يُحكى أنه، وفي بداية عمل الإذاعة المصرية، حدثت إحدى النوادر التي تحمل من الطرافة ما تحمله من الجرم والدهاء. في كتابه «تراث مصري»، سرد الكاتب «أيمن عثمان» واقعة حدثت في عشرينيات القرن الماضي،حينما ذهبت إحدى السيدات إلى مقر الإذاعة حديثة العهد، وقامت بدفع ما قيمته 50 جنيهًا مصريًا كرسم للاشتراك في الإذاعة، بالرغم من أن قيمة الاشتراك وقتها كانت نصف ريال فقط؛ أي ما يعادل 500 مثل الاشتراك الطبيعي!

آنذاك، كانت تسمح الإذاعة ببث أي أغنية يطلبها المشتركون بشرط أن يرسلوا خطابًا به رقم العضوية والأغنية المطلوبة، فقامت تلك السيدة برفع كل هذه القيمة بجانب إعطائهم أسطوانتين لأغنيتي: «الجو رايق» للمطرب «محمد عبد الوهاب»، و«في الجو غيم» لـ«صالح عبد الحي»، طالبة أمرًا واحدًا فقط: هو أن يتم بث أغنيتها المفضلة من بينهما وقتما تحتاج، ولكن عن طريق الهاتف وليس البريد، وبالفعل وافقت الإدارة.

استمر ذلك الحال لفترة إلى أن تفاجأت إدارة الإذاعة بمحاوطة الشرطة لمقرها، وإلقاء القبض على المؤسس والعاملين وطلب حضور كلا المطربين للتحقيق، ذلك بعد أن اكتشفوا أن هذه السيدة تعمل لصالح عصابة لتهريب المخدرات، وأن هاتين الأغنيتين إحدى خططهم لتعقب أثر الشرطة، فإذا كان صوت عبد الوهاب يسطع في الإذاعة والـ«الجو رايق»، إذن الوقت مناسب للتهريب، والعكس حينما يصبح «في الجو غيم».

لا شك أن هذه الخطة وقتها كانت مبتكرة، وأخذت فترة من المسئولين من أجل إحباطها، لكننا سنتعجب هذه الأيام إن وجدناها تتكرر، فمن يحتاج لكل هذا العبث في عالم مليء بالرسائل النصية السريعة ومكالمات الهواتف المحمولة والإنترنت؟ أليس لكل وقتٍ أذان؟

الأمر ذاته شعرت به جماهير كرة القدم حين سمعت عن جاسوس «مارسيلو بيلسا» لدى ديربي كاونتي. فما الذي يدفعه لتلك الطريقة البدائية في دنيا التطور؟


يا لامبارد كلنا «جواسيس»

في يناير/كانون الثاني من عام 2019، أخذت مباراة جمعت فريق ديربي كاونتي الإنجليزي ضد ليدز يونايتد ضمن منافسات الدرجة الأولى الإنجليزية أصداء كبيرة ربما تتخطى أهمية لقاءات أخرى في الدرجة الممتازة أو في الدرجات الأولى من بلدان أخرى. لم يكن ذلك لقوة الفريقين أو للمنافسة بينهما، ولا حتى لقيمة مدرب ليدز -بيلسا- الذي يعده الكثيرون أحد أكبر المبدعين في اللعبة وأستاذًا لعديد مدربيها، بل لما قام به الأخير من عملية تجسس على تدريبات خصومه.

أثناء إعداد ديربي كاونتي ومدربهم «فرانك لامبارد» لتلك المباراة،تفاجأوا بمالك أحد البيوت المجاورة لمقر تدريباتهم ممسكًا بشخصٍ غريب الأطوار تواجد بالقرب من الملعب. وقبل تسليمه للشرطة، تلقى مدرب الفريق اتصالًا هاتفيًا من نظيره الأرجنتيني ليعترف له أن ذلك الشخص إنما هو جاسوس قد أرسله لمراقبة تدريباتهم.

بعد السخط الذي تملك لامباراد، قرر إطلاق سراح ذلك الجاسوس ليعلن في مؤتمرٍ صحفي تقديمه لشكوى لدى الاتحاد الإنجليزي، واصفًا ما قاموا به بـ«أفعال غير رياضية» وضد مبدأ اللعب النظيف، أو على الأقل فهو غير موجود في كرة القدم الحديثة وفي ظل هذا التطور.

قبل سنوات عدة، كان ذلك الأمر هو الوحيد المتاح من أجل معرفة خطط الخصوم، يحدث ذلك طالما كان هناك صعوبة لإيجاد مقاطع فيديو يمكن مشاهدتها وإعادة تشغيلها مرات من أجل الوقوف على طريقة لعب الخصم أو أحد الجمل المتفق عليها، البث التليفزيوني لم يكن بنفس الجودة أصلًا.

لكن حتى مع التطور وقبل سنوات ليست بالبعيدة، فإن لامبارد نفسه كان أحد المشاركين في ذلك الأمر بشكلٍ غير مباشر من قبل، عن طريق مدربه في تشيلسي «جوزيه مورينيو» ومساعده «أندريه فيلاش بواش». اعترف الأخير أنه كان يتخفى كثيرًا ليحضر تدريبات الخصوم ويقدم بها تقارير لمدربه البرتغالي.

وبالرغم من نفي فرانك معرفته بذلك حينها، فهو غير معفي من المشاركة فيه أو على الأقل لا ينفي أهميته بالنسبة للمدربين. لكن يمكن التحرك مع النصف الآخر من نقده وهو تناقض ذلك مع التقدم التكنولوجي. لكن دعنا نضع أمامك المفاجأة: فتلك العادة لم تتوقف أبدًا كما لو كانت جينًا وراثيًا يتواجد في كل المدربين تقريبًا.


عرف سائد أم أسلوب بائد؟

تُعد أشهر واقعة للتجسس في العقود الأخيرة حينما أرسل ريال مدريد مستكشفيه لتدريبات ميلان ومدربهم «أريجو ساكي»، على هامش مواجهة ضد ميلان في دوري أبطال أوروبا، انتظر الجميع ملاحظاته المهمة عن طرق لعبهم، لكنه عاد بخبر مُريب: المدرب الإيطالي لا يتدرب بالكرة.

أجبر ساكي لاعبيه على لعب كرة الظل: تدريبات كاملة في لعبة كرة القدم بدون كرة قدم. يخبرهم فقط بمكان الكرة الذي يطرأ في عقله وعلى أساسه تتحرك كتلة اللاعبين للتمركز في الموضع الأنسب لمكان الكرة الحالي. تلك الخدعة كانت كافية لإلهاء جاسوس ريال مدريد وساعدت في إنهاء المباراة بنتيجة كارثية، 5 أهداف مقابل لا شيء.

الإيطالي كان يعرف باحتمال وجود جاسوس، لذا حاول إلهاءه، بالضبط مثلما فعل مدرب كوريا الجنوبية قبل كأس العالم 2018 بروسيا، الذي جعل لاعبيه يرتدون قمصانًا بأرقام مختلفة ومختلطة ليقوم بإلهاء الجاسوس المرسل من قبل المنتخب السويدي لمتابعة تدريباتهم قبل البطولة. استغل في ذلك صعوبة التفرقة بين أشكال الآسيويين بالنسبة لأي غريب، وبالفعل نجحت الخطة.

الفارق بين الواقعتين في السنوات يؤكد أن تلك العادة ليست بالية بالمرة، بل أنها ما زالت تؤتي ثمارها حتى اللحظة، وأنها لا تخص فقط الفرق الصغيرة أو أن من يقوم بها لا يتمتع بالموهبة الكافية -كمدرب، لأن «بيب جوارديولا»اعترف بأنه قام بالتجسس على خصومه أثناء تواجده في إسبانيا وألمانيا، وهو يملك من الموهبة التدريبية ما لا ينكره أحد.

لكن يظل السؤال قائمًا: ما الذي يدفعهم لذلك طالما دخلت كل تلك الحداثة على العالم الكروي؟


ما لا تراه العين المجردة

بالرغم من التيقن بأن واقعة بيلسا ليست الأولى من نوعها، لكنها فجرت موجة كبيرة من النقاش حولة ضرورة التجسس في الوقت الحالي. تلك التصرفات يمكن أن تكون جائزة في الأمريكتين وبالأخص في الأرجنتين، لكن من الصعب تواجدها في إنجلترا بشكلٍ محدد. يتفق جوارديولا مع ذلك لسببين؛ الأول أنه بقوة مانشستر سيتي لا يحتاج لذلك، ثانيًا لأن الأمور في إنجلترا سرية أكثر من غيرها.

نعود بالزمن إلى بداية الألفية تقريبًا، كان هناك فتى كولومبي قد جاء للتقرب من إحدى العائلات التي تسكن بالقرب من «ميلوود» مقر تدريبات ليفربول، وعرض عليه أن يقوم باستئجار طاولة في حديقة منزلهم ليمكن من خلالها مراقبة تدريبات ليفربول. بعد ذلك بعدة سنوات، تحول ذلك الفتى إلى اسم هو الأهم في عالم التدريب في بلاده وأحد أشهر الأسماء في أمريكا الجنوبية: «خوان كارلوس أوسوريو».

هل يمكن أن تتوقع أن يصل إلى نفس النتيجة إن كان قد أقام ليالي طوالاً يشاهد فيها مباريات الفريق فقط؟ بالطبع لا.

متابعة تدريبات أي فريق تتيح لك فرصة معرفة التشكيل على الأقل، هو في المطلق لا يتغير بين حينٍ وحين آخر قريب، لكن ربما في المواعيد الكبرى يكون هناك بعض التعديلات التي تُحدث الفارق، لن يظهر ذلك إلا في التدريبات.

كذلك يتيح للمدربين فرصة للتعرف على تكتيك الكرات الثابتة مثلًا، مارسيلو بيلسا قال إنه تابع وحلل لقاءات كل الفرق التي لعب ضدها في خلال موسم 2018/2019، ويحفظ عن ظهر قلب كل تكتيكات الكرات الثابتة التي نفذوها، ومع ذلك يعاني منها حتى اللحظة، ما يؤكد أن المباريات وحدها لا تقدم نفس القيمة التي تظهر بالتدريبات.

أضف إلى ذلك أنه يجعلك تتوصل إلى الخبايا التي يعرفها الخصم عنك، فمثلًا إن كنت تعاني من مشاكل بعمق الدفاع، ووجدتهم يتدربون على الكرات الطولية في قلب الملعب، يعني ذلك أنك وقعت في الفخ، والعكس صحيح.


التدريب أم التجسس؟ أيهما أهم؟

أرجع الجميع رصيد فوز ليدز يونايتد على ديربي كاونتي إلى عملية التجسس، ما جعله فوزًا مُشينًا في نظرهم وبالطبع في نظر المدرب «فرانكي» من قبلهم، لكن المفاجأة كانت في أن شهدت المباراة التالية مباشرة خسارة ليدز أمام ستوك سيتي.

وجّه الكثير وقتها اللوم على المدير الفني الأرجنيتني، وعلى سبيل الدعابة، أكدوا أن الفوز جاء لأنهم نجحوا في الحفاظ على سرية خططهم منه في ظل إجراء تحقيقات من الرابطة الإنجليزية في واقعة ديربي كاونتي، كما لو كان التجسس فقط هو سلاح بيلسا الوحيد.

أعادت تلك الإدانة ذهن مارسيلو إلى سنواته في إسبانيا، حينما كان يتولى قيادة فريق أتلتيك بلباو، وبالتحديد عقب مواجهة برشلونة بنهائي كأس الملك والتي انتهت بفوز الأخير بقيادة مدربه «بيب جوارديولا» بثلاثة أهداف نظيفة، عقب المباراة أرسل بيلسا ملفًا كاملًا عن الفريق الكتالوني، عن كل شيء يقومون به في كل تفاصيل اللقاءات، ليفاجأ برد الإسباني: «أنت تعرف عن برشلونة أكثر مما أعرف»، ليؤكد وقتها مدرب أتلتيك بلباو آنذاك، أن كل تلك المعلومات بلا قيمة ما دامت لم تساعده في الفوز.