لم نعد أصدقاء! ذلك كل ما في الأمر.

تلك كانت إجابتي عندما سألني أحدهم عمّن كانت صديقتي المقرّبة يومًا ما، وعندما سألني «كيف؟!» وهو في غاية الدهشة، لما كانت علاقتنا وطيدة وغير قابلة للحل مطلقًا، أجبته ببساطة «الأمر كان في غاية السهولة».

ذلك ما جهرت به، لكن ما كان يعتمل بداخلي كان أكثر حدة وذا وقع أليم على قلبي. لقد خلّف فراقنا جرحًا لا يندمل، ليست لأنها الوحيدة التي تعلّقت بها… لا… الأمر ليس كذلك مطلقًا، بل لأنها كانت أكثر من اعتصرني للحصول على مشاعر ألفة وحب وود غير منقطع النظير، وكنت أقدِّم لها كل ذلك على طبق من فضة.

وعلى الجانب الآخر لم أكن أتلقى شيئًا مماثلاً. كل ما كنت أحصل عليه هو شيء من الود المصطنع، والثقة المشوبة بحس المؤامرة، والمصلحة التي سادت وطغت على كل شيء؛ كانت هي الفائز الأول في كل ما مرّ، وكأنه كان عليّ وحدي أن أدفع ثمن تلك الصداقة.

بالطبع لم أكن أتوقع مثل هذه القطيعة، فأنا من هؤلاء الذين يُبجّلون علاقة الصداقة ويضعونها بمرتبة عليا دون سواها، ويختلقون الأعذار للطرف الآخر، مهما كانت فجاجة التصرّف، للحفاظ على ذلك الشيء الفريد في تلك الأيام. لكن الأمور ذهبت بعيدًا عن إمكانية إصلاحها أو تداركها أو حتى التغافل عنها. لقد بات الجفاء جزءًا أساسيًا، واتخذ مكان الود اللازم لبقاء خيط الصداقة مشدودًا رغمًا عن كل ما قد يؤدي إلى انقطاعه أو تراخيه. فلم يعد بيننا ما نصله. لقد نخر الجفاء في علاقتنا حتى وصل إلى أساسها الذي كنت أظنه ثابتًا بشدة وقائمًا على الود والحب والاحترام.

بالطبع لم يحدث ذلك في لمح البصر أو بين عشية وضحاها، فالأمر اتخذ أشكالاً عدة من القطيعة التي ازدادت رويدًا رويدًا.

في البداية، تسلل الصمت لحديثنا، على الرغم من أن حياة كل منا كان يجري بها أحداث كثيرة، إلى أن استحال ذلك الصمت لغة أساسية عند اللقاء. صمت يحمل معاني ليست بالجيدة. فهو ليس ذلك الصمت المطلوب في أي علاقة تصل بعد مرور الوقت لمفترق طرق. بل كان ذلك الصمت الذي يعني أنه لم أعد أريد الحديث معك لأني لم أعد أئتمنك على ما بداخلي. صمت يعني أنه لا رغبة لي في مشاركتك ما يدور في حياتي التي أريد أن أواري أجزاء منها عنك، ولا أريدك أن تلقي عليها ولو حتى نظرة؛ فهي لا تخصك. ذلك الصمت الذي يُسبِّب الجفاء، وليس الصمت الذي يحمل مشاعر جيدة بأنك تفهمني أكثر منّي وبذلك ستفهم صمتي أكثر من حديثي.

بعد ذلك، بدأ الإقلال من المحادثات الهاتفية حتى أصبح السؤال يحدث فقط كنوع من أنواع ممارسة ما تم التعوّد عليه طوال سنوات ماضية، إلى أن استحال هو الآخر همًّا وعبئًا لا يُطاق.

كل شيء يحدث بالتدريج، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بالمشاعر الإنسانية كالحب والكره وبين هذا وذاك. تلك الفترة التي تخبو فيها المشاعر شيئًا فشيئًا حتى تصير بلا معنى.

مع بداية فتور المشاعر، كان السؤال عن ماذا حدث؟ ولماذا تغيرت الأمور بهذا الشكل؟ شبحًا يطاردني. لماذا آلت الأمور لما هي عليه الآن؟ وهل يمكن أن تعود ثانية؟ أسئلة كثيرة كانت تعصف بذهني المتصل بقلب تملؤه المشاعر المتخبطة بسبب هذا التغيُّر القاسي.

توالت الأيام والليالي دون حديث أو حتى سؤال عابر عن حياة الآخر. كانت الأخبار عن الآخر تأتي من خلال التفاعل على صفحات التواصل الاجتماعي، والذي كان كفيلاً بإعلام أحدنا أن الآخر ما زال حيًا يُرزق. لكن كيف تسير حياته؟ كيف أصبح اليوم؟ وكيف هو حاله عند الذهاب للنوم؟ كيف يقضي وقته؟ وما هي مخاوفه الآن؟ بحال جيد أو تعترض نفسه صعوبات جمة؟ كل ذلك لا يهم! كل ذلك لم يعد يهم! فالأمر لم يكن يتعلق بتلك الأشياء التي تبني العلاقات.

انهارت صداقتنا ووقفت في مكاني لبعض الوقت اختبرت خلاله عددًا من المشاعر غير الجيدة، لكن مع تكرارها وطول المدة أصبح تأثيرها أقل شيئًا فشيئًا. توقفت أتأمل صداقاتي مع الآخرين، آملة في ألا يكون العطب والجفاء على وشك أن يأتي على أي منها قريبًا، فمن الصعب عليّ تحمّل الكثير من تلك المشاعر دفعة واحدة.

بينما لم يكن صعبًا عليها أن تغيّر وجهة شراعها لتبحث عن صديقة أخرى. أو ربما لم تتخذ صديقة بمعنى الكلمة، ربما مجرد شخص ما يستطيع أن يسير بجانبها بينما لا يعلم عنها الكثير لمجرد ألا تسير وحدها، أو لاستخلاص شيء منه، شيء ما لم تكن تتنازل عن السعى للحصول عليه من الآخرين دومًا: القبول من الآخر وتغذية حب الذات.

هذه الصديقة التي دائمًا ما كانت تضع الشخص الآخر في موقع التجرية والاختبار. تمتحنه في البداية حول ما يمكن أن يقدمه لها، سواء كانت تلك الفائدة لها جانب اجتماعي، اقتصادي، أو ربما شخصي بحت. ماذا ستضيف لي صداقتك؟ تلك هي نقطة البداية.

ثم تأتي مرحلة أكثر أهمية وهي اختبار القدرة على كتمان السر، فتقوم بتقديم الطُعم باختبار الآخر بالحديث عن أشياء ليست ذات أهمية لكنها تصوّرها على أنها سر عميق بالنسبة لها، كالسؤال عن نصيحة، لن تأخذ بها، السؤال عن شيء عابر، ثم الحديث شيئًا فشيئًا عن بعض الأمور الشخصية غير الحساسة أو الدقيقة. حتى يلتقط الشخص الآخر طُعم الصداقة الزائف. وعند هذه النقطة يصبح الاختبار أكثر صعوبة ويمر بمراحل متقدمة من الشك وعدم الائتمان.

لكن حتى بعد كل تلك المراحل، يظل التوجس والريبة جزءًا لا يتجزأ من العلاقة. فالشخص الذي اعتاد التفكير بنظرية المؤامرة من المستحيل أن يضع ثقته في شخص آخر.

افترقنا يوم عيد ميلادي. فلم تكن تريد أن تتلفظ بكلمات تتمنى فيها الصحة الدائمة والعافية لي وهي على علم تام بأنها غير صادقة ولا تريد أن تستمر في الكذب أكثر من ذلك.

لم نعد أصدقاء، ولم يكن ذلك نقطة فاصلة بالنسبة لي، فلقد اعتدت الخذلان خلال فترات طويلة في حياتي من أناس لعبوا دور الصديق والناصح الأمين لفترة في حياتهم ربما كانوا يرغبوا فيها أن يصحبوا منْ يستطيع الاستماع لأكاذيبهم دون مقاطعة وحل مشاكلهم دون طلب شيء في المقابل.

انتهت صداقتنا، ولم يعد شيء يربطنا سوى ذكريات عابرة بدأت في الخفوت والتواري شيئًا فشيئًا. وربما بُعد أحدنا عن الآخر لدرجة مكنته من نسيان ملامح صديقه ونبرته في الكلام حين يكون سعيدًا أو متلهفاً على شيء أو غير ذلك من المشاعر الإنسانية المتقدة.

لذلك عندما أجبت السائل هذه المرة، كانت إجابتي نابعة من القلب ومختلفة عن المرات السابقة التي كنت لا أرغب في قول ذلك صراحة، فنحن بالفعل لم نعد أصدقاء.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.