بنداء الحرب الشهير في الأوساط اليمينية، والذي كان يجمع حول الملك قبل إعلان الحرب، «Mont-joie Saint-Denis»، صرخ الشاب داميان تاريل البالغ 28 سنة، والذي تحول بين عشية وضحاها إلى حديث العالم بعد أن أقدم على صفع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون خلال جولة هذا الأخير بإقليم “دروم” جنوب شرقي البلاد للقاء رعاياه.

لم يمر الحدث مرور الكرام رغم اعتقال الشاب المعتدي سريعًا، بدأت بعدها التخمينات تظهر حول السبب الذي دفع داميان لصفع ماكرون، ليتضح بعد ذلك أن الأخير ينتمي لتنظيم «الحركة الفرنسية» اليميني المتطرف، فما هو هذا التنظيم؟ وما هي أبرز النقاط التي تميزه عن باقي التنظيمات اليمينية الفرنسية الأخرى؟

من الملكية إلى اليمينية

رغم مسارعة رفاقه وعائلته إلى نفي أي إنتماء سياسي له، إلا أن الجملة التي نطقها الشاب الفرنسي داميان تاريل تؤكد انتماءه لتنظيم الحركة الفرنسية القومي الملكي، المحققون وجدوا أن الشاب المعتدي على ماكرون يتابع العديد من المؤثرين اليمينيين المعروفين بمواقفهم المتطرفة على منصات التواصل الاجتماعي، كما أنه معجب إلى حد كبير بالفروسية الفرنسية خلال فترة تألقها بالعصور الوسطى.

تأسس تنظيم «الحركة الفرنسية» سنة 1989 عن طريق الكاتب والصحفي الفرنسي شارل موراس. وبعد 10 سنوات على تأسيسها، إنشاء جريدة يومية ناطقة باسم الحركة استمرت في التوزيع حتى سنة 1944 أي قبيل سنة واحدة من نهاية الحرب العالمية الثانية.

تتبنى الحركة الفرنسية مبدأ الدفاع عن الملكية الفرنسية، ليس من باب تراثي فحسب، بل بمنظور واقعي على اعتبار أن الملكية هي النظام الأنسب للأمة الفرنسية الحقيقة التي تتكون من الفرنسيين البيض فقط حسب مناضلي التنظيم. بالإضافة إلى ذلك، فهي تعادي الثورة الفرنسية التي تتبنى الفكر العلماني اليعقوبي المعادي للدين، إذ يعرف التنظيم نفسه على أنه تنظيم كاثوليكي رغم أن مؤسسه كان يقدم نفسه على أنه «لا أدري».

ورغم أهمية الدين في التكوين الثقافي، بل والعرقي، للحركة الفرنسية، إلا أنها تمارس نوعًا من العلمانية إذ تجعل السياسة فوق الدين وفوق الأخلاق، فالوصول للحكم هو الهدف الأسمى سواء كان ذلك قانونيًا أو غير قانوني، شرط أن تكون الطريقة تستجيب لرؤية التنظيم المبنية على الإخلاص للقضية.

وكباقي التنظيمات اليمينية الأخرى، تُعتبر الحركة الفرنسية «معادية للسامية» منذ تأسيسها، إذ دعمت خلال الحرب العالمية الثانية نظام فيشي بزعامة الجنرال بيتان الذي كان يعمل تحت الإمارة النازية وسلّم عددًا كبيرًا من اليهود للنازيين قصد إعدامهم، كان موراس مؤسس التنظيم يرى في هذا العمل انتقامًا عادلًا بسبب إفساد اليهود لفرنسا قبل وبعد الثورة.

ماكرون الذي صفع نفسه بنفسه

كالأفلام التي يظهر فيه البشر وهم يصنعون آلة خارقة أو يتلاعبون في التكوين الجيني لهذا الحيوان المفترس أو ذلك، ثم يصبحون في النهاية هم أنفسهم ضحايا الوحوش التي صنعوها على أعينهم، صنع ماكرون اليمين الجديد، وتبنى خطابه بل وأسسه بقوانين جارية تبناها البرلمان الفرنسي في إطار ما سماه الرئيس الفرنسي “محاربة الانعزالية” محيطًا نفسه برموز هذا الخطاب الفاشي الجديد.

يوم 25 مارس/آذار 2021، هاجم تنظيم «الحركة الفرنسية» المجلس الجهوي لإقليم أوكسيتاني جنوب فرنسا، ووسط التنديد والشجب، خرج جيرارد دارمانان، وزير الداخلية الفرنسي في حكومة ماكرون، للحديث عن هذا التنظيم مدافعًا عنه رغم العمل المرفوض الذي قام به.

قال دارمنان حينها في لقاء تلفزي إن الجميع يعلم أن «الحركة الفرنسية» ترفض الجمهورية وتبني أفكارها على عودة الملكية، مستدركًا: «لكن هذا الأمر لا يعني استبعادهم، الديمقراطية الفرنسية بالجمهورية تستوعب جميع الأفكار، حتى وإن كانت رافضة لمبدأ الجمهورية نفسه»، وهو ما يتناقض مع تصريحات الوزير ذاته الذي اعتبر أن الدفاع عن البلاد ضد الخطر الإسلامي يستمد شرعيته من كون «الإسلام» يشكل تهديدًا على مبادئ الجمهورية (لا الجمهورية نفسها كما في حالة الحركة الفرنسية).

التنظيم خرج عبر تويتر بعدها للإشارة إلى أن السنوات التي قضاها دارمنان في صفوفه تركت لديه بعض الذكريات، ثم ختم التغريدة بالقول: «أبوابنا مفتوحة للسيد الوزير إذا ما أراد تجديد عضويته لدينا».

هذا السباق السريع نحو الخطاب اليميني أعطى فرصة كبيرة لهذا التيار بأن ينتشر في فرنسا وفي أوروبا، انتشارًا قد يفشل ماكرون نفسه في تحجيمه بسبب تبنيه هو نفسه لعدد من هذه الأفكار أمام الشعب الفرنسي طمعًا في توسيع قاعدته الانتخابية على حساب «الجبهة الوطنية»، الحزب الناطق باسم اليمين المتطرف في البلاد.

«بعض» الجيش والشعب: يد واحدة

بعيدًا عن المهاجرين بصفة عامة، والعرب والمسلمين بصفة أخص بالتهديدات التي تشكلها أطروحات اليمين، فإن المؤسسات الفرنسية ذاتها أصبحت على مرمى نيران هذا التيران الذي تغلغل بشكل كبير داخل مؤسسات كالشرطة والجيش.

في عددها ليوم 28 أبريل/نيسان الماضي، نشرت مجلة «القيم الحالية» (Valeurs Actuelles) عريضة وقع عليها أكثر من 20 جنرالًا متعاقدًا وأكثر من 1000 جندي فرنسي مطالبة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بوضع حد للتجريف الثقافي والاجتماعي والديني الذي تعرفه فرنسا بواسطة المهاجرين عبر انتشار ظواهر اجتماعية غير مقبولة كالأكل الحلال وارتداء النساء المسلمات للحجاب.

ورغم أن الأمر يعتبر شبه تحريض على إشعال الحرب بشكل أكبر على الجالية الإسلامية، فإن وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس باتي اكتفت بالتنديد بهذا الأمر على اعتبار أنه تدخل غير مقبول للجيش في الحياة السياسية، وهو إنذار خطير جدًا خصوصًا في بلد في فرنسا عمدت الحكومات المتعاقبة على ترويضه داخل الثكنات.

هذه الحادثة لم تكن الوحيدة داخل المؤسسات الرسمية، بل سبقها العديد من التقارير والتحقيقات والتسريبات من داخل جهاز الشرطة لمجموعة أفراد من الجهاز يؤكدون استعدادهم الكامل لحمل السلاح وتدشين حرب أهلية تبدأ بإبادة اليساريين ولا تنتهي بالإجهاز على العرب والمسلمين واليهود على حد سواء.