في مقاطع الفيديو التي تنتشر لقوات الدعم السريع نلاحظ، بجانب العتاد العسكري المعروف، عددًا كبيرًا من سيارات الدفع الرباعي. هي سيارات مدنيّة عادية، لكن من الواضح أنه جرى تعديلها كي تناسب الاستخدام العسكري، وطبيعة عمل قوات الدعم السريع في جغرافية السودان.

الملاحظة لفتت نظر الصحافي الاستقصائي المصري الراحل «محمد أبو الغيط»، وثلاثة آخرين من رفاقه. وبعين الصحافي الثاقبة رأى أبو الغيط أن تلك المشاهد لا بد أن وراءها سرًا أكبر، لهذا بدأ تحقيقًا استقصائيًا حول مصادر تمويل قوات الدعم السريع. ورغم أن التقرير قد اكتمل ونُشر منذ قرابة ثلاثة أعوام، فإن الحقائق التي توصل لها الراحل تعيد فرض نفسها على الساحة بعد الاشتباكات الجارية في السودان بين الجيش النظامي وقوات الدعم السريع.

كشف أبو الغيط عن شبكة مشتريات ضخمة لأغراض مدنية وعسكرية لصالح قوات الدعم. ذكر في تقريره أن قيمتها وصلت إلى 40 مليون دولار أمريكي. تلك المشتريات تركزت في النصف الأول من عام 2019. وشملت 1046 سيارة. حصل أبو الغيط على هذا الرقم المحدد من بنود كشف محاسبي مسّرب يخص قوات الدعم السريع.

 الكشوفات المسربة كشفت أيضًا عن دور بارز للقوني حمدان، شقيق حميدتي، قائد قوات الدعم السريع الحالي، في إدارة الشركات التي تمثل واجهة لقوات الدعم. فقد ظهر في أحد الكشوفات بيان أنه تسّلم شخصيًا 33 ألف دولار أمريكي، مع التوضيح أن التحويل كان لشركة جي إس كيه، وهى شركة معلوماتية في السودان. ويحمل القوني رتبة رائد في قوات الدعم، ويعتبر المسئول الأوحد عن عمليات الشراء الخاصة بالقوات.

الشركات تؤكد عمليات البيع

اللافت في الكشوفات أنها كانت تعتمد على الدرهم الإماراتي في التسعير. فقد أوضحت الكشوفات التي اطلع عليها أبو الغيط عن 69 عملية شراء للسيارات، بقيمة 111 مليون درهم إماراتي، ما يعادل 30 مليون دولار أمريكي. تلك العمليات انقسمت على 12 شركة سيارات محلية، منها مدينة السيارات، ونوبل إنترناشيونال، والكرامة موتورز، وغسان عبود للسيارات.

عاد أبو الغيط لمواقع الشركات التي ذكرتها الكشوفات، ووجد أن إعلاناتها وسياراتها التي تملكها، متطابقة مع السيارات التي توجد في السودان. مثلًا في أحد البنود ذِكر لشراء 50 شاحنة بيك أب تويوتا لاند كروزر لونها بيج، من شركة الكرامة موتورز. بالعودة لموقع الشركة وجد نفس الأوصاف مطابقة للسيارات التي تبيعها الشركة. وعندما طلب تعليقًا من الشركة لم تنف عملية البيع، لكنها أكدت أنها باعتها لعملاء مدنيين طبيعيين.

الرجل تواصل مع 10 من بائعي السيارات الوارد أسماؤهم في الكشوفات المحاسبية. جميعهم أكدوا عمليات البيع، لكن أكدّوا أيضًا بيعها لمدنيين، دون أن يكون لهم علاقة أو معرفة بوصول السيارات إلى السودان لاحقًا. بعض تلك الشركات أوضح للراحل مواصفات وعدد السيارات التي باعوها، وتتطابقت مع الكشوفات التي امتلكها، ما يؤكد صحة تلك الكشوفات.

في بدايات 2019 ظهر مقطع فيديو يؤكد تحقيقات أبو الغيط. فقد ظهر فيه العشرات من سيارات تويوتا قبل شحنها من الإمارات إلى السودان. مصور الفيديو قال بعفوية أن

شركة الشحن أخبرته أنها لصالح قوات الدعم السريع. وتظهر على السيارات بطاقة التقييس الخليجية، التي تُوضح كفاءة استهلاك الوقود للسيارات، وجعلتها الإمارات إلزامية منذ عام 2017. وبمراجعة حسابات التواصل الاجتماعي لأعضاء وقوات الدعم السريع تظهر فيها السيارات حاملةً لنفس العلامة.

من أين تأتي الأموال؟

عمليات شحن السيارات توزعت على ما يقارب 18 عملية شحن. كلّف الشحن منفردًا قرابة مليوني درهم إماراتي. أحد بنود الشحن يوضح شحن 75 سيارة على متن عبّارة الكرامة في 23 مارس/ آذار 2019. وفوق لاصقة كفاءة الطاقة تظهر لاصقة أخرى مكتوب عليها مركز خدمات البحر الأحمر. وهي شركة شحن مقرها المملكة العربية السعودية، وهي الشركة التي تستخدم عبارة الكرامة لشحن منتجاتها.

أبو الغيط كشف أيضًا عن صول 5 سيارات فارهة من طراز تويوتا لاند كروزر، قيمة الواحدة 76 ألف دولار. وصلت السيارات إلى السودان أبريل/ نيسان 2019، ثم ظهر الفريق حميدتي في سبتمبر/ أيلول 2019 وهو يخرج من نفس السيارة.

بجانب السيارات كشفت الوثائق عن شراء المئات من أجهزة اللاسلكي المتقدمة، بقيمة إجمالية بلغت 330 ألف درهم. وتظهر تلك الأجهزة في أيدي قوات الدعم السريع في صورهم التي ينشرونها على مواقع التواصل الاجتماعي. شركة إيكو وهينوم، المصّنعة لأجهزة اللاسلكي، ردّت على التحقيق بنفيها التام لعلمها باستخدام أجهزة اللاسلكي من قبل الدعم السريع، مؤكدة أنها باعت الأجهزة لأشخاص مدنيين.

السؤال الأبرز الذي يعيد أبو الغيط طرحه هو ما مصدر هذه الأموال؟ الكشوفات التي حصل عليها تقول إن التحويلات الإجمالية التي تلقاها الدعم السريع كانت عبارة عن 8 تحويلات. كل التحويلات كُتب أمامها أنها تحويل من الدعم الفني، دون تحديد المُرسل. هو ما يلف الغموض حول مصدر تلك التحويلات. لكن بصفة عامة فإن القانون السوداني لا يمنع أن يكون للقوات المسلحة، أو للدعم السريع، نشاط اقتصادي خاص بها تستجلب بها التمويل.

أخو حميدتي: رجل الظل

التمويل يبدو مسئولية القوني، شقيق حميدتي. فشركة جي إس كي التي يتم تحويل الأموال إليها، والتي يرأس القوني مجلسها التنفيذي، تبدو متصلة بشركة أخرى تحمل نفس الاسم للإنشاءات العقارية. الشركة العقارية مسئولة عن تنفيذ للمدارس داخل السودان، ويعود ربح عمليات الإنشاءات لصالح الدعم السريع.

إذًا هناك شركتان تستخدمان نفس خادم الإنترنت، جي إس كي لنظم المعلومات، ونفس الشركة للإنشاءات. تحقيقات أبو الغيط كشفت عن نطاق آخر يقع على نفس الخادم جي إس كي تراديف. هو ما يشير إلى شركة تراديف التجارية. وهي شركة أوضح عديد من الشركات التي باعت سيارات أو أجهزة ظهرت في يد الدعم السريع لاحقًا، أنها تلقت أموالها عبر شركة تراديف للتجارة العامة.

حصل أبو الغيط ورفاقه على فواتير وشيكات تؤكد سداد شركة تراديف لأكثر من 20 مليون درهم في مقابل مئات السيارات. وأن سداد ثمنها جرى عبر حساب الشركة في بنك النيلين فرع أبوظبي. وثائق تسجيل الشركة في دائرة التنمية الاقتصادية في دبي، تقول إن القوني دقلو هو المدير الوحيد لشركة تراديف.

وإن ملكية الشركة تنقسم إلى 49% لصالحه، و51% لشريك إماراتي. لكن لا يثبت ذلك علاقة الإمارات بالأمر، فالقانون الإماراتي يُلزم الأجانب الذين يؤسسون شركاتهم بالإمارات أن يكون لديهم كفيل إماراتي يملك 51% من الشركة، دون أن يكون للكفيل الإماراتي حق مباشر في الإدارة أو التدخل في شئون الشركة.

طلقات أبو الغيط التحذيرية

كذلك تحوي الوثائق على قرابة 30 بندًا تحت فئة خاص، بلغت إجمالها 4.3 مليون درهم. تلك البنود شملت تحويلات شخصية نقدية. كما شملت مبالغ تسلمها القوني بنفسه مباشرة. بعض تلك البنود لم يُحدد سببه، والبعض الآخر كُتب في مقابله أن الغرض هو شراء لاب توب لأفراد الدعم السريع لحضورهم دورة تدريبية في أبوظبي.

في تلك الكشوفات توجد أسماء مختلفة، لكن الرابط المشترك أن جميعهم تربطهم علاقة بالقوني. منهم من كان رفيق دراسته في ماليزيا، ومنهم من وجده أبو الغيط في صور زفاف القوني. مثلًا في يونيو/ حزيران عام 2019 تسلّم محمد هاشم كوكو 20 ألف دولار لصالح القوني.

محمد هاشم ظهر مرة أخرى في نسخة محذوفة، ومؤرشفة، من موقع جي إس كيه، باعتباره المدير التنفيذي بجانب القوني. وبعض الشركات التي باعت السيارات قالت إنه من أرسل طلب الشراء شخص يُدعى محمد هاشم. كما توجد في الكشوفات تحويلات باسم شخص يُدعى خبّاب. مقابل تلك التحويلات وجد الراحل بيان برحلات للصين وألمانيا. بالتقصي وراء الاسم وُجد أنه خباب ميرغني أبو عوف، ظهر مع القوني في رحلة إلى الهند عام 2017.

كذلك اسم صدّاح حسان، هو اسم تكرر في الكشوفات مهمته دفع أموال لآخرين، وشراء هواتف، وقطع غيار سيارات. كذلك تكرر اسم بلال، قام بتحويل 396 ألف درهم إماراتي لروسيا. في مقابل أن تٌرسل الفاتورة لـ ود الجاك. ليتضح أن المقصود هو محمد عبدالله الجاك، صديق القوني. اسم بلال تسلّم لاحقًا مبلغ 258 ألف درهم لشراء أحذية عبر شركة شام جروب. كذلك قامت الشركة بشحن حلويات للسودان بقيمة 11 ألف درهم. الشركة أكدت قيامها بعمليات الشحن تلك للسودان، لكنها نفت معرفتها باستخدامات الأشياء بعد شحنها.

كان هدف أبو الغيط ورفاقه في هذا التحقيق الاستقصائي هو ضمان الانتقال السلمي للسلطة في السودان، دون الإنجرار إلى ما آلت إليه الأمور اليوم. فكان هدفهم هو لفت الأنظار إلى ضرورة الإشراف المدني على الإنفاق العسكري. ومنح الشعب السوداني السيطرة الأكبر على موارده التي تملكها قوات الدعم السريع حاليًا.

لهذا تبدو الملاحظة الختامة للراحل شديدة الاستبصار بما نراه اليوم:

حميدتي يجلس على قمة مجمع صناعي شبه عسكري. يسيطر على قوة عسكرية كبيرة قوية ومصدر مستقل للثروة. ما لم يتم إقصاؤه من هذا المنصب المزدوج ، ووضع جميع القوات العسكرية تحت السيطرة الإستراتيجية والمالية المدنية ، فإنه يشكل عقبة أمام الانتقال إلى حكومة مدنية وديمقراطية يتوق إليها الكثيرون في السودان.
محمد أبو الغيط -2019