من الضروري لأجل فهم وإدراك شامل لأي رواية أو ديوان شعري أو مقال فلسفي، أن يتم وضعه في سياقه التاريخي، لأنه من الطبيعي أن ينتمي الكاتب والفيلسوف إلى فترة تاريخية يرتبط بها ويتفاعل مع أحداثها. وخاصة عندما يصبح عمله لا ينفصل عن السياق السياسي والإيديولوجي والاجتماعي الذي تواجد فيه. ومن المؤكد أن هذه هي حالة الفيلسوف «ميشيل فوكو»، الذي كان من الفلاسفة الكبار ومن القامات الفكرية التي شهدت على أحداث واضطرابات القرن العشرين، فأعماله ومواقفه قد أثارا العديد من الأفكار والتحليلات الفطنة للتاريخ السياسي والفني والفكري.

ميشيل فوكو المفتون بهوامش المجتمع، استولى على المواضيع التي تهملها الفلسفة، مثل الجنون والجريمة والنشاط الجنسي. وفي صلته المباشرة بعصره، لم ينفصل فكره أبداً عن التزاماته، التي تذهب به إلى معارضة السلطة، فرحلته تتسم بذلك المجيء والذهاب بين الحياة والحراك الثقافي. لا يوجد شيء خارج تجاربه لأن الحياة والمواقف الفكرية العصيبة يتردد صداها حتمًا في أعمال الفيلسوف الحي الذي يصغي إلى أنين العصر:

لا يوجد كتاب كتبته من دون خبرة شخصية مباشرة، ولو جزئياً.[1]

فوكو: المثقف الملتزم بامتياز

في عام 1970، انُتخب ميشيل فوكو كمدرس في «Collège de France»، حيث درّس حتى نهاية حياته. عُرف بالتزامه ونشاطه الفعال داخل المجتمع الفرنسي، حيث اشتهر بمواقفه الجريئة وانتقاده للمؤسسات. تهتم فلسفته المرتبطة بالحركة البنيوية في كثير من الأحيان، بكافة أشكال السلطة التي تُمارس على الناس.

بناءً على فكرة من رفيقه «دانييل ديفيرت»، أعلن في 8 فبراير/شباط 1971 عن إنشاء مجموعة لجمع معلومات عن السجون. إن هذا البرنامج جمع محاميين وأطباء ومثقفين، وضعوا لأنفسهم مهمة تنبيه الرأي العام بشأن ظروف معيشة السجناء المتردية، وهذا من خلال جمع شهاداتهم.

يتوج الفيلسوف الفرنسي هذه التجربة عام 1975، فيخرج كتابه «المراقبة والعقاب» إلى الوجود، والذي جاء في سياق خاص وهو اندلاع الثورة الثقافية بفرنسا في مايو/آيار 1968، وكذلك العديد من الثورات في السجون وخاصة «ثورة أتيكا الدموية» التي أودت بحياة 40 شخصًا، والمحاولات المتكررة من السجناء للهروب، مما أدى في بعض الأحيان إلى تنفيذ عقوبة الإعدام في حقهم. يضع هذا الكتاب ظهور المؤسسات العقابية في القرن التاسع عشر في سياق أوسع: بحيث تم ظهور مجتمع تأديبي، أنشأ سيطرة دائمة على الأفراد.

عندما تتوارى السلطة خلف المرافق

مجتمعنا ليس مجتمع استعراض، ولكنه مجتمع مراقبة… فنحن لسنا على المدرجات أو خشبة المسرح، بل داخل دواليب الآلة البانوبتيكية.[2]

جميع أعمال الفيلسوف ميشيل فوكو تناقش مسألة العلاقة بين المعرفة والسلطة، حيث يخبرنا أن السلطة لم تعد متمركزة في السلطة السياسية التي تمسك زمامها الدولة، بل تم إنشاء مواقع سلطوية كلية الحضور داخل المجتمع، هذه المواقع والمرافق غايتها توحيد مقاييس ومعايير السلوكيات بين أفراد المجتمع. فإذا كانت السلطة السياسية الزاجرة والمانعة تبحث عن إسكات الأفواه، وإبقاء الجهل والتخلف بين صفوف العامة، وقمع الحريات والإرادة، فالمرافق الأخرى هي بالأحرى مُنتِجة، تصنع الخطابات وتحث عن البوح. وتتجلى هذه المرافق التي اعتبرها فوكو بأنها سلطوية: في المدارس والمستشفيات والملاجئ والسجون، مما يجعلنا محاصرين أمام جميع المؤسسات التي تزاول مهمة المراقبة، لتحديد من ينضبط أمام المعايير والقواعد المحددة آنفا من طرف السلطة، ومن يزوغ ويكسر قواعد السائد في مجابهة السلطة القامعة، فيُعتبر حالة شاذة ينبغي اجتثاثها من المجتمع.

بناءً على هذا التصور، فكلنا نعيش داخل سجن كبير، تغيب قضبانه عن أعيننا. أقفاص لا مرئية تحد من حرياتنا، وتقيد اللذة والرغبة.

فوكو يُدوِّن بجرأة الفيلسوف الذي لا يخاف من منحدرات القمم:

ما الذي يثير الدهشة إذا كان السجن يشبه المصانع والمدارس والثكنات والمستشفيات، والتي كلها تبدو مثل السجون؟[3]

هو سجن سماؤه مفتوحة، عالم مرير تدق طبول الديستوبيا واقعه، حيث يتم تجريد الفرد من إنسانيته، وتُمارس على حريته وأفكاره كل أنواع الرقابة، فتنتهج السلطة كل أساليب التحريض والمداهمة والتعذيب. فيظل الحفاظ على هذه الحالة المستمرة من الخوف كضمان لبقاء السلطة في دواليب الحكم، لصناعة العقول والسائد، حتى تنفرد بالكلمة الأخيرة والحقيقة المطلقة، وكأنها هي الوحيدة القادرة على إنارة ما أخفاه الله في دهاليز الوجود.

أجساد منصاعة

يظل من الضروري إذن مراقبة وكبح وتقويم الجماهير لحماية الثروات المستثمرة، ولكن أيضًا من أجل دفع الأفراد واستثمارهم من أجل رفع إنتاجيتهم بشكل أكبر. هذه هي الطريقة التي سيتطور بها نوع جديد من ممارسة السلطة، أي ممارسة القوة التأديبية، التي ستنتشر في جميع هياكل المجتمع: المدرسة، والمصنع، والجيش، مروراً بالمستشفيات، وانتهاءً بالسجن.

سيتم استخدام نفس الوسائل في كل هذه المرافق، من خلال تأطير الأفراد وتوزيعهم في أماكن محددة، وفقًا للمستوى؛ والسيطرة على نشاطهم من خلال جداول زمنية محددة، وفقًا لحركات مفصلة؛ والمراقبة المستمرة والتسلسل الهرمي داخل المؤسسات مع آليات للجزاء والعقاب داخل كل مؤسسة تتألف من العقوبات التصحيحية بشكل أساسي.

في المدارس والمستشفيات والثكنات وورش العمل… في كل مكان، يتم زرع التخصصات، بمعنى فوكو، هي «طرق» لإخضاع الأفراد. إنها جزء من «تقنية سياسية» تهدف إلى إنتاج «هيئات سهلة الانقياد» مطيعة ومفيدة.

على سبيل المثال، يتم توزيع الموظفين والطلبة والأساتذة في مساحة مؤطره؛ بحيث يكون نشاطهم مُخطَط بدقة؛ وبحيث يتم فحص أقل تحركاتهم. وفي حالة التقصير، تسقط العقوبة. باختصار: المجتمع التأديبي له «الوظيفة الرئيسية للتدريب والترويض» لأجساد منصاعة، أصبحت شبيهة لروبوتات أو دمى يتم تحريكها عن بعد، خالية من الإرادة والحرية وروح المبادرة غير المقيدة.

وظيفة العقاب وأبعادها

لماذا نعاقب؟ يمكننا أن نستنتج أن هناك أربعة أركان رئيسية للعقاب:

  • الأولى هي فكرة أن العقوبة موجودة للتذكير بالقانون، لإيجاد القانون، بحيث لا ينبغي أن يتمتع أحد بحصانة تمكنه من الإفلات من العقاب على وجه التحديد. ولكي لا يكون القانون عديم الفائدة، ينبغي ألا تظل الجريمة دون عقاب.
  • الثانية، وكما جاء في كل تاريخ الفكر السياسي، نعاقب لحماية المجتمع. إنه مقياس للدفاع الاجتماعي.
  • الثالثة، نعاقب منذ عصر أفلاطون، لتأديب وتغيير الشخص الذي نعاقبه، إنها فكرة وظيفة العقاب البيداغوجية والتربوية.
  • نعاقب لجبر ضرر الضحية.

يتضح من الأركان، أن السجن يستطيع أن يؤدي الوظائف الأربعة للعقاب.

وقد اعتبر ميشيل فوكو، أن الشكل المعماري للسجن، كما تخيله الفيلسوف الإنجليزي «جريمي بنثام»، «البانوبتيكون» Panopticon، ما هو إلا رمز للسلطة التأديبية. هذا الفاحص الكبير يدعم نفسه من خلال «المراقبة الدائمة» التي ينشئها. يُعرِّف الأفراد أنه تتم مراقبتهم، ويستوعبون القيد المعلق عليهم. فلا فرق بين من هم داخل السجن ومن هم خارجه.

في النظام البانوبتيكي، يمكن للمراقب غير المرئي، من حيث المبدأ، أن يكون أي شخص، لأن الشخص الخاضع للمراقبة يدرك إمكانية المراقبة ولكنه لا يستطيع رؤية المراقب المحتمل. بنثام وضع مبدأ أن السلطة يجب أن تكون مرئية، ولكن لا يمكن التحقق من مراقبتها لنا.

يذهب الفيلسوف الفرنسي أبعد من ذلك أثناء حوار له في وثائقي «فوكو أمام نفسه»، عندما سأله الصحفي: بالنسبة لك، ما هو دور القاضي في المجتمع؟ يجيب فوكو مبتسمًا:

إنه يعمل، بشكل أساسي، ليسمح للشرطة بالاشتغال. لا تتم العدالة لأشياء أخرى بعيدة عن أهداف التدوين والتسجيل على المستوى الرسمي والمستوى القانوني وعلى مستوى الطقوس أيضًا؛ هذه الضوابط التي هي في الأساس ضوابط توحيد السلوك والتي تنفذها الشرطة. العدالة في خدمة الشرطة تاريخيًا ومؤسساتيًا.
عندما يطلب القاضي من المتهم الاعتراف بالذنب الذي اقترفه وأن يذل، حرفيًا، نفسه أمامه. في الأساس، يعطينا القاضي الانطباع، بالفعل، أنه يرغب في أن يدوس المتهم. وكأنه يطلب منه أن يقول له: سيدي القاضي، ليس أنت الذي تحكم، إنه المجتمع بأسره، إنه المجتمع الذي أنتمي إليه، وبالتالي إذا طلبتُ عقوبتي، فأنا من يعاقبني، ولستَ أنت، فأنا أبرؤك سيد القاضي. هذا ما يرغب القاضي في سماعه.[4]

إن السجن، وفقًا لما قاله ميشيل فوكو، يربط الأفراد ببعضهم البعض ويجبر الأفراد على أن يعيشوا حياة مصطنعة، ويصبح ملاذًا للتعسف والإساءة التي تمارسها السلطة. وعلى عكس المشاع، فإن السجن ينتج الجريمة ويحث على إنجابها. لذلك، فإن الغرض من السجن، في الواقع، لن يكون في جبر الضرر، بل لإضفاء الشرعية على سلطة المعاقبة وجعل السجن ضروريًا. يصف ميشيل فوكو السجن بأنه نظام شمولي أكثر من غيره.

ينضم تحليل السجن كنظام شمولي إلى تحليل مستشفى الأمراض النفسية الذي أورده عالم الاجتماع الأمريكي «إرفين جوفمان» في كتابه «Asylums»، فمستشفيات الطب النفسي هي أماكن للسيطرة على جميع جوانب الوجود، بحيث تحكم بنفس المبادئ الحاكمة لحياة المعتقلين.

يتنبأ كتاب فوكو بمجيء مجتمع المراقبة، حيث يتم وضع كل شيء تحت المراقبة المستمرة للتسلسل الهرمي المُدلى به. على هذا النحو، يُنشئ هذا العمل رابطًا بين الخيال والواقع، بين Asylums لإرفين جوفمان و1984 لجورج أورويل.

المراقبة تزداد حدة، وعقدة السلطة تزداد متانة؛ ولكن بالنسبة إلى فوكو، حيث توجد السلطة، توجد المقاومة. ولا يمكن أن نجد شيئًا أكثر تميزًا مما ختم به ميشيل فوكو، نفسه، كتابه «المراقبة والعقاب»:

يجب أن نسمع دمدمة المعركة.[5]

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. Sayings and Writings, T.4, Paris, Gallimard, 1994, P: 46.
  2. Discipline and Punish, CH:3, Paris, Gallimard, 1975, P: 218.
  3. Discipline and Punish, CH:3, Paris, Gallimard, 1975, P: 229.
  4. Documentary, Michel Foucault par lui-même.
  5. Discipline and Punish, Paris, Gallimard, 1975, P: 315.