يختم جارسيا ماركيز مقاله المعنون بـ «كيف تكتب الرواية؟» بعبارة لطيفة جدًّا تصلح للمزاح، لكن الحقيقة أنه كان يتحدث بكل جدية. سيد الرواة يقول: «كنت على وشك أن أعض لساني كي لا أسأل كل من أراه في الشارع، أخي بالله عليك خبرني كيف تكتب الرواية؟».

الفن الأقدم، الأكثر تحديدًا، الأكثر أصالة، الأكثر وضوحًا، متى صار مراوغًا هلاميًّا بهذه الطريقة؟

حين انتهيت من القراءة لميلان كونديرا كنت مُشوّشًا جدًّا، هل هذه حقًّا رواية؟

فلنحكِ عن رائعة ميلان كونديرا «كائن لا تحتمل خفته»، الصادرة باللغة التشيكية في العام 1968، لكن الخلفية التي أتى منها كونديرا تحكي كل شيء.

ميلان كونديرا المولود فيما كانت تُعرف قديمًا بجمهورية تشيكوسلوفاكيا عام 1929، درس الموسيقى والسينما والأدب، وعمل أستاذًا مُساعدًا في الأكاديمية التشيكية للسينما. كان انضمامه للحزب الشيوعي أحد المحطات الفارقة في حياته. تم فصله بعد فترة وجيزة لملاحظة ميول فردية عليه، وهو ما كان أحد محاور روايته بعدها.

انضم ثانية وتم فصله ثانية، ثم هاجر لفرنسا بعد الاجتياح الروسي لموطنه. لاحقًا أُسقطت عنه الجنسية بسبب كتاباته، ثم حصل على الجنسية الفرنسية بعد ثلاث أعوام.

في خلال هذه الفترة كتب رواية «كائن لا تحتمل خفته»، والتي وثقت هذا الصراع المُمزق لذاته ووطنه. ثم قرر أن الفرنسية هي لغة مؤلفاته منذ العام 1995، وصار كاتبًا فرنسيًّا. كونديرا الذي يحرص كل الحرص على أن يصل ما يقصده عبر الترجمات المختلفة، أصدر معجمًا يحتوي على معاني مفرداته الشائعة.

حصل كونديرا على وسام «جوقة الشرف»، وهو أعلى تكريم فرنسي، وجائزة الإندبندنت لأدب الخيال الأجنبي. عاش في فرنسا إلى أن توفي في 11 يوليو/تموز 2023، وتردد اسمه بقوة في قوائم ترشيحات نوبل في الأعوام العشرة الاخيرة.

إن حكاية كونديرا المعتادة التي تتمحور حول حياة أربعة شخوص رئيسية (توماس وتريزا وفرانز وسابينا) وتقاطعها مع الاجتياح الروسي لتشيكوسلوفاكيا، تتلاشى وتصير خلفية باهتة أمام أفكاره الكبرى؛ كوهم الحزب الشيوعي، ووهم المعارضة النزيهة، ووهم المسيرة الكبرى، ووهم الحب البريء، ووهم الاستقرار، ووهم السير إلى الأمام. ثم ينتقل لطبقة أخرى أكثر فلسفة، ويتساءل هل حقًّا الخفة جميلة وهل الثقل فظيع؟

هل الأمر بحاجة لكل هذه الصفحات كي تتبين ذلك؟

عند ميلان كونديرا ستقابل -ولأول مرة- مصطلحات مثل (الكيتش)، وستكتشف أن لكل منَّا كيتشه الخاص الذي يعكف عليه عابدًا، ستنهار أفكارًا عظيمة راسخة وستتضح أفكار باهتة مثل (العود الأبدي). سيظهر السيد بيتهوفن كل فصلين ليطرح برباعيته الشهيرة تساؤلًا وجوديًّا فحواه: «ألم يكن من ذلك بد؟» فتجيب الأحداث: «لا … لم يكن من ذلك بد». فتعرف معنى عبارة «القرار الموزون بصرامة»، وتتعلم بالطريقة الصعبة كيف يمكنك أن ترتوي من أكثر الآبار ملوحة.

تؤكد خرافة العود الأبدي -سلبًا- إن الحياة التي لا تعود هي حياة ميتة سلفًا وغير ذات معنى، فمهما تكن هذه الحياة فظيعة أو جميلة فإن هذه الفظاعة أو الجمال لا تعني شيئًا طالما أنها تحدث عرضًا، إذ إنه كيف يمكن محاكمة شيء زائل؟

يحاول كونديرا أن يجعل فلسفته قابلة للتعاطي، من خلال سرد روائي رشيق، لا تثقل خطواته وقفاته التوضيحية في كل فصل.

كونديرا الذي يجعلك تعيد الجملة أكثر من مرة، ليس فقط لتتأكد من دقة مقاصده، بل أيضًا لتعيد تذوق تركيبتها اللغوية، مما يجعل ذهنك حاضرًا على طول الرواية، إذ إن كل إشارة، تشبيه، تلميح، استعارة، لا بد أن تحمل من الثقل ما يفوق خفتها الظاهرة. عليك أن تنتبه جيدًا، إذ إن تداعي جدران المعاني بداخل ذهنك بغتة يكون مؤلمًا جدًّا، للحد الذي يصير معه فعل إعادة القراءة -الحتمي- شيئًا بائسًا للغاية.

يقول كونديرا إن الاستعارات شيء خطير جدًّا لا يمكن التلاعب به، إذ إنه من الممكن أن يُولد الحب من استعارة واحدة.

هل ترى الأمر عاديًّا؟

لننظر في أمر الخفة والثقل مُجددًا.

إذا قُدَّر لنا أن نختار بين الخفة والثقل، فماذا سنحتار حقًّا، وهل الخفة جميلة والثقل سيئ؟

في سياق العود الأبدي، حيث يتكرر كل شيء مرارًا، ويصير هذا التكرار ذاته أبديًّا، فإن كل إشارة تصير ذات ثقل شنيع، حيث ستتكرر للأبد أشياء لا تعلم مدى صحتها.

إن العود الأبدي يُحدِّد أفقًا جديدًا لأشياء كنا نتجاهلها بسبب الظروف التخفيفية لعرضيتها، إذ تصير للأشياء الشنيعة خفة لا تُحتمل كلما عادت مُجددًا.

يقول كونديرا بأسى إن مصالحته هو ذاته مع صورة هتلر -الذي شتت عائلته- تفضح عمق الشذوذ الأخلاقي لعالم مبني على انعدام العود الأبدي، ذلك أن كل شيء في هذا العالم مُغتفر سلفًا ومسموح به بوقاحة شديدة.

كل الأشياء المتناقضة يمكن بسهولة شديدة تمييز الإيجابي فيها من السلبي، كالظلمة والنور، والقريب والبعيد، الكائن واللاكائن، لكن أين نضع الخفة والثقل؟

كونديرا يجعلك تحتار حقًّا كيف جعل تكرار فعل الخيانة خفيفًا لهذا الحد، في حين أن حدوثه لمرة واحدة على قدر عظيم من الثقل.

وكيف يصير التمسك بأبسط مبادئ الحياة بكل هذا الثقل الذي لا يحتمل.

هناك فصل كامل في منتصف الرواية يحمل عنوانًا لا ينتمي لعالم السرد «معجم الكلمات غير المفهومة». هذا أغرب شيء قد تقابله بين دفتي رواية، لكنه بدا ممتعًا جدًّا، أن يحاول كونديرا رسم ملامح شخصياته من خلال عرض تباين نظراتهم المختلفة لذات الشيء، كيف يمكن أن يكون الشيء نفسه هو الجمال والقبح في آن واحد، وكيف يمكن لشخصين عاقلين أن يعيشا في ظل وهم الحب بينما هما بحاجة لقاموس كي يتفاهما على نفس النسق. حسنًا، كيف يمكن أن يلقي ذات الصراع بظلاله على مجتمع يُمزِّق نفسه من الداخل؟ ينطلق كونديرا من تلك النقطة لوهم المسيرة الكبرى.

الأوهام الرومانسية المثالية التي بثها الشيوعيون في بداية ظهورهم، وتصوير أن كل شيء سيئ يأتي من الخارج. ذلك العالم القبيح الذي تصير أشد كوابيسك ظلامًا فيه حقيقةً.

ينتقل كونديرا بعد ذلك لمفهوم «الكيتش»، وهو العالم الذي يمكن بداخله تمرير كل شيء بطريقة تخدم فكرتك الكبرى، ويتضح أن الكيتش لا ينتمي للشيوعيين فحسب، بل لكل منا كيتشه الخاص. الكيتش هو العالم الذي تُقدَّم فيه الإجابات مُسبقًا، فلا حاجة لأي أسئلة. عندها يصير الشخص الذي يسأل هو العدو الحقيقي.

يروي كونديرا واقعة مقتل ابن ستالين في معسكرات الألمان، حين تشاجر مع الجنود المعتقلين حول شيء لا يليق بابن الاله، عندما رأى أنه لا ينبغي أن يتجادل مع السجناء بخصوص فضلاته. إذ كيف للعظمة المطلقة أن تهتم لأمر حقارات كهذه لحد الشجار؟ وهل للحقارة أن تجتمع مع العظمة في كائن واحد؟

ألقى ابن ستالين بنفسه على سلك شائك يحمل تيارًا كهربيًّا ورحل. يتساءل كونديرا هل كان الإنسان في الجنة بدون فضلات، أم أنه اكتشف دنسه حين هبط منها، فقرر إخفاءه واعتبره نقيصة لا يجب التحدث بخصوصها؟ هنا يبني الكيتش مملكته، وهنا تتهدّم على نفسها.

بعبارة بسيطة، إن الكمال المطلق الذي يدعيه الشيوعيون، المناضلون، الثوار، البروتستانت، الكاثوليك، القوميون، النسويون، الذكوريون، بائعو البطاطا، ورابطة مشجعي سيسكا موسكو، هو أن نعترف بنقائصنا ونواجهها لا أن ننكرها بالجملة.

الأفكار الكبرى في رواية كونديرا كثيرة جدًّا ومتداخلة بشكل عجيب، لكنك لن تقدر على تجاوز استعارته لأسطورة أوديب. فحين أراد إلقاء الضوء على حزب «لقد كانت نوايانا حسنة ولم نكن نعلم أن الأمور ستئول لكل هذا السوء»، لم يجد سوى أوديب.

أوديب الذي تخلى عنه أبواه رضيعًا لأحد الرعاة، كي يتركه يفنى في الصحراء تفاديًا لنبوءة أنه سيقتل أباه ويتزوج أمه، فأشفق الراعي وأعطاه لآخر، كي يٌربِّيه، ويعود أوديب ليقتل أباه الذي لا يعرفه ويتزوج الأرملة التي لا يعرفها، وينجب منها لتحل اللعنة على قومه. حين اكتشف أوديب ما حدث قام بفقأ عينيه.

كيف يمكنك أن تبرأ من ثمار ما زرعته يداك بحجة أنك لم تكن تعلم أي أرض تلك، وأي ماء هذا، وأي بذور غرستها في ثرى الأيام.

منذ سنوات وأنا أفكر بتوماس.

هكذا بدأ كونديرا حكايته، أظن أنها المرة الاولى التي أرى أديبًا حاضرًا بداخل روايته بهذا الشكل الفج. كونديرا لم يستخدم بطلًا يحكي من وجهة نظر أحادية. لم يستخدم راويًا فوقيًّا، ولم يستخدم -للعجب- راويًا عليمًا بكل شيء، لقد بدأ يحكي بنفسه، ويُوضِّح لنا كيف وُلدت شخوصه من البداية.

يوقف السرد كي يُوضِّح قناعات شخصياته التي بنى على أساسها أفعالهم. يُحلِّل الظروف المحيطة. يُحلِّل تفاعلهم ببعضهم. يمزج كل ذلك في معادلة أنيقة متزنة، ثم يخرج لك بقرار موزون بصرامة ويستعين برباعية بتهوفن ليبدو كل شيء مُنمقًا ويسألك بطرف خفي: ألم يكن من ذلك بد؟ فتجد نفسك مُتورطًا بالجواب الوحيد في جعبتك: لا ليس من ذلك بد.

كونديرا خلال فصول روايته التي تأرجحت بين الخفة والثقل، الروح والجسد، المسيرة الكبرى، وخرافة العود الأبدي، يقف مرارًا ليقول لك انتبه أخي، سوف نتكلم قليلًا حول بعض الأشياء التي تظن أنت أيها القارئ أنها ليست ملتبسة، لكنها كذلك قبل أن نواصل حكايتنا عن توماس وتريزا والمجتمع الشيوعي -زائف المثالية- والنضال المثالي الزائف كذلك، حتى إن روايته كانت تتحول في كثير من الأحيان لمجرد كتاب آخر عن التحليل السياسي النفسي للفرد ومجتمعه، وتأثير كل منهما على الآخر.

حكاية كونديرا التي اتضح أنها لا تسير للأمام فحسب، تحكى من نقاط زمنية مكانية عدة وتتخذ مناحي متباينة المعاني، ويتفرع نهر حكايتها لجداول لا نهائية تصب كلها في النهاية عند مصب الخفة التي لا تُحتمل والثقل الذي لا معنى له، تجعلك متعطشًا طوال الوقت للحظة التنوير الكبرى التي تتخفى وراء حكايته عن عادات حيوان أو سلوكيات مجتمعية بائدة.

تستغرقك الرواية طوال الوقت في مقاربات ذهنية مُحددة الألفاظ للحد الذي يجعلك تتشكك في كل الثوابت التي كنت تظنها راسخة. تنتهي حكاية كونديرا في إحدى النقاط الهلامية في المنتصف فقط، ليخبرك أنه ليس المهم هنا هو إلى أي شيء انتهت روايتنا، بل أي أثر انتهت إليه.

الرواية تشبه متاهة تحوي آلاف الطرق، ستصل لنهايتها في كل مرة لكن من طريق جديد. هذه رواية تُقرأ على كل الأوجه، وتعطي معنًى جديدًا في كل مرة. هنا ستزن الأمور بموازين جديدة تمامًا على إدراكك، وسترى كل شيء بطريقة مغايرة لما عهدته دومًا.

عالم كونديرا الروائي مُتفرد جدًّا، ويجعلك تتساءل مرارًا عن ماهية ذلك الشيء العجيب الذي يُدعى «الأدب».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.