يسأل سائل: هل ينصر الله المؤمنين إن تمسكوا بالدين؟ ألم يقل القرآن: «وكان حقا علينا نصر المؤمنين»؟ ألم يقل عمر بن الخطاب: «إننا لا ننتصر بعدد ولا عُدّة، إنما ننتصر بطاعتنا لله ومعصيتهم له، فإن نحن عصينا الله تعالى فقد استوينا وإياهم في المعصية وكان لهم الفضل علينا»؟ أليس الإيمان سبب النصر على الدوام؟ ألم يصب المسلمون منذ تركوا دينهم وقصّروا في عبادة ربهم؟ ألا ينصلح حال آخر هذه الأمة بما انصلح به أولها وهو التمسك بالدين؟

يحكون أن أسيرًا مجاهدًا فلسطينيًا كان بطلًا مغوارًا يدافع عن دينه ووطنه ضد ظلم المحتلّين المعتدين – عجّل الله زوال كيانهم المغتصب – وأن هذا الأسير بعد وقوعه في الأسر قد أودع زنزانة ليس فيها إلا نافذة واحدة في السقف. في إحدى الليالي، وكان هذا الأسير مصابًا في قدمه، ضاقت عليه جدران محبسه، والتاعت نفسه بسبب حريته التي قيدها المجرمون، فما كان منه إلا أن ظل يقفز بكل ما أوتي من قوة رجاء أن ينفذ من هذا المنفذ الوحيد الذي في سقف الغرفة.

رغم ما كان فيه هذا البطل المغوار من إيمان بالحرية المسلوبة، وتشوّف إلى معالي الأمور، وشوق جامح إلى النور والهواء، وهمة عالية تتصاغر أمامها الجبال، لم يسعفه كل ذلك أمام حقيقة الجدران الصلبة المرتفعة والنافذة البعيدة المنال والإصابة التي في قدمه. تهشمت قدماه تمامًا حتى أنه لم يستطع الوقوف عليهما، وأقفل محضر المحاولة في ساعته، وكتب عليه بمداد الحال: «سوابقُ الهمم لا تخرق أسوار الأقدار».

هذه حكاية، ولنحكِ حكاية أخرى.

في مرة من المرات سرت في شوارع مدينة قرطبة الإسبانية، وفي أحد أزقّتها رأيت لافتة مكتوبًا عليها بالإسبانية Galería de la Tortura أو: متحف العذاب. دخلت على وجل لأجد عرضًا للأدوات التي استخدمتها محاكم التفتيش المسيحية الإسبانية ضد المسلمين بعد طرد آخر ملوك غرناطة من المسلمين.

رأيت أدوات بلغت في وحشيتها مبلغًا لا يتصوره خيال الوحوش، فيها مقصّات كانوا يقصون بها حَلَمات النساء عن أثدائهنّ، وقوالب صخرية كانوا يحبسون المساجين فيها في أوضاع مرهقة لسبع سنين، حتى يلتحم لحم جسدهم بالصخر فلا يستطيعون اقتلاعهم منه إلا بالموت.

المتحف قائم في قرطبة يحكي هذه الصفحة السوداء من تاريخ الإنسان، ويحكي زمنًا ظل المسلمون فيه مائة وعشرين سنة يُقتَلُون ويُعَذّبون ويُـحرَقون لا لشيء إلا لرغبتهم في أن يظلوا مسلمين. كم رجل اقتيد إلى التعذيب قهرًا، كم شيخ عجوز دعا الله واستغاث به سبحانه، كم أم بكت وهي ترى ولدها يعمّد أمام عينيها في الكنيسة وهو مسلم، كم قصيدة كتبها شاعر، كم حلم داعب خيال ثوار حاولوا مرارًا أن يقاوموا، كم رجل سار بالليل برسالة إلى حكام المسلمين من بني عثمان لينقذوهم، ولا مجيب. انتصر القوي على الضعيف، انتصر لأنه قوي.

هذا حال الدنيا. قد سبق أن مهّدنا أن كل شيء في الكون يجري على وفق قوانين كونية، وقواعد مستقرة، تربط الأسباب بالنتائج. ومن توهم أن شيئًا يحصل بغير سببه فقد ارتكب خطأ دنيويًّا جسيمًا وخطأ دينيًّا جسيمًا كذلك.

فأما خطؤه الدنيوي فهو الغفلة التي تصل إلى حد البلاهة في إنكار الواقع المحسوس الذي يقضي بأنه من زرع حصد، ومن جد وتوفرت له الظروف وجد.

وخطؤه الديني لأنه إن أنكر الأسباب ففيه شبهة الاعتراض على الله وعلى قضائه أن يجري الكون على هذه الصورة، وفيه نوع من الغرور لأنه ظن نفسه فوق المخلوقات التي قدر الله عليها أن تتقيد بما في الكون من أسباب وقوانين.

وهذا الكلام أوضح من أن يستدل عليه، فتاريخ الإسلام حافل بهزائم مُنيَ بها أولياء صالحون من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – وتابعيهم بإحسان، وانتصار لظالمين عداة، فلو كان النصر بالإيمان لانتصر هؤلاء، ولانتصر سيدنا الحسين – رضي الله عنه – على جيوش أعدائه، ولانتصر المسلمون المستضعفون في الأندلس المعذبون سنين طوالًا على أيدي عتاة محاكم التفتيش، ولانتصر جيش الإسلام بقيادة الغافقي على جيش شارل مارتل في بلاط الشهداء، ولانتصر المسلمون في صقلية على النورمانديين، ولأوقف المسلمون المذابح التي أقامها المغول في بغداد حتى احمرت الأنهار، ولانتصر أطفال الحجارة الشرفاء الأبطال على المجرمين العتاة من الصهاينة.

فتبين أن النصر لم يحصل للمؤمنين لمجرد كونهم مؤمنين.

فحقيقة الأمر أن النصر قائم على الأسباب، فالأقوى والأكثر تذرعًا بالأسباب التي جعلها الله أسبابًا للنصر والأشد أخذًا بمجامع القوة هو المنتصر لا محالة، مسلمًا كان أو كافرًا، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا.

فإذا أخذ المؤمنون بالأسباب المكتسبة التي في استطاعتهم الأخذ بها، وتوفرت لهم الظروف والأسباب غير المكتسبة التي لا تدخل لهم في تحصيلها، حتى فاقت أسبابهم أسباب أعدائهم وزادت قوتهم على قوتهم، انتصروا، وكان ذلك جزاء لهم ونعمة، وكان جزاءً لأعدائهم وتعذيبًا لهم بأيدي المؤمنين.

وإذا قصّر المؤمنون في الأخذ بالأسباب ففاقت أسبابُ أعدائهم أسبابَـهم، انتصر أعداؤهم، وكان عقابًا للمؤمنين على تقصيرهم، واستدراجًا للكافرين.

وإذا لم يقصر المؤمنون في الأخذ بالأسباب وحاولوا قصارى جهدِهم، لكن كانت أسباب الكفار أكثر وأمتن، انتصر الكفار، وكان ابتلاء للمؤمنين. وكل شيء في الدنيا له سبب إذا توفر حصل، ومن ذلك النصر على الأعداء، يكون للأقوى والأحسن استعدادًا، الأكثر استمساكًا وتحقيقًا للأسباب، وعلى هذا ناموس الكون، وهو مجرى أقدار المولى سبحانه وتعالى.


مناقشة النصوص التي تتحدث عن النصر الإلهي للمؤمنين

سبق أن الطريق لمعرفة عادة الله في خلقه وسنة الله في الكون هي بالنظر إلى الكون ومشاهدة العلاقات السببية[1]، وإن الظاهر لكل من له قراءة في التاريخ والواقع أن وقائع عدم اطراد النصر العسكري للمؤمنين أكثر من أن تحصى، وتفسير كل هذه الوقائع بأن النصر لم يتحقق لعدم تحقق شرط الإيمان الكامل[2] متعذر؛ إذ لا شك أن إيمان الحسين – رضي الله عنه – أتمُّ من إيمان قاتليه، وإيمان أصحاب الأخدود أتمُّ من إيمان قاتليهم، وإيمان من قتل من الأنبياء عليهم السلام أتم، وإيمان الغلام صاحب قصة «باسم الله رب الغلام» أتمّ، وإيمان امرأة فرعون أتمّ، والأمثلة من الواقع والتاريخ والنصوص أكثر من أن تحصى.

وإن المنهجية العلمية الصحيحة هي التي تنظر إلى الحقائق المختلفة وتحاول أن تفسرها تفسيرًا لا يناقض بعضه بعضًا، بحيث تتناغم الحقائق داخل ذلك التفسير، وكلما كان التفسير تَخرج عنه أمور ومشاهدات، فيُتعسف في تأويلها، كان ذلك أدل على البعد في ذلك التفسير أو تلك النظرية.

وإن من المعلوم القطعي المطرد أن الكون قائم على أسباب تحكمه ولا يخرج عنها، أقام الله تعالى الكون عليها، يخلقها ويقيمها، وكان يمكن أن يخلق الكون على نظام غيرها، وأن السبب إذا وجد وجد المسبب، وإذا تخلف السبب ووجد المسبب فهذا دليل على خطأ ظننا في كون السبب سببًا في نفس الأمر، وأيضًا قد يكون ذلك لوجود مانع منع حصول الأثر.

فالقول بأن الإيمان الحق من أسباب النصر، بمعنى أن هذا من حيث كونه مطابقًا للحق يؤثر في نحو النصر، يحتاج إلى دليل.

«وكان حقا علينا نصر المؤمنين»

فإن قال قائل: الدليل في إخبار الله تعالى لنا أن الإيمان يستلزم النصر كما في قوله تعالى:{وكان حقا علينا نصر المؤمين}، وكلامكم معناه أن المؤمن قد يكون مؤمنًا ولا ينتصر، وهذه مخالفة للآية. نعم، يمكن ألا ينتصر المؤمن لنقص في إيمانه أو معصية عصاها، لكن إن اكتمل الإيمان، فالنصر مستحق كما أخبر القرآن. فالله تعالى يقول: {وكان حقا علينا نصر المؤمنين} وظاهره وعد المؤمنين بالنصر، ويظهر أن هذا الوعد بالنصر من حيث كونهم مؤمنين، أي لأنهم مؤمنين، وإلا فما سر ذكر لفظ “المؤمنين” في كل تلك النصوص، لو أن الأمر نفسه مكفول للجميع بلا أي فرق؟

نقول: في الآية الشريفة السابقة، نجد أن المستشكل هذا فسر الآية الكريمة بأن قال أولًا: النصر المقصود في قوله تعالى: هو الغلبة العسكرية الدنيوية، وهذا الذي قاله هو أحد ما يمكن أن تفسر به كلمة النصر.

ولكن من المشاهد أن النصر لا يحصل لكل مؤمن، فاضطر لتخصيص عموم قوله تعالى: «المؤمنين»، كأن قال: وكان حقا علينا نصر «بعض المؤمنين»، وهذا البعض عنده هم الذين وإن لم تكتمل أسبابهم المادية الدنيوية التامة، لكنهم حصلوا قدرًا كافيًا لا يعدون به مقصرين، ثم قد تحققوا بالإيمان الصحيح، فيجبر الله تعالى القصور.

ونحن نقول في مناقشة هذا الفهم:

إننا نكرر ضرورة مراعاة المنهجيات العلمية في التعامل مع الحقائق، من الجمع بين المشاهدات والواقع وما اطرد من نظام الله تعالى وعادته في خلقه، وفهمنا للنصوص الدينية. ونزيد على هذا بضرورة فهم النصوص الشرعية مراعين القواعد المحررة في ذلك، التي منها مثلًا:

أن الألفاظ الواردة في النصوص الشرعية إذا احتملت معاني مختلفة، بعضها شرعي وبعضها الآخر لغوي أو عرفي، فإننا نحمل اللفظ على المعنى الشرعي؛ إذ الأصل أن الشرع جاء لتقرير المعاني الدينية الشرعية[3]. فإنا إذا نظرنا إلى قوله تعالى: «وكان حقا علينا نصر المؤمنين»، فإما أن يكون المراد:

أن المنصور هو كل المؤمنين على ما هو الظاهر من عموم لفظ «المؤمنين»، أي أنه كان حقا علينا نصر (كل) المؤمنين أي نصرًا شرعيًّا، وهو الانتصار في آخر الأمر في مجموع الدنيا والآخرة، واللفظ الشرعي يليق به أن يحمل على المعنى الشرعي قبل اللغوي، وعلى هذا التفسير يدخل الغلام المعهود وامرأة فرعون وأصحاب الأخدود ونحوهم، وهم أغلب المؤمنين، ويبقى لفظ (المؤمنين) على عمومه، وهو أولى من تخصيصه[4]، وكذلك يبقى «النصر» شاملًا لمعاني أعم وأكثر من خصوص النصر العسكري.

فعلى هذا التفسير يكون الوعد بالنصر على حقيقته، وغاية ما فيه هو تفسير النصر بغير العسكري الدنيوي البحت، وليس هذا بعيدًا عن نصوص الشارع، بل لو قال شخص: “هو الأليق بالنصوص الدينية” لم يكن ذلك بعيدًا.

أو يكون المعنى: وكان حقا علينا نصر «بعض» المؤمنين نصرًا دنيويًا، وهذا البعض هم الذين أردنا أزلًا نصرتهم، بتقدير تهيئة الأسباب لهم للنصر، فيكون تخصيص العموم الوارد في الألف واللام خاصًّا بمن قدّر الله استيفاءه للأسباب. وهو أضعف من التفسير الأول، لكن أقرب من تفسير المعترض[5]؛ إذ ليس فيه حمل الوعد على غيره، ولكن فيه جعل الوعد مرهونًا بشرط وهو تعلق الإرادة أزلًا بنصرهم، وأن ذلك يكون بتقدير الأسباب لذلك كذلك. فعلى كلا من التفسيرين لا يلزم عليهما خرق قانون الأسباب العادية التي أقامها الله في الكون.

«كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله»

وإنا إذا نظرنا إلى قوله تعالى: «كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله؟»، فقد يُشكل على البعض هذا في ظل ما قررناه، إذ من المعلوم أن الكثرة والقلة من أسباب النصر، وأن الكثرة تغلب القلة، ولكن الله تعالى يخبرنا بخلاف هذا، فهل معنى هذا إلا أن الله تعالى ينصر القليل الضعيف الطائع المخلص له تعالى، على من حاز الأسباب كلها؟ يعني نصرًا مخالفًا للأسباب!

ونقول: ليس في الآية أن هذا خارق للعادة أصلًا، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة؛ لصبر الفئة القليلة أو لقوة إيمانها بقضيتها وشدة تضحيتها أو لحسن تخطيطها وتنظيمها أو لقوة عتادها إلى غير ذلك من أسباب النصر المختلفة، فإنه من المعلوم أن أسباب النصر كثيرة جدًّا ومتداخلة، وظروف المعارك كذلك كثيرة التعقيد والتشابك، ولا يوجد معادلة واضحة، تضع فيها المعطيات، فتخرج لك نتيجة المعركة!

فالكثرة والقلة من العوامل السببية المؤثرة في المعارك، ولكنها ليست الوحيدة، بحيث إذا غلبت فئة قليلةٌ كثيرةً تكون قد انخرقت الأسباب، ويكون ذلك من جنس المعجزات.

ففي معركة بلاط الشهداء مثلًا، المشهور أن الكفار كانوا أقل من المؤمنين. فهل خرق الله العادة لشارل مارتل؟

فهذا الأمر – أي غلبة الأقل عددًا للأكثر – يحصل كثيرًا في التاريخ، لأن معيار العدد ليس المعيار الوحيد للقوة، بل قد تكون الفئة الأقل عددًا أقوى لتوفر أسباب أخرى لها غير العدد.

فقد أسفر الصبح لذي عينين، والتأم بذلك الفهم لمن وفّق له أمر الدين والدنيا، فلا يصير واهمًا ساذجًا، ولا جلفًا قاسيًا، بل يعطي كل شيء حقه، والله سبحانه الناصر والمعين.

«إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم»

ولننظر في قوله تعالى: «إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم» مثلًا، فإن نفس الكلام ينطبق عليه.

فيكون المراد من قوله تعالى والله أعلم: إن تنصروا الله بالعمل بكل ما أمركم به، ومنه الأخذ بالأسباب كاملة وإعداد ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل .ـ ينصركم بتهيئة الأسباب للنصر، وإذا أراد الله أمرًا هيأ له أسبابه.

ولو قيل إن هذا يلزم عليه تأويل عدد كبير من النصوص، والتأويل لا بد له من قرينة صارفة عن إرادة الظاهر، فما هي تلك القرينة؟ وما هو الإشكال المترتب على الحمل على الظاهر؟

فنقول: سبق أن بينا أن مفهوم النصر أعم مما حمله عليه البعض إلى غير ذلك، ثم هذا لا يسمى تأويلًا، لعدم ظهور المعنى الذي يدعونه فنحتاج إلى صرفه إلى غيره لقرينة، بل إن ظهور ما ندعيه هو الأولى ويؤيده القرائن القاطعة من ضرورة عدم مخالفة معاني النصوص الشريفة لسنة الله تعالى المطردة التي لن نجد لها تبديلًا ولا تحويلًا!

«إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد»

ربما يقول قائل: قد قلتم إن معنى النصر قد يكون النصر في آخر الأمر، فأين تذهبون من النص على أن النصر كائن في الحياة الدنيا كذلك كما في قوله تعالى: «إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد».

نقول: النصر هو مطلق التفوق والغلبة، وأنت أردت أن تخصصه بخصوص النصر العسكري الدنيوي (وليس هو الأصل المتبادر في فهم نصوص الدين) ثم صادمت بذلك الواقع المشاهد والتاريخ وسنة الله في الكون وقانون الأسباب.

وهذا طرف مما قاله المفسرون في تفسير هذه الآية الكريمة:

ذكر الإمام فخر الدين الرازي في بيان المراد من النصر الإلهي الدنيوي الوارد في قوله تعالى: «إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد»، سبعة وجوه، يقول:

واعلم أن نصرة الله المحقين تحصل بوجوه: أحدها: النصرة بالحجة، وقد سمى الله الحجة سلطاناً في غير موضع، وهذه النصرة عامة للمحقين أجمع، ونعم ما سمى الله هذه النصرة سلطاناً لأن السلطنة في الدنيا قد تبطل، وقد تتبدل بالفقر والذلة والحاجة والفتور، أما السلطنة الحاصلة بالحجة فإنها تبقى أبد الآباد ويمتنع تطرق الخلل والفتور إليها. وثانيها: أنهم منصورون بالمدح والتعظيم، فإن الظلمة وإن قهروا شخصًا من المحقين، فإنهم لا يقدرون على إسقاط مدحه عن ألسنة الناس. وثالثها: أنهم منصورون بسبب أن بواطنهم مملوءة من أنوار الحجة وقوة اليقين، فإنهم إنما ينظرون إلى الظلمة والجهال كما تنظر ملائكة السماوات إلى أخس الأشياء. ورابعها: أن المبطلين وإن كان يتفق لهم أن يحصل لهم استيلاء على المحقين، ففي الغالب أن ذلك لا يدوم بل يكشف للناس أن ذلك كان أمرًا وقع على خلاف الواجب ونقيض الحق. وخامسها: أن المحق إن اتفق له أن وقع في نوع من أنواع المحذور فذلك يكون سبباً لمزيد ثوابه وتعظيم درجاته. وسادسها: أن الظلمة والمبطلين كما يموتون تموت آثارهم، ولا يبقى لهم في الدنيا أثر ولا خبر. أما المحقون فإن آثارهم باقية على وجه الدهر والناس بهم يقتدون في أعمال البر والخير ولمحنهم يتركون، فهذا كله أنواع نصرة الله للمحقين في الدنيا. وسابعها: أنه تعالى قد ينتقم للأنبياء والأولياء بعد موتهم، كما نصر يحيى بن زكريا فإنه لما قُتل، قُتل به سبعون ألفًا، وأما نصرته تعالى إياهم في الآخرة فذلك بإعلاء درجاتهم في مراتب الثواب وكونهم مصاحبين لأنبياء الله.
وفي تفسير النسفي:
«إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَـٰدُ»، أي في الدنيا والآخرة يعني أنه يغلبهم في الدارين جميعًا بالحجة والظفر على مخالفيهم، وإن غلبوا في الدنيا في بعض الأحايين امتحانًا من الله والعاقبة لهم، ويتيح الله من يقتص من أعدائهم ولو بعد حين.
ويقول الألوسي في تفسيره معلقًا على الآية:

فكلهم كما ترى لم ينكروا الواقع التاريخي المشاهد، بل النصوص الدينية الحاكية لعدم انتصار المؤمنين نصرًا عسكريًّا دنيويًّا في بعض معاركهم كقصة أصحاب الأخدود وغيرها.

وقد يُقَدِّر الله تعالى النصر لرسله، ويكتب لهم الغلبة الدنيوية كما فعل الله تعالى مع سيدنا داود وسيدنا سليمان، ثم سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – وقد يكون ذلك عن طريق معجزة خارقة للسنن الكونية، كما فعل الله مع سيدنا موسى وفرعون، ولكن خرق السنن الكونية لا نطلبه وننتظره، فإن المعجزات والكرامات هي من جنس أن يقفز شخص من أعلى المبنى ثم يقول لن أسقط لأن الله تعالى قادر على ألا يجعلني أسقط!

فلو أكرم الله تعالى بعض أنبيائه بمعجزات باهرة، هي في الحقيقة أدلة على صدقهم أنهم رسل الله، فإن طلبنا للخوارق وانتظارنا إياها هو كقفزنا من أعلى المبنى ثم قولنا ننتظر من الله تعالى أن ينقذنا، وسبق أن تكلمنا عن سوء الأدب مع الله تعالى في الدعاء في مقال سابق.[6]

ويظهر مما سبق أن الفهم الذي يظنه البعض عن «نصر الله تعالى للمؤمنين» مستشهدين ببعض الآيات الشريفة، أن ذلك مع مخالفته لما قررناه، فإنه كذلك مخالف لكلام المفسرين، وفي ظل ما سبق يُنظر في الآيات المشابهة، والله تعالى أعلم. ونحن لا نجد في تفاسير الأئمة المعاني الخاطئة المنتشرة في هذا العصر التي نناقشها، بل نجدهم يقررون أن الواقع يخالف ظاهر الآيات، فيتجهون إلى الجمع بين الحقائق.


الإشكالات في ظن أن الله تعالى ينصر المؤمنين نصرًا دنيويًّا لكونهم مؤمنين

أما كلام من يظن أن الله ينصر المؤمنين نصرًا دنيويًّا لكونهم مؤمنين، أي وإن لم تكتمل عندهم الأسباب التي جعلها الله تعالى سبيلًا للنصر ففيه مشكلات كبرى:

منها: الظن أن الكثير من المؤمنين الذين كتب الله لهم الهزيمة من قبل لم يكتمل إيمانهم، والذي يظن ذلك يحسب أن أهل عصره سيحققون من الإيمان واليقين ما لم يتحقق عند من سبق من جماعات الأمة طوال القرون التي خلت. وهذه دعوى خطيرة.

ومن ذلك: الظن أن قانون الأسباب المطرد يتغير ويتأثر بالأعمال القلبية والنوايا، بمعنى أن من قصر في جملة الأسباب المادية المؤثرة، وقد كان قادرًا على الأخذ بها فإنه ينهزم، ولكن من قصّر في السبب ولم يكن قادرًا على الأخذ به، لكن كان معه الإيمان والتقوى والصلاح، جبر الله قصوره ونصره، يعني تغيرت منظومة الأسباب واختلفت تبعا للاعتقاد الصحيح.[7]

وهذا وهم كبير، وخلل في فهم قوانين الكون، التي خلق الله عليها الدنيا، والتي من جملتها ما يحكم المعارك والحروب، وما هو من مقومات بناء الحضارات المادية، وتطوير الأسلحة والتكنولوجيا، وغير ذلك، التي ليست بخاضعة ولا مؤثر فيها الأعمال القلبية للأشخاص والجماعات.

ومنها: التشكيك في قوانين الكون وعلاقاته السببية، وهذه مشكلة كبرى لأن الاستدلال على صحة الدين يكون بالمعجزة، التي هي (خرق لهذا النظام)، فهي فرع عن وجود ذلك النظام أصلًا واطراده قطعًا، بحيث إذا حصل أمر خارق لهذا النظام واقترن بدعوة نبي أنه من عنده الله إلى آخر شروط المعجزة علمنا أن الله فعلًا هذا تصديقًا للنبي في دعواه، فمعرفة النظام السببي الكوني لا يتوقف على الشرع، وهو سابق له، لما يلزم عليه من الدور[8]، والتي أصلًا لم يأت الشرع ببيانها؛ إذ الشرع إنما جاء أصالة لبيان الأمور الدينية الشرعية، لا لبيان الأمور التي طريقها الحس والمشاهدة والتجريب والنظر.


أليس للإيمان دخل في النصر البتة؟

قد يسأل سائل: فهل يعني هذا أن الإيمان ليس قوة دافعة في الحروب، وأنه لا يؤثر البتة في النصر؟

نقول: سبق ونكرر أن محل النزاع هو في كون خصوص الإيمان المطابق للواقع الصحيح، فيه تأثير ومزية، تؤثر، بناء على النظام السببي الكوني.

أما لو قيل بأن الكلام على «أثر الإيمان مطلقًا» في نفس الجنود مثلًا، وأثر ذلك في الانتصار على الأعداء، فهذا أمر آخر، بمعنى أن:

الإيمان بمعنى الاعتقاد في شيء ما، فإن هذا من الأسباب دون شك، بغض النظر عن كون الاعتقاد مطابقًا للواقع أو لا، فإيمان الياباني بإمبراطوره الدافع له لتفجير نفسه مؤثر وسبب دون شك في استبساله في القتال المؤدي إلى النصر.

ونفس هذا الإيمان يتحقق للمسلمين أحيانًا كثيرة. فإن المسلمين إذا قوي إيمانهم بالله واليوم الآخر فإن هذا الإيمان سينتج نتيجة سببية، وهي شدة استبسالهم في القتال وعدم خوفهم من الموت.

وبما أن الإيمان هذا هو إيمان بحقيقة مؤيدة بالراهين القطعية، وأنه متناغم أشد التناغم من العقل والقلب، ومطابق للواقع، فإن ذلك له من هذه الناحية الأثر النفسي العظيم في تحفيز النفوس، ثم إذا أضيف إليه التصديق الجازم بالوعد العظيم والثواب الجليل على الثبات في المعركة، والثواب المنتظر لمن يموت شهيدًا، فيكون الموت أحب إليه من الحياة، كما قال خالد بن الوليد لبعض من قاتل من الكفار: «فقد أتيتكم بأقوام هم أحرص على الموت منكم على الحياة»[9].

ومن يعتقد جازمًا بقوله تعالى في سورة آل عمران: «ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون (169) فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون (170) يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين (171)».

فإن هذا من شأنه أن يحرك غاية الاستبسال أشد تحريك، ويحفز أشد التحفيز!

فكل من آمن بشيء ما أشد الإيمان، وكان محفزًا له أشد التحفيز، فإن ذلك يكون من جملة الأسباب المؤثرة في النصر، ولو كان الإيمان متناغمًا مع العقل والقلب، مؤيدًا بالحجج والبراهين، واعدًا بموعود الآخرة للشهداء، فهو أشد تأثيرًا في نفس الجنود ولا شك. ولذا فإن إدارة الأمور المعنوية هي ركن أساسي في جيوش العالم كله.

وكذلك من نفس الجهة، فإن أثر مخالفة المرء لما يعتقده من تعاليم وقيم وآداب حقًّا لهو من نفس الباب، فإن من يعتقد اعتقادًا جازمًا في أحقية أمر ما، وأهميته وقدسيته، ثم يخالفه عامدًا عالمًا! فإن أثر ذلك على النفس لكبير عظيم، فإنه يتسبب في الأرق الشديد والاضطراب والخلل، ويعيق المرء عن إحسان أعماله والتركيز فيها على وجهها، فتناقض سلوك الشخص وحياته مع (cognitive dissonance) له أثره على الحياة لا شك! ولا يتحسن من حاله كذلك إلا بتبديل الأفعال لتوافق القناعات، أو بالعكس!

وكذلك، فإن المرء الذي تطيق نفسه إلى حقائق الأمور، ولا يقنع بمحض اتباع الشهوات، غافلًا عن الحقائق، عن حقيقة من أين جاء وما عليه أن يفعله في الدنيا وإلى أين يذهب بعد الموت، إن مثل هذا الشخص الباحث الحائر، لا تهدأ نفسه ولا يطيب له أمره وحياته، إلا بأن يكون على الحقيقة، على الأمر المطالب للواقع في نفس الأمر، يصله بدليله فيجزم به وينشرح به صدره، فالأثر الدنيوي على فقدان الإيمان الحق على مثله عظيم كذلك.

ومن نفس الجهة فإن من هو في أشد الغفلة، يعيش كالأنعام يأكل ويلهو ويلعب، بل يجتهد في الدنيا ويحصل ما فيها، متدنيًا عن طلب الحقيقة، قانعًا بما يراه كما هو، مؤمنًا به أشد الإيمان، فإنه على ما هو فيه من تدنٍ وانحطاط، فلا يكون لما هو عليه من كفر وضلال مؤثرًا في سعيه الدنيوي ولا مشتتًا له عما يفعل من الأخذ بأسباب النماء والفوز في الدنيا!

وهذا كله عند التأمل هو جار على النظام السببي الذي أقامه الله تعالى، وفي ظل هذه المعاني، وجمعا بينها وبين ما سبق تقريره يُفهم نحو ما روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه – وإن كان في ثبوته ضعف – وغيره في أثر المعاصي على السعي الدنيوي.


هل هذا التفكير نزوع نحو المادية؟

ولا يقدح في ذلك ما قد يتفق للكفرة من صورة الغلبة امتحانًا، إذ العبرة إنما هي بالعواقب وغالب الأمر.

وإن مما يثير في نفوس البعض عدم الارتياح إلى ما قلناه هنا هو ظنهم أن هذا الكلام (نظرة مادية للأمور)، وأن المؤمن الحق هو من لا ينظر هذه النظرة المادية، بل من يرى غير المادية في الواقع، فإن هذا ما يميز المؤمن غير المادي عن المادي.

والذي يعنينا في هذا المقام أنه سبق أن هذا النظام الكوني المادي، هو نظام الله تعالى وخلقه، ومظهر تجلي أسماء الله وصفاته، قضى به وقدره وأقامه وعلمه وأراده وأوجده، فالعلم به والتمسك بما علمنا منه (الذي هو الأسباب المادية) هو حرص على معرفة سر الله تعالى في خلقه، وبديع نظامه، فإن هذا من أعظم العبادات إن نُظر إليها من هذه الناحية، وتورث من الآثار القلبية والنفسية المعاني العظيمة.

وإن من يرى أن هذا الكون المادي بأسبابه، أنه أمر قبيح أو مذموم، أو يعارض التمسك بمعالي الأمور وحقيقة التدين، أو نحو هذا، فكأنه يجعله أو ينظر إليه على أنه قائم بنفسه مستقل، فيريد أن يتعلق بما هو متعالٍ على هذا، فكأن المادة وقوانينها ليست أيضًا مخلوقات لله تعالى! وكأن المادي وغير المادي يختلفان مع جهة أن بعضها صنع الله والآخر ليس كذلك![10]

يقول سلطان العلماء الإمام عز الدين ابن عبد السلام، رحمه الله:

فأحكام الإله كلها مضبوطة بالحكم، محالة على الأسباب والشرائط التي شرعها، كما أن تدبيره وتصرفه في خلقه مشروط بالحكم المبينة المخلوقة مع كونه الفاعل للأسباب على الأسباب والمسببات، ولو شاء لاقتطع الأسباب عن المسببات ودل بينهما من التلازم. فكما شرع للتحريم والتحليل والكراهة والندب للإيجاب أسبابًا وشروطًا. وكذلك وضع لتدبيره وتصرفه في خلقه أسبابًا وشروطًا. فجعل للجوع أسبابًا، وللشبع أسبابًا، وللسقم أسبابًا وللموت أسبابًا، والحياة أسبابًا، وللغنى أسبابًا، وللقرب أسبابًا، وللبعد أسبابًا، وللعز أسبابًا، وللذل أسبابًا، وللضحك أسبابًا، وللبكاء أسبابًا، وللنشاط أسبابًا، وللكسل أسبابًا، وللحركات أسبابًا، وللنصح أسبابًا، وللغش أسبابًا، وللصدق أسبابًا، وللسعادة أسبابًا، وللشقاوة أسبابًا، وللغموم أسبابًا، وللذات أسبابًا، وللآلام أسبابًا، وللصحة أسبابًا، وللخوف أسبابًا، وللغضب أسبابًا، وللأمن أسبابًا، وللراحات أسبابًا، وللنصب أسبابًا، وللعرفان أسبابًا، وللاعتقادات الصحيحة أسبابًا، وللفاسدة أسبابًا، وللشك أسبابًا، ولليقين أسبابًا، وللظنون أسبابًا، وللأوهام أسبابًا. كل ذلك قد نصبه الإله مع الاستغناء عنه وهو المنفرد بخلق الأسباب ومسبباتها، فلا يوجد سبب مسببًا إذ لا موجود غيره، ولا مدبر إلا هو، يحكم بما يشاء ويفعل ما يريد من غير فائدة تعود إليه، ولا نفع يحصل له، وهو بعد خلق المخلوقات كما كان قبل أن يخلقها لا يفيده شيء غنى ولا عزًّا ولا شرفًا، بل هو الآن على ما عليه كان من أوصاف الجلال، ونعوت الكمال، والاستغناء عن الأكوان.[11]

فغاية ما قلناه هو الحرص أشد الحرص على معرفة هذه الأسباب التي أراد الله تعالى إقامة الكون عليها والعمل بها!

فخلاصة ما أردنا قوله في هذا المقال أن الله تعالى قد أقام الكون على قانون الأسباب، ومن ذلك النصر على الأعداء فإنه يحصل للأقوى والأكثر استمساكًا بأسباب النصر العادية، ونصر الله للمؤمنين محمول على النصر الشرعي الديني بالوقوف في جانب الحق وقوة الحجة وما إلى ذلك، فجميع المؤمنين منتصرون بالحجة، إلا أن منهم من ضم إلى الغلبة بالحجة النصر العسكري، ومنهم من لم يكن كذلك على حسب قانون الأسباب.

والآيات والأحاديث الشريفة إنما تفهم في ضوء هذا بأن الله إذا أراد شيئًا هيأ له أسبابه، ولو كان مجرد الإيمان سببًا للرزق والنصر لما افتقر أو هزم مؤمن مستغفر وهو خلاف الواقع، وأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا.


[1] راجع: هل فسر العلم الكون وبيّن عدم احتياجه للإله؟[2] وإن مراد المتكلم بـ «الإيمان الكامل» غير المتحقق هذا يحتاج إلى تحرير أصلًا![3] وهذا المبحث من جملة مباحث علم أصول الفقه، ففي شرح الإمام جلال الدين المحلي على «جمع الجوامع» للإمام تاج الدين السبكي (1/428-429):
(ثم هو) أي اللفظ (محمول على عرف المخاطب) بكسر الطاء الشارع أو أهل العرف أو اللغة (ففي) خطاب (الشرع) المحمول عليه المعنى (الشرعي لأنه عرفه) أي لأن الشرعي عرف الشرع لأن النبي صلى الله عليه وسلم
بعث لبيان الشرعيات (ثم) إذا لم يكن معنى شرعيًا أو كان وصرف عنه صارف فالمحمول عليه المعنى (العرفي العام) أي الذي يتعارفه جميع الناس بأن يكون متعارفًا زمن الخطاب واستمر لأن الظاهر إرادته لتبادره إلى الأذهان.(ثم) إذا لم يكن لمعنى عرفي عام أو كان وصرف عنه صارف، فالمحمول عليه المعنى (اللغوي) لتعينه حينئذ فحصل من هذا أن ما له مع المعنى الشرعي له معنى عرفي عام أو معنى لغوي أو هما يحمل أولًا على الشرعي وأن ما له معنى عرفي عام ومعنى لغوي يحمل أولًا على العرف العام.

[4] هذا على جعل «ال» للاستغراق، أما حملها على غير الاستغراق فإنه يرفع الخلاف أصلًا.[5] المعترض الذي يقول: الله ينصر المؤمنين على أعدائهم نصرًا دنيويًا عسكريًا… إلخ.[6] راجع: لو كان كل شيء يحصل بالأسباب، فلماذا ندعو الله؟ أما من ظن أن الإيمان، أو الدعاء، أو حسن الظن في الله تعالى، يعني أن الله تعالى سيوفقه وينصره، بمعنى أن المسببات تحصل دون أسبابها، فهذا كما سبق أن قلنا في مقالتي الأسباب والدعاء فيه جهل بنظام الله تعالى وسنته في خلقه، وسوء أدب معه تعالى، وتعدٍ ومعاندة لمراده تعالى ومشيئته، فإن ترك العمل لانتظار الكرامة ليس من حسن الظن في الله، بل من الجهل بمراده الله تعالى منا، وإن العاقل متى رأى أمرًا عجيبًا يحدث، ولم يكن عالمًا بسببه، وكان يمكن أن يكون له سبب خفي، فإنه يجزم بكونه حصل لسبب خفي، لا خرقًا للعادة.[7] يعني من باب تقريب المعنى بمثال، كأن النار التي تحرق الثياب، لو كان شخص قادرًا على إطفائها بالماء ولم يفعل يحترق، ولكنه لو لم يكن قادرًا، أو قد فعل ما في وسعه، فإن الله تعالى يجبر قصوره هذا، لا تقصيره، فتنطفئ النيران.[8] فإن ثبوت الشرع فرع عن صحة النبوة، وإثبات صحة النبوة فرع عن حصول المعجزة، التي هي فرع عن وجود نظام كوني مطرد، يتم خرقه![9] «البداية والنهاية» (9/513)، ط. هجر.[10] وسيأتي التفصيل في هذه القضية في مقال مستقل.[11] «قواعد الأحكام»، العز ابن عبد السلام 2/260 ط. دار القلم.