم القيادة بالكامل للشعب. وقد كان للقذافي ما أراد. في مارس/ آذار من العام 1977، انعقد المؤتمر القومي العام، وألقى فيه القذافي «إعلان قيام سلطة الشعب»، ليؤسس بذلك الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية، ويحل مجلس قيادة الثورة، ويخلع عنه الألقاب الرسمية، مكتفيًا بأن يكون يكون «الأخ القائد»، وملهم ثورة الفاتح.


دكتاتورية غير رسمية

لكن القذافي، في مقاربته لنظام الديمقراطية المباشرة، أغفل المشكلة الرئيسية التي أدت إلى استحالة سير الديمقراطية المباشرة بشكلٍ فعال، والحاجة إلى استبدالها بديمقراطية نيابية: أغلب المواطنين لا يميلون إلى الانشغال بأمور السياسة إلا بصورة متقطعة. كان هذا واضحًا في التردد طويل الأمد الذي أصاب الليبيين بعد إعلان العقيد دعوته لهم ليتسلموا زمام الأمور بأيديهم. تطلب الأمر الكثير من الإعلانات والمناشدات، وهاجم القذافي في خطاباته أعداء الديمقراطية وأعداء الشعب، ومن يتخلفون عن أداء واجبهم الديمقراطي.

كان لغياب الثقافة السياسية المواتية لتأسيس الجماهيرية دورٌ أساسي في تعطيل عملها. فلم يكن المطلوب من الشعب الليبي فقط المُشاركة الفاعلة في الجماهيرية الجديدة، بل فهم نظامٍ جديدٍ تمامًا لا يوجد ما يماثله في التاريخ الليبي أو حتى في الدول المحيطة. لم يؤمن العديد من الليبيين بأن النظام سيتخلى بالفعل عن سلطته بالكامل للشعب، أو أن قراراتهم ستُحدِث تأثيرًا ملموسًا في تشكيل السياسات الليبية. وحتى من شاركوا بفعالية كانت تنقصهم الكثير من الخبرات الإدارية والتنظيمية، ما فتح الباب أمام التربح الوظيفي، وسيطرة التكتلات والقوى الأكثر تنظيمًا على المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية.

وقد كانت مخاوف الليبيين في محلها، خاصةً في ما يتعلق بالسياسات الخارجية والاقتصادية للنظام الليبي. فقد ظل اتخاذ القرارات في هذين المجالين مركزيًا بدرجةٍ كبيرة. كان قرار تعبئة الجيش الليبي للتدخل العسكري المتكرر في التشاد، الذي امتد من أواخر السبعينات إلى أوائل الثمانينات، قرار العقيد معمر ومعاونيه منفردين، دون السماح للمؤتمر الشعبي العام حتى بمناقشة التدخل والموافقة عليه. كذلك كان الدعم الليبي لعددٍ من الحركات في أنحاء العالم مسألةً انفرد فيها القذافي باتخاذ القرار، دون الرجوع إلى قواعد الشعب. ألقى نظام القذافي بثقله، مستعملًا العائدات النفطية الضخمة، خلف عددٍ من الحركات العالمية والعربية، ومنها الجيش الأحمر الأيرلندي، ومنظمة التحرير الفلسطينية، واكتسبت ليبيا سمعةً عالمية في تدبير عمليات خطف الطائرات، واغتيال المعارضين الليبيين في الخارج. وكان من أكبر تجاوزات النظام الليبي تفجير طائرة ركاب فوق قرية لوكيربي الإسكتلندية، وهي القضية التي كان لها تبعات واسعة على موقف ليبيا على الساحة الدولية، ومُواجهات مع الولايات المتحدة الأميركية، التي حاولت اغتيال القذافي في 1986، ولم تنجح في ذلك.


اللجان الثورية.. أدوات «الرعب الأخضر»

في غياب المشاركة الفاعلة من المواطنين، كان على القذافي التدخل، باعتباره قائد ثورة الفاتح ومفكرها الأبرز، لتصحيح المسار كلما رأى انحرافًا عن رؤيته للجماهيرية الاشتراكية. وقد بلغ توجه القذافي للتدخل غير الرسمي في السياسة الليبية ذروته مع الدعوة لإنشاء «اللجان الثورية» داخل الجيش الليبي، بهدف زيادة وعي الجماهير وحثهم على المشاركة في ديمقراطية القذافي الشعبي، وقطع الطريق أمام عودة طرق الحكم التقليدية.

فعليًا، تحولت اللجان الثورية إلى طليعة لثورة الفاتح، مارست على مدار حكم القذافي أساليب الترويع ضد الليبيين، والحرص على القضاء على أي شكل من أشكال التعدد السياسي في المجتمع الليبي، حرصًا على نجاح النظام الجماهيري. ومع الوقت، اكتسبت صلاحية محاكمة الموقوفين في «محاكم ثورية» تحكُم بقانون الثورة؛ مصطلحين مطاطين قادا إلى فترة من قمع الحريات المدنية، في ما عُرِف بـ «الرعب الأخضر».

ومع أن حركة اللجان الثورية كانت حركة غير رسمية لا يتمتع أعضاؤها بمناصب تنفيذية أو تشريعية، فإنها صارت بحكم ممارساتها القمعية الذراع الأمنية لنظام القذافي، وتمتعت قياداتها بكافة الامتيازات، لتصبح طبقة حاكمة غير معترفٍ بها في ليبيا. ومن بين أبرز قادة اللجان الثورية هدى بن عامر، قائدة لجنة بنغازي الثورية حتى سقوط نظام القذافي، وواحدةٌ من أشرس مؤيدي القذافي. شاركت هدى في العديد من عمليات الإعدام العلنية، والحملات على الحراك الطلابي في بنغازي.

تزايد مع الوقت فشل النموذج السياسي والاقتصادي للجماهيرية وضوحًا، وتصاعد السخط على الانتهاكات المستمرة من جانب اللجان الثورية. ومع اقتراب نهاية الثمانينات وانخفاض أسعار النفط، اضطر نظام القذافي إلى بدء ما أسماه بـ «ثورة داخل الثورة»، شملت عددًا من الإصلاحات الاقتصادية الليبرالية لقطاعي الزراعة والصناعة، ووضع القيود على أنشطة اللجان الثورية عبر تأسيس وزارة التعبئة الجماهيرية والقيادة الثورية. غير أن هذه الإصلاحات التجميلية لم تفعل الكثير في مواجهة الأزمات التي عانت منها الجماهيرية منذ نشأتها.

المراجع
  1. Lisa Anderson (2001). Muammar al-Qaddafi: The “King” of Libya. Journal of International Affairs, 54
  2. Mohamed A. El-Khawas (1984). The New Society in Qaddafi's Libya: Can It Endure? Africa Today