«The Beautiful Game» كما يطلق عليها الجميع، اللعبة الشعبية الأولى في العالم والسلعة الأكثر رواجًا فيه أيضًا، كرة القدم التي جذبت الكثير من المهاوييس والدراويش ليس فقط للاستمتاع بها، بل العمل في كل مجال ارتبط بها والاهتمام بكل تفصيلة لتظهر عبارات بأنها أكثر من مُجرد لعبة، وأنها حياة أو ما شابه. لكن ماذا عن الطرف الآخر؟ ماذا عن الجمع غير القليل الذي استحوذ عليه كُره اللعبة ونعت متابعيها بالحمقى؟


أمبرتو إيكو وسائق التاكسي وفيالي

سائق التاكسي: هل شاهدت فيالي؟ الراكب: لا، ربما عبر الشارع في غيابي. السائق: هل ستتابع المقابلة هذا المساء؟ الراكب: لا، لديَّ دراسة مؤجلة عن كتاب حول الميتافيزيقا ومن الضروري أن أنجزها! السائق: هذا جيد، تابع المباراة وسنناقشها غدًا، أظن أن فان باستن سيكون مارادونا التسعينيات، ألا تشاطرني نفس الرأي؟ لكن في جميع الأحوال من الواجب الاهتمام بهاجي كذلك!

حوار صنعه الكاتب الإيطالي «أمبرتو إيكو» في كتابه «كيفية السفر مع سلمون» عن سائق تاكسي لا يرى غير كرة القدم ولا يتكلم عن سواها. أراد إيكو إيصال فكرة أن الهوس الزائد باللعبة شيء مرضي ليجعل شخصًا بسيطًا لا ينوي فعل شيء غير الحديث عنها لا ممارستها.

تأكدت تلك الأفكار في حوار طويل للفيلسوف الإيطالي مع مجلة جلوب، حيث أثار فيه الجدل حول الرياضة عمومًا، وليس كرة القدم فقط. إيكو يرى أن الطاقة المُستنزفة في الحديث حول الرياضة ومشاهدتها هي طاقة مُهدرة يجب أن يطور بها الناس المجتمع، ويقوموا بحل مشاكله. الأمر تعدى ذلك حتى أنه شبه مشاهدة الرياضيين وهم يمارسون الألعاب المختلفة بمشاهدة الأفلام الإباحية، ووضح الأمر بأنني أُشاهد من يستمتع بشيء ما ليس أنا من أقوم به على الإطلاق.

إنني لا أكره كرة القدم، بل أكره المدمنين لها.

إيكو كان قاسيًا على متابعي كرة القدم، ووصف ما يفعلونه بـ «الثرثرة الرياضية»، وأن المشاهدة هي استبداد معنوي يفرض على الأغلبية نسيان أجسادها لمتابعة أجساد الأقلية. وتابع هجومه على الرياضات التي تتسم بالمجازفة بأنها لا تختلف عن الحرب، تقتل المتطوعين فيها والأبرياء، أما هذه فتقتل المتطوعين فيها فقط.


جورج أورويل وبول أوستر والحرب

وجهة نظر أُخرى قد تتبناها إذا نويت كُره الساحرة المستديرة، هي وجهة نظر الكاتبين جورج أورويل وبول أوستر. فالناطقان بالإنجليزية لم يختلفا عن نظيرهما الإيطالي في التحفظ على الفكرة، ولكن من منظور آخر، وهو الحرب.

لا علاقة بين الرياضة الجادة واللعب النظيف. بل إنها مرتبطة بالكراهية، والحسد، والتبجح، وتجاهل جميع القوانين، والمتعة السادية المكتسبة من مشاهدة العنف: بعبارة أخرى، إنها حرب بغير طلقات.
جورج أـورويل يكتب: الروح الرياضية

كان جورج أورويل يرى أن كرة القدم ليست مجرد لعبة، ولكنها أعمق من ذلك. كان يرى أنها طريقة لإعلان القتال بين الأمم المختلفة، ولكن في ساحة خضراء، وتحت وجود قاضٍ، كما قال إنها الحرب دون إطلاق نار. فكرة أورويل لم تكن واضحة، فجاء أوستر لإكمالها، حتى أن القدر جعل ميلاد أوستر يسبق وفاة أورويل بـ 3 سنوات فقط.

كانت فكرة أورويل إلهامًا لتحفز أوستر حول كرة القدم،حيث قال:

البلدان اليوم تخوض حروبها في ملاعب كرة القدم، بجنود يرتدون السراويل القصيرة. والمفترض أن هذه لعبة، وأن التسلية هي هدفها. غير أن الذاكرة الخفيَّة لتناحرات الماضي تخيّم على كل مباراة، وكلما سُجّل هدف ترددت أصداء الانتصارات والهزائم القديمة.

أوستر لم يكتف فقط باتهام الكرة في تمثيل صراعات الشعوب، ولكن اتهمها بإيقاظ الخلافات بين الدول أو المناطق التي تتبعها فرق الكرة، والتي ليست لها علاقة بالكرة من الأساس. يريد أوستر أن يجعلها كلها ودية حتى تفقد جانب الكراهية، ولكن حينها ستفقد اللعبة أيضًا معناها.


بورخيس يهتف: تسقط كرة القدم والقومية

الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس عن كرة القدم.

عاصر بورخيس فترة حكم الديكتاتور الأرجنتيني خوان بيرون، وبالتالي أثرت كل سياساته فيه، ولم يكن هناك شيء يعبر عن الأرجنتين وقتها بقدر كرة القدم. بورخيس كان يكره الكرة لأنها تكون مصحوبة بجماهيرية ضخمة يستغلها الزعماء في تنفيذ أقذر السياسات، على حد تعبيره.

كان يقول إن الوطنية تسمح باليقين والقطع، وكل عقيدة تنبذ الشك والنفي ما هي إلا فنتازيا أو غباء، والمنتخبات الوطنية تؤجج المشاعر الوطنية، وتخلق للحكومات معدومة الضمير فرصة أن تستغل لاعبًا نجمًا فتجعل منه بوقًا لها تنال من خلاله شيئًا من الشرعية. كان يرى أن كل لاعب نجم يساهم بطريقة ما في قرار سيئ سينفذه ديكتاتور مستغلًا هوس الناس بهذا النجم.

اتفق معه كثيرًا « ديف زيرين» الكاتب الأمريكي في كتابه «رقصة البرازيل مع الشيطان»، فعندما كانت حكومة البرازيل تعتقل معارضيها وضعوا صورة كبيرة للبرازيلي بيليه وهو يصوب الكرة برأسه نحو المرمى ومكتوب عليها: «ليس لأحد أن يوقف هذا البلد الآن!». استغلال واضح لنجم عالمي يحبه الناس ليتغاضوا عن أفعال ما كان لها أن تتم.


من على صواب؟

إنها قبيحة جدًّا، إنها من أفدح جرائم إنجلترا.

قد يختلف الكثيرون مع ما سبق من دعوات لنبذ الكرة، ولكن الأكثر قد يتفق مع أسباب تلك الدعوات. الموضوع مُركب إلى حد كبير، وعندما تتعقد الأمور يجب التفكير ببساطة. الإنسان كائن اجتماعي تتحكم فيه رغباته التي يريد أن يعيش من أجل تحقيقها، والتي قديمًا كان يُحارب حرفيًّا من أجلها، أما الآن فإنه يعمل ويجتهد ويسافر. ولكن ما علاقة الكرة بكل هذا؟

حسنًا، الملعب هو الحياة. مجموعة من الناس يُريدون التفوق على آخرين بهدف الظفر بشيء ما، ولهم قائد، ويشتركون في تنفيذ خطة، بل لهم علم واحد أيضًا، وكل منا يراها كما يُحب. فيراها أورويل الذي كره الحروب أنها تُشبه الحرب، أما بورخيس الذي عانى الديكتاتورية والشعارات الوطنية الزائفة فرآها سلمًا لصعود الفاشيين للحكم وتوطيد علاقتهم بالشعب، عكس إيكو الذي رآها كالمخدرات تهاجم الإيطاليين في كل مكان حتى في أوقات عملهم.

الفكرة التي قد تكون غابت عن هؤلاء، أو لم يقووا على قولها، هي جعل كُرة القدم في مستوى دون الاحترافي حتى تفقد القوة المادية الجارفة، وبالتالي لا تصبح للشعبية أي تأثير من الممكن استخدامه لهدف سيئ!

ليس هُناك صواب أو خطأ، فالكل محق، ولكن الأكيد أنها جميلة لأننا نتحدث عنها حتى الآن.

اقرأ أيضًا:كرة القدم: أعظم من مجرد لعبة

الأغرب على الإطلاق، والذي يؤكد سحر الكرة، هو تلك الجملة التي كتبها شكسبير في رواية الملك لير: «يا لاعب الفوتبول الحقير»، علمًا أن شكسبير توفي في 1616، أي قبل اختراع كرة القدم بحوالي 200 عام! فماذا كان يقصد شكسبير؟