د.عبدالفتاح ماضي

رفع الإدارة الأمريكية الحظر عن إمدادات السلاح لمصر والذي كان معمولا به منذ أكتوبر ٢٠١٣ ليس أمرا جديدا، فالثابت في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه مصر وكل دول المنطقة هو عرقلة وصول الديمقراطية إلى المنطقة ودعم الحكومات القائمة منذ الاستقلال وحتى يومنا هذا. وكان الحظر هو الاستثناء نظرا لأوضاع قانونية داخلية.

ولهذا ومع استمرار ضغوط الكثير من الجمهوريين واللوبي الصهيوني لاستئناف المساعدات الأمريكية لمصر ومع ظهور خطر داعش وقيام مصر بدور محوري فيما يسمى الحرب على الإرهاب، كان من الطبيعي أن ترفع واشنطن الحظر وتتجه نحو تعزيز العلاقات مع حلفائها التقليديين من الحكام العرب والعودة إلى سياساتها التقليدية التي تضحي بالديمقراطية وحقوق الإنسان مقابل الأمن ومحاربة الإرهاب من وجهة نظرها.

في السابق كانت الإدارات الأمريكية تتعامل مع نظام مبارك التسلطي فيما يتصل بالعلاقات السياسية والعسكرية وكانت هناك علاقات استراتيجية بين الجيشين المصري والأمريكي. وحسب تقارير عديدة نشرت في هذا الصدد ظلت الحكومة المصرية ترفض تغيير عقيدة الجيش التي كانت تدور حول مواجهات تقليدية مع عدو خارجي هو إسرائيل، أما اليوم فالإدارة الحالية تتعامل مع الجيش مباشرة فيما يتصل بالعلاقات السياسية والعسكرية معا وفي ظل عدم وجود مؤسسات مدنية منتخبة وحياة سياسية سليمة.

والجديد هذه المرة هو ما أعلنه البيت الأبيض عن عزم الولايات المتحدة وقف السماح لمصر بشراء الأسلحة بالائتمان اعتبارا من العام المالي 2018 ونيتها ”إعادة هيكلة العلاقات العسكرية بما يحقق المصالح المشتركة” على أساس اقتصار أهداف الأسلحة الأمريكية للجيش المصري على دعم قدراته في أربعة مجالات أساسية، هي “مكافحة الإرهاب، وأمن الحدود، وأمن سيناء، والأمن البحري” بالإضافة إلى “صيانة الأنظمة العسكرية الموجودة بالترسانة المصرية”.

يبدو التغيير الذي تحدث عنه البيت الأبيض تغييرا جوهريا، فهو يتصل بأمور جوهرية هي عقيدة الجيش ومهامه ونظم تسليحه وتمويله. ولهذا من الأهمية التذكير بثلاثة أمور على الأقل والتي تعد من أبجديات الأمن القومي ودور الجيوش في الدول المعاصرة، وهي بالطبع تهم مصر السياسية ومصر العسكرية، أي تهم السياسيين وقادة الجيش على حد سواء.

الأمر الأول: من بديهيات الشؤون السياسة والعسكرية أن مسألة تحديد عقيدة الجيش ومهامه ونظام تسليحه وتمويله هي مسألة داخلية لكل دولة، ولابد أن توضع في ظل رؤية وطنية محددة، وفي ضوء أولويات وطنية عليا، وفي معزل تماما عن أي تدخل خارجي. وهذه المسألة تتم في الدول القوية المعاصرة علي يد خبراء مدنيين وعسكريين وطبقا لدراسات وبحوث علمية تحدد حجم المخاطر والتهديدات من جهة والقدرات والإمكانات من جهة أخرى.

وفي حالتنا المصرية لا يمكن تجاهل أمرين، هما أن مصدر التهديد الأول لأمننا القومي هو الدولة الصهيونية وممارساتها العنصرية والتوسعية واعتداءاتها المتكررة، والثاني أن الأمن القومي المصري هو جزء لا يتجزأ من الأمن القومي العربي. التاريخ والجغرافيا وحقائق السياسة المعاصرة على الأرض تؤكد هاتين الحقيقتين.

الأمر الثاني: إن تغيير عقيدة الجيوش وسط صراعات سياسية داخلية يكون الجيش طرفا سياسيا فيها أمر في غاية الخطورة، فالأصل في المؤسسة العسكرية أنها مؤسسة من مؤسسات الدولة غير السياسية التي لا تنحاز إلى فصيل سياسي دون آخر. ولهذا فقد ينظر إلى تدخل أمريكا لإعادة هيكلة علاقاتها العسكرية مع مصر لتوجيه عقيدة الجيش ونظام تسليحه في اتجاه قضايا تحددها أمريكا في المقام الأول على أنه اختراق لجوهر الأمن القومي المصري وتدخل سافر في الشأن الداخلي.

وتعرف الولايات المتحدة جيدا أن تدخل الجيوش في السياسة أمر له نتائج سلبية كثيرة، كما تعرف أيضا أن تغيير مهام الجيوش في ضوء الخلافات السياسية الداخلية أمر مدمر. والدرس الذي يجب تعلمه هنا هو أن تدخل الجيوش مباشرة في السياسة أمر مؤقت ويمكن معالجته على مدى زمني ممتد متى ظهر قادة مدنيون وعسكريون على قدر من المسؤولية والحس الوطني، أما تغيير عقيدة الجيش وترسيخ دوره كلاعب سياسي ضد لاعبين آخرين فخطر على بقاء ووحدة الجيش ذاته، وهذا خطر من غير الممكن معالجته.

الأمر الثالث: من المعروف لأي قارئ لدور الجيوش في الدول الحديثة أن عقيدة الجيوش وتحديد مهامها ونظم تسليحها وتمويلها من الأعمدة الأساسية لقوة تلك الجيوش. وبشكل عام فالجيوش المحترفة القوية وصلت إلى ما هي فيه الآن من خلال ثلاثة أمور على الأقل:

1- تحديد عقيدتها الاستراتيجية ومهامها في مواجهة عدو خارجي محدد، وليس تهديدات داخلية.

2- قيام صناعة عسكرية تتجه للتصدير للخارج ضمن ما يطلق عليه المجمع العسكري الصناعي الذي تتعدد فيه المصانع الحربية والشركات المنتجة للسلاح والذخيرة، وليس الاعتماد علي الخارج في التسليح والتدريب.

3- ابتعاد الجيوش عن إدارة الشأن السياسي الداخلي ورفع ميزانياتها وتركيزها علي مهامها العسكرية بهدف تعزيز جاهزيتها وتطوير أنظمتها العسكرية الداخلية.

في إسبانيا على سبيل المثال، وعلى الرغم من أنها واجهت ما كانت تراه مشكلة “إرهاب” في الباسك إلا أن عملية معالجة العلاقات المدنية العسكرية هناك حافظت على الشروط الثلاثة السابق ذكرها، كما ساعدت أوروبا الغربية، عبر ما عرف بمعايير الانضمام للناتو كمقدمة للانضمام للاتحاد الأوروبي، في هذا الأمر، ولم تكن عقيدة الجيش هناك محاربة الإرهاب الداخلي مثلا. وإسبانيا اليوم وبعد انتقالها للديمقراطية بداية الثمانينيّات صارت سابع أكبر مصدر للسلاح في العالم عام ٢٠١٣ حسب المؤسسة السويدية سيبيري.

وفي البرازيل وبعد أن ظل جيشها لأكثر من عقدين من الزمان منخرطا في السياسة ويحارب عدوا داخليا، كان لوجود قادة عسكريين يفهمون أهمية وضرورة انسحاب الجيش من السياسية حفاظا عليه – بجانب نمو الصناعات العسكرية – دورا محوريا في إعادة تشكيل دور الجيش لمواجهة العدو الخارجي والخروج من السياسة، ما أدى في النهاية إلى تفرغ الجيش لمهامه الأساسية ورفع جاهزيته ونظم تسليحه وتدريبه. والبرازيل هي الأخرى من كبار الدول المصدرة للسلاح في العالم.

من الأمور المدمرة في فهم وممارسة الشأن العام – في جميع مجالاته السياسية والعسكرية والاقتصادية وغيرها – تقزيم الذات والتقوقع حول تصورات مجتزئة والاستسلام لرؤى الآخرين، وعدم الاعتماد على العلم والخبراء، وعدم استيعاب الدروس والعبر التي تقدمها لنا الحالات الأخرى المعاصرة.