المكان هو استوديو برنامجٍ حواري تفاعلي على قناة أسترالية، وموضوع النقاش هو حدث الساعة الأبرز، الغزو الروسي لأوكرانيا وتداعياته، والذي أوشك على إتمام أسبوعه الثاني ولا يعلم أحدٌ إلا الله متى سينتهي. من المعلوم بالضرورة أن أستراليا رغم وقوعها في الركن الجنوبي الشرقي من الكوكب، فإنها سياسيًّا وثقافيًّا محسوبة على الغرب، والثقافة العلمانية الليبرالية السائدة فيه، والتي تُقدِّس حرية الرأي والتعبير دون قيود، أو هكذا الأمر نظريًّا على الأقل. والآن نعود إلى البرنامج الحواري الأسترالي.

طلب أحد الجمهور المتواجد في الاستوديو الكلمة، وهو من أصول روسية، وذكر أنه يؤيد العملية العسكرية التي أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضد أوكرانيا، واستنكر هذا المُتحدِّث ازدواجية الإعلام الغربي في تناول القضية، فالتباكي على الضحايا الأوكرانيين الآن، لم يحدثْ مثله مع 13 ألف قتيل – على حد زعمه – في إقليم الدونباس الانفصالي شرقي أوكرانيا خلال ثماني سنوات من الحرب مع الجيش الأوكراني.

كانت المفاجأة الأكبر في رد فعل المذيع، حيث ذكر أنه غير مستريح لوجود هذا الشخص الموالي لروسيا في الاستوديو، وطلب منه المغادرة فورًا وسط تصفيقٍ حاد من باقي الجمهور المتواجد في المكان، تأييدًا لموقف المذيع وإقصائه لهذا الشاب الصريح بشكلٍ زائد عن الحد. توقَّعت لوهلة أنني قد أجد المذيع ينظر إلى الكاميرا بحدة، ويعلن البراءة من روسيا ومن كل داعمٍ لها، ويدعو عليهم بالويل والثبور وعظائم الأمور، لمخالفتهم عقيدة الولاء للغرب والبراء من كل ما لا يرضيه، ثم يهتف بحماسة قائلًا:

‏‎أنا الحقُّ لا أرتضي بالحياد ….. ولا الذلُّ والضعف من جانبكْ
أنا الحق بين الولاء والبراء ….. أُميز صفـِي فخذ واجبك!

«الولاء والبراء»

كثيرًا ما يُتَّهم المسلمون من الغرب ومن يواليه فكريًّا وحضاريًّا، لا سيما ضحايا الإسلاموفوبيا، بالتشدد والتعصب والانغلاق، ويُضرَب لهذا المثل بما يُعرَف بعقيدة «الولاء والبراء»، والتي يؤمن بها المسلمون بوجهٍ عام، ويركِّز عليها بشكلٍ خاص التيارات السلفية والجهادية، والتي تؤمن بأكثر نُسخها تشددًا، إن جاز التعبير.

يذكر موقع الإسلام سؤال وجواب ذي التوجهات السلفية أن «الولاء والبراء» من أصول التوحيد الإسلامي لفظًا ومعنًى، ويسوق الأدلة على ذلك من القرآن والسنة النبوية، وأنها تعني ولاء المسلم لدينه وأمته، ومعاداته لكل منْ وما لا يرضي الله سبحانه وتعالى. ورغم ذلك فلتلك العقيدة ضوابط تكبحها من الوصول إلى حدود المغالاة والتعصب؛ إذ يذكر العالم السلفي الشهير الراحل «عبد العزيز بن باز» أن البراءة من غير المسلمين لا تعني الظلم، فيقول:

وليس معنى بغضهم وعداوتهم أن تظلمهم أو تتعدى عليهم إذا لم يكونوا محاربين، وإنما معناه أن تبغضهم في قلبك ولا يكونوا أصحابًا لك، لكن لا تؤذيهم ولا تضرهم ولا تظلمهم، فإذا سلموا ترد عليهم السلام وتنصحهم وتوجههم إلى الخير.

ولا تتعارض عقيدة «الولاء والبراء» الإسلامية مع إنصاف الأعداء فيما أصابوا فيه، كما تقول الآية الكريمة الثامنة في سورة المائدة: «وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا»، وكما تذكر قاعدة: «الحكمة ضالة المؤمن، أنَّى وجدها فهو أحق بها».

وهناك العديد من الاجتهادات الإسلامية المعاصرة التي تحاول إبراز إمكانية الجمع بين ولاء المسلم لدينه وأمته، وبراءته وقدرته على الاندماج الإيجابي مع غير المسلمين غير المحاربين، مثال ذلك بحث قواعد الاندماج، على الموقع الرسمي للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث.

والآن نعود إلى استعراض صيحات الولاء والبراء الغربي المحموم.

بعضهم أولياء بعض؟

رأينا في الأسبوعين الماضيين منذ اندلاع الغزو الروسي لأوكرانيا ما لا يُعد ولا يُحصى من الأمثلة، وكان في مقدمتها بيانات قادة الدول الغربية شديدة اللهجة في إعلان دعم أوكرانيا بالأسلحة، والدعوة لعزل روسيا، ومقاطعة كل ما هو روسي أيًّا كان شكله أو مجاله، من استهداف البنك المركزي الروسي وأرصدته المالية الضخمة، مرورًا بحرمان الروس من أبرز المنتجات الغربية، كعملاق التسوق الإلكتروني «أمازون»، وسلاسل المطاعم وأنواع المياه الغازية الشهيرة، وخدمات التحويل المالي مثل نظام سويفت، وشركة ويسترن يونيون، وليس انتهاءً بالرياضة والثقافة والدوريات العلمية الكبرى. حتى لم نكن لنتعجَّب لو سمعنا أحد القادة الأوربيين المتحفزين ضد كل ما هو روسي يستشهد بالآية القرآنية رقم 51 في سورة المائدة (في غير محلها بالطبع):

«وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»

بل تداعت العديد من الحكومات الغربية لإعلان سماحها للمقاتلين المتطوعين الذين يريدون الذهاب إلى أوكرانيا للدفاع عنها ضد العدوان الروسي، وبدأت بالفعل تَرِدُ على مواقع التواصل الاجتماعي صور للأوكران الأوروبيين (على وزن الأفغان العرب أيام الجهاد الأفغاني في الثمانينيات) أو المتطوعين الأوروبيين الذي حملوا السلاح ووصلوا بالفعل إلى كييف للدفاع عنها.

وفتحت دول شرق أوروبا الأبواب على مصراعيْها أمام أكثر من مليوني لاجيء أوكراني في أسبوعين فحسب، وهي التي تركت آلاف اللاجئين السوريين في العراء منذ أعوامٍ قليلة. وشهدنا عضوًا في البرلمان الإسباني، وتحت وابلٍ من التصفيق الحار من زملائه في الجلسة، يؤكد أنه من الواجب استضافة اللاجئين الأوكرانيين، فهم أوربيون مسالمون، ويختلفون جذريًّا عن اللاجئين من الشباب المسلم الذين يريدون غزو أوروبا واستعمارها، على حد قوله.

وخرج الرئيس الأمريكي، جو بايدن، يوم 8 مارس/أذار، في خطابٍ يؤكد فيه حظر الولايات المتحدة واردات النفط الروسي عصب اقتصاد روسيا، ولحقت بها بريطانيا. ويعمل الأوروبيون الآن على مدى الساعة على محاولة التخلص من الاعتمادية على الغاز الطبيعي الروسي الذي يمثل أحد أبرز مصادر العملة الصعبة للاقتصاد الروسي، فصرَّح وزير الطاقة الايطالي – على سبيل المثال – بأنهم يستهدفون مرحليًّا التخلص على الأقل من نصف تلك الواردات، ثم خلال عاميْن أو ثلاثة يُستغنَى عنها بشكلٍ تام. وأكد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن أن العقوبات لن ترفع إلا عمَّن ثبت توقفهم عن دعم الأنشطة الروسية.

وكان للرياضة – التي كثيرًا ما تباهى العديدون بحياديَّتها – نصيبها من إعلان «الولاء والبراء»، وليس بمجرد التضامن المظهري مع أوكرانيا، كتلويح اللاعبين في بعض الدوريات الأوروبية بالعلم بالأوكراني، أو وضع لونيْ علمها الأزرق والأصفر على شعار الدوري الإنجليزي مثلًا، لكن بالمقاطعة الفعَّالة للفرق الروسية في جميع البطولات، فقد أقصى الاتحاد الدولي لكرة القدم المنتخب الروسي من إكمال مشواره في التصفيات النهائية لكأس العالم قطر 2022، بالرغم من أن روسيا نفسها نظَّمت النسخة الأخيرة من كأس العالم 2018، بينما كانت طائراتها لأكثر من عاميْن تدكُّ المدن السورية وتُثبِّت حكم «ديكتاتور قاتل»، ولم يقاطعها أحد، وكانت بطولة ناجحة للغاية من منظور المكاسب الروسية.

تُذكِّرنا المقاطعة الرياضية الحالية بما حدث قبل 42 عامًا في إطار الحرب الباردة، عندما قادت الولايات المتحدة الأمريكية حملةً عالمية لمقاطعة أولمبياد موسكو 1980، احتجاجًا على الغزو السوفييتي لأفغانستان، وجرائم السوفييت بحق الشعب الأفغاني، واستجابت بالفعل 60 دولة حول العالم، لكن كان المستغرب أن بعض الدول الغربية متشنجة الموقف الآن تجاه الروس، لم تُقاطع عام 1980، ومنها بريطانيا وفرنسا وإيطاليا والسويد. مما يثير التساؤل حول القاعدة الأخلاقية الراسخة التي تُبنى عليها مواقف المقاطعة الرياضية الغربية للأعداء، والتي لا يبدو أنها موجودة من الأساس.

وحتى مشاهدة مباريات الدوري الإنجليزي لن تكون متاحة للروس، فقد علَّقت  رابطة الدوري الإنجليزي الممتاز عقدها مع الشريك الروسي. ووصل قطار «الولاء والبراء» الغربي الرياضي أيضًا إلى محطة ألعاب الفيديو، حيث أعلنت شركة EA GAMES أنها قد أزالت الفرق الروسية والبيلاروسية من لعبتها الشهيرة FIFA 22.

وفي الساحة الفنية، فيكفينا نموذج واحد، هو حظر مشاركة روسيا لعام 2022 من منافسات «يورو فيجن» الغنائية العالمية، والتي – للمفارقة – أحد أبرز شعاراتها هو: توحيد الأمم والاحتفاء بالتنوع من خلال الموسيقى.

ثم تمثَّلت المفاجأة الأبرز – بالنسبة لي شخصيًّا كطبيب وعضو في هيئة تدريس جامعية – أن المقاطعة ضد روسيا وصلت إلى ساحات العلم والطب، حيث علَّقت جمعية القلب الأوربية ESC، وهي أبرز هيئة جامعة لأطباء القلب في العالم، عضوية أطباء روسيا وحليفتها بيلاروسيا، ووصفت جمعية القلب الروسية هذا القرار بالمُسيَّس وغير النزيه.

وقطع معهد ماساشوسيتس الأمريكي للتقنية MIT علاقة التوأمة بينه وبين معهد سكولكوفو للتقنية في موسكو، والذي أنشئ عام 2011 بكلفة تفوق 300 مليون دولار حصل عليها المعهد الأمريكي الشهير.

واتخذت مؤسسة سيرن CERN العلمية – التي أنُشئت قبل أكثر من 100 عام وتضم أكبر معامل الفيزياء الجزيئية في العالم – قرارًا بإلغاء عضوية روسيا كمراقب، والاستعداد لإجراءات أكثر حدة وفق التطورات.

جديرٌ بالذكر أن «سيرن» لم تقُم بخطوة مماثلة ضد الاتحاد السوفيتي إبَّان غزوه لتشيكوسلوفاكيا عام 1968 أو أفغانستان عام 1979. أمَّا كورسيرا، عملاق التعلم عبر الإنترنت، فقد أصدرت إدارته قرارًا بحظر جميع المحتوى العلمي روسي المصدر، وكذلك علَّقت تعاوناتها مع جميع المؤسسات العلمية الروسية.

وكل ما ذكرناه هو غيضٌ من فيض من الإجراءات الغربية، والتي من المتوقع أن تتصاعد في الأيام والأسابيع القادمة.

هل يمثل هذا الأداء الغربي مفاجأة تاريخية؟

 تغلبُ على التاريخ الأوروبي الوسيط والحديث فترات الاحتراب البيْني لمختلف الأسباب السياسية والعسكرية والدينية، ودوامات الصراع من أجل احتكار موارد القارة الأوروبية، وإرواء نهم الأوروبيين للهيمنة على شعوب العالم وثرواتها. لكن رغم ذلك يحفل التاريخ الأوروبي بمواقف كانت فيها القوى الأوروبية الرئيسة قادرة على الحشد للتوحد ضد عدوٍّ خارجي مشترك، ولعلَّ أبرز مثال تاريخي على ذلك هو الحملات الصليبية التي كانت من أكبر علامات العصور الوسطى، وبلغت 7 حملات على الأقل ضد مصر والشام في القرنيْن الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، ثم عشرات الحملات الصليبية في القرون التالية ضد القوة العثمانية المتصاعدة في أوروبا، وكان يصاحب تلك الحملات شيطنة بالغة للشرق الإسلامي برمته، وإسباغ جميع صفات العدو السوداوية عليه، لتبرير المذابح والاحتلالات التي صاحبتها.

وفي التاريخ العثماني نموذج لافت لتحالف أوراسي كبير ضد العثمانيين، هو ما يُسمَّى بالحرب التركية الكبرى 1683-1699، والتي عُرفت أيضًا بحروب العصبة المقدسة، والتي تحالفت فيها ثلاث قوى مسيحية كاثوليكية كبرى هي إمبراطورية النمسا وبولندا وجمهورية البندقية، مع روسيا القيصرية المسيحية الأرثوذكسية، ضد الدولة العثمانية، ونجحوا في إلحاق الهزائم بها شرقًا وغربًا، حتى أجبروها على التوقيع على معاهدة كارلوفيتز 1699، والتي تنازلت بموجبها الدولة العثمانية عن بعض أبرز مناطقها الأوروبية.

كانت المفارقة أن القوى الأوروبية الكبرى في العموم لم تكنْ على وفاق مع تطلعات روسيا الإمبراطورية، ومذهبها الأرثوذكسي، وتجلى ذلك في العصور اللاحقة، لا سيَّما في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي عندما هدَّدت الإمبراطورية الروسية الممتدة بابتلاع الدولة العثمانية المتداعية، ومثَّل هذا لأوروبا خطرًا جسيمًا قد يخل بتوازنات القوة في العالم، فنشبت حرب القرم 1853-1856، والتي شاركت فيها إنجلترا وفرنسا عسكريًّا إلى جانب العثمانيين ضد الروس، وانضم المئات من المتطوعين من القارة الأوروبية لا سيَّما من سردينيا الإيطالية لمواجهة الروس، وانتهت الحرب بمعاهدة باريس عام 1856، التي قوَّت جانب العثمانيين قليلًا في مواجهة الروس لأكثر من 20 سنة لاحقة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.