كانت فيوليت تحفته الخلّابة الآسرة، تخيل رسمها لسنوات طويلة ثم بدأ في تشكيلها من شمع عسل النحل والكثير من زهور البنفسج لإكساب بشرتها اللؤلؤية لونًا مميزًا.

عمل «نارسيس» بجد متواصل ورغبة عارمة من أجل تشكيل تحفته هذه، فتاة جميلة مطيعة وفاتنة… مرآة لأحلامه وطموحه وكبريائه. لم يُطلِع أحدًا أبدًا على مشروعه الفني، أراد أن تخرج للنور مكتملة لا تشوبها شائبة… شائبة رؤيتها مجرد مراحل وأطراف مبتورة… أرادها كاملة مثالية –كمثله-.

كان طموحه شاهقًا كخيلائه بذاته، لم يتمالك حبه المتضخم لجميل صنيعه وإبداعه حين رآها مكتملة أخيرًا.

حسنًا، بقي أن تنفخ الآلهة أثينا الروح فيها، لتصير دليلًا حيًا على دقة وسحر عمله.

«أثينا» ابنة النبوءة القوية، تؤمن بالفن ولكنها تكره المختالين، وكما هو ذائع فـ نارسيس كبير المختالين على مر العصور.

انطلق في صباحٍ رائق حيث ترتاح الآلهة على أحد الشواطئ قليلًا، بعد حركة لتخطيط البلاد وتوزيع لمسات من الجمال في أرجائها، حاملًا معه تحفته الفريدة، ما إن اقترب من صفحة الماء هام كعادته على وجهه وأخذ يمدح جماله متناسيًا حضور الآلهة.

وحين أفاق من شروده نظر إليها دون إجلال أو تحية وبنبرة آمرة: «أريد أن تنفخي الروح في جميلتي».

أثينا: هكذا ببساطة دون رجاء ولا قربان؟

نارسيس: يكفيكم أنها صنيعتي، عليكم أن تشكروني على خلق هكذا تحفة.

أثينا: ليكن لك ذلك. عند غروب شمس اليوم تصحو تحفتك وتحيا.

قررت أن تُحييها بعيب صغير دون إخطاره، ولكنها حذّرته ببقائها كأصلها شمع قابل للذوبان بجوار النار والحرارة، جزاء تكبره وغبائه.

قبيل الغروب أخذ يتأملها منتظرًا تلك اللحظة السحرية، حتى فتحت عينيها وابتسمت ثم أخذت تحرك أطرافها شيئًا فشيئًا، ثم قال:

– خلابة! أنا عظيم! مرحبًا فيوليت صنيعتي الجميلة.

= صنيعتك؟ ما هذا الهراء لا تحسبن ذاتك تملكني… أنا فيوليت الفاتنة وأنت مجرد أداة صغيرة في طريقي للنور.

– ولكن..

لم يفهم ما يحدث، كان عليها الوقوع في حبه لحظة التقاء عينيهما، هذه فتاته الجميلة التي جسّدها كما أراد وعليها أن تدور في فلكه. ماذا يحدث بحق السماء؟

تركته مشدوهًا وأخذت تمشي في الطرقات فرحًدة والجميع يطالعها مأخوذًا بعذوبتها. كانت كما أراد يقع في سحرها الكل، لكنها لم تقع في سحره هو صانعها… الأجمل والأقوى.

لم يتحمل انسلاخها من فلكه. وَجَب أن تصير امتداده وظله… مرآته ودليل إبداعه… اللعنة على أثينا!

انتظر بزوغ اليوم التالي. حضَّر فطورًا شهيًا ومتنوعًا ليستميلها. انفرجت أساريرها «يبدو أنه فطن لمقامي وها هو يحاول إرضائي». جلست إلى المائدة دون شكره وأرسلت ابتسامة واهنة.

– أترغبين ببعض الحساء؟ يسأل نارسيس.

= شكرًا لا أشتهيه. ترد بقرف.

– الجو بارد في الخارج ربما بعض الشاي؟

= حسنًا… قالت على مضض.

صب الشاي في الفنجان النحاسي ساخنًا ووضعه أمامها، أمسكت الفنجان رفعته قليلاً وحين سرت الحرارة في يدها، تساقطت أصابعها وجزء من ذراعها وسقط الفنجان أرضًا.

أخذت تصرخ وتبكي:

= خائن! تريد التخلص مني… لماذا صنعتني إذن؟

– لتكوني امتدادًا لي، ولكنك خُلقت شاذة تريدين مساحتك وفلكك الخاص، وهذا ما لن يحدث أبدًا. يمكنك أن تختالي كما تشائين ولنر من سينظر لك بإعجاب الآن.

ضحك مجلجلًا:

– أنا أحيي وأميت.

خرجت فيوليت تجر بقايا ذراعها المشوه، ترى الرعب والشفقة في حدقات المارة، تغطي وجهها بشعرها وتتوارى عن الأنظار. سارت كثيرًا بين الأجراس حتى وصلت شاطئًا ظليلًا، قررت أخذ استراحة هناك.

أخذت تئن في صمت وتفكر كيف ستنتقم من ذاك الوغد على تدميرها، لابد أن يعض أصابع الندم على فعلته بي.

حركة ما تظهر على سطح الماء، ترفع رأسها فترى مجنونًا يمشي على الماء! ما هذا؟

يقترب المجنون، شاب هزيل بعيون ذابلة ولكنها آسرة، وأصابع ملطخة ببقع ملونة:

– مرحبًا سيدتي الجميلة.

= منْ أنت؟ وكيف تسير على الماء؟

– رائع، أليس كذلك؟

يبتسم ثم يجلس على الرمل ويشير نحو قدميه:

– هذا حذاء على شكل قارب اخترعته لأجرِّب السير على الماء.

= لماذا؟

– ولمَ لا؟ أحب تجربة ما لا يخطر على بال. أن أعانق المستحيل. أنا رسّام ومخترع، ويراني البعض دجّالًا. أُدعى دافنشي.

= فيوليت.

– آه… اسم خلاب كصاحبته.

= لست كذلك.

استدارت ليظهر ذراعها:

= أنا دمية مشوهة.

– لا تقولي هذا. كل الأشياء المنكسرة تحمل جمالًا حزينًا كذلك البشر.

= مجنون! ما الجميل في فتاة بلا ذراع؟! ها… ها؟!

حاول تهدئتها واحتواء غضبها، ثم طلب منها أن تقص عليه ما حدث لتتخفف من ضيقها. حكت ما جرى له، وكيف سلب منها نارسيس حياتها بعد يومٍ واحد من تفتح روحها. حكت بكثير من الأسى.

= عليّ الثأر منه.

– وهل تظنين ذلك سيُعيد ذراعك.

= يُطفئ ألمي.

– أنتِ حزينة ومصدومة. طامة كبرى أصابتك، ولكن الانتقام لن يُطفئ ألمك… آسف لكِ.

= وماذا تقترح إذن؟ أموت بحسرتي؟

– لا… تعيشين حياتك بكل قلبك… هذا هو انتقامك الأعظم.

وقف منتصبًا:

– تعالي معي… لدي شيء ربما يعجبك.

تحركا معًا وفق إشاراته، حتى وصلا إلى كوخ صغيرة بحديقة غنّاء.

= ما أجملها! أفصحت. وما أقبحني! أسرّت لنفسها.

– تفضلي… بيتي ومرسمي وورشتي المتواضعة.

دلفا إلى البيت، وأُخذت من فرط الجمال والغرابة. لوحات معلقة في كل جهة، أخرى لم تنتهِ بعد. تماثيل مختلفة. قصاصات ورق وزهور وريش، والكثير مما لم تفهمه.

– ها هما. قال وهو يحمل جناحين بين يديه.

= ما هذا؟

– جناحان… صنعتهما من أجل مغامرات الطيران، سيليقان بك. جربيهما.

ألبسها -رغم دهشتها وتعجبها- زوج الأجنحة، لا يمكن رؤية ذراعها المفقودة من بين الريش. فتح علبة من الزئبق وقرّبها منها.

– انظري كم تبدين جميلة. لاءمك الريش.

رأت انعكاس صورتها والأجنحة تُغلِّف جنبيها، ابتسمت ودمعت عيناها.

– يمكنك الآن التحليق ورؤية العالم من علو. الاستمتاع بسحر المشهد الكامل من فوق السحب.

= أحلق فعلًا؟ كالطير! بعيدًا عن كل أذى.

– الأذى في كل مكان. علينا تفاديه، وحين يصيبنا نحاول التعايش والنجاة.

ينظر نارسيس من شرفته العالية كأنفه، يرى ملاكًا جميلًا بنفسجي الضي يُحلِّق عاليًا، بجانبه آخر هزيل ومبعثر الريش… بعيدًا بعيدًا عن متناول يده.

تمت

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.