التضخم عكس الاستقرار، كلما تضخمت العملة قلت القوة الشرائية للمواطن، ومع ثبات الدخل وزيادة التضخم يقترب المواطن من خط الفقر أكثر فأكثر. عانى العديد من دول العالم من التضخم وتبعاته، لكن هناك حالات كانت الأسوأ في التاريخ، بلغ عددها 56 حالة تضخم، ومن بين تلك الحالات كانت هناك دولة صاحبة الحظ العثر لتفوز بلقب أسوأ حالة تضخم في التاريخ، حتى إن علماء الاقتصاد اشتقوا لتلك المرحلة السيئة اسمًا مرتبطًا باسم الدولة، التضخم الهنجاري أو التضخم المجري.

في الفترة بين عام 1945 وعام 1946 انتهت الحرب العالمية الثانية باحتلال السوفييت للمجر، فطالب السوفييت المجر بدفع تعويضات ضخمة تصل إلى قرابة 50% من ميزانية البلاد. لم يكترث السوفييت بتبعات الأمر، فما على المجر إلا طباعة المزيد من الأموال لتسديد ديونها، وبالفعل طبع المجر عملات ورقية بدأت قيمتها الشرائية تقل حتى اضطرت الدولة لطباعة عملة ورقية تحت اسم 100 كوينتيليون، يعني مليون مليار بينجوي، العملة المجرية، يعني واحد وأمامه 20 صفرًا، حتى إن العملة لم تكن تتسع لكل هذه الأصفار فاضطروا لكتابة أرقام العملات بالحروف بدلًا من الأرقام.

بلغ معدل التضخم في المجر 207%، نسبة بسيطة لكن إذا علمت أنها يومية فسيصبح الأمر مرعبًا، فنسبة التضخم كانت 207% يوميًّا، يعني أن نسبة التضخم الشهري ستبصح 4.19 مضروبةً في 10 أُس 16. لكن عقب عام 1946، وحين تسلمت الحكومة الجديدة السلطة، قامت بإلغاء عملة بينجوي تمامًا واعتمدت عملة فروينت بدلًا منها، ودفعت المواطنين لتبديل العملات.

ولأن الحكومة قامت بتثبيت سعر الصرف بالقوة، فكان على المواطن لكي يحصل على ورقة واحدة من العملة الجديدة أن يدفع عملات قيمتها 2 مضروبة في 10 أُس 21 من العملات القديمة، ما يعني أن العملة القديمة أصبحت بلا قيمة على الإطلاق، فقرر المواطنون التخلص منها بإلقائها في الشوارع. لم يلتفت لها عمال النظافة أو يرفعوها من الشوارع حتى؛ لأنها لم تكن حتى قمامة ذات فائدة، فغالبًا ما كانوا يشعلون فيها النار في الشوارع.

حرب ضد الجمعيات الأهلية

الكوارث الكبرى قد تصنع الدول العظمى، تهتز الدولة هزة عنيفة ثم تنهض لتقرر أنها لن تتعثر مرة أخرى، لكن في بعض الأحيان تنهار الدولة ثم لا تقوم، ليس ذلك فحسب، بل تتمادى في الانهيار تباعًا في مجال تلو الآخر. فرغم مرور سبعين عامًا على انهيار الدولة المجرية متمثلًا في انهيار عملتها، فإنها لا تزال تختبر كل عام سقوطًا جديدًا.

في عام 2018 أعلنت مؤسسة الملياردير الأمريكي المجري جورج سورس مغادرتها المجر بسبب تعرضها للقمع من حكومة فيكتور أوربان. منظمة سورس تمول العديد من المنظمات الأهلية غير الحكومية، ونقلت المؤسسة طاقمها بالكامل إلى العاصمة الألمانية بسبب الأجواء السياسية والقانونية المجحفة التي تعيش فيها المجر، ولا يسلم منها أجنبي أو مواطن.

تهمة سورس في رأي أوربان، الذي فاز بولاية ثالثة لرئاسة الوزاء، هى محاولة إغراق المجر بالمهاجرين، وأن مؤسسة سورس تستخدم أموالها وعلاقاتها من أجل ذلك الهدف. ومن أجل ذلك فإن المجر تشهد العديد من التشريعات التي تعادي المنظمات الأهلية كونها تُخل بهيبة الدولة المركزية، كما تفرض الدولة ضرائب باهظة على كل المنظمات غير الحكومية، خاصة تلك التي تهتم بالمهاجرين. كما أن المجر تكاد تعاقب بالسجن كل من يساعد طالبي اللجوء في محاولات الحصول على اللجوء.

المجر التي فتحت حدودها سابقًا، وكان المجريون من أكثر الشعوب الأوروبية حماسًا للتنقل بحرية في مختلف أوروبا والسماح للمهاجرين واللاجئين بدخول أراضيهم ضمن إجراءات منفتحة بالكامل. واستقبلت المجر 50 ألف شخص نزحوا بسبب الحروب في يوغسلافيا، من بينهم العديد من مسلمي البوسنة. كما أعطت المجر أولوية لكل الفارين إليها خاصةً إذا كانوا من أصل مجري، ومنحتهم حق الإقامة الدائمة.

لكن في تلك الأيام تبني المجر جدارًا جديدًا بخطاباتها وتصريحات مسئوليها، وأوربان لا يرى تعارضًا بين موقفه الأول بفتح الحدود وموقفه الحالي بإغلاقها، فقد عبر عن ذلك في خطاباته بأنه سابقًا كان يكافح من أجل حرية أوروبا، وهو الآن يحارب من أجل الحفاظ على تلك الحرية وعلى سيادة أوروبا.

الأطفال يموتون من الجوع

ربما يمكن تفهم عنصرية تعامل المجر حكومةً وشعبًا مع المهاجرين، ربما لأنهم يخافون على رفاهيتهم أن تُسرق من قبل الآخرين، لكن الواقع يقول إن المجريين يعيشون في فقر شديد يزداد عامًا بعد الآخر. فقد ارتفعت نسبة الأطفال الذين يعيشون تحت خط الفقر من 7% إلى 17% في غضون خمسة أعوام، كما أصبح من الصعب على العائلات المتوسطة العثور على سكن متوسط الجودة.

كما يعتبر متوسط الأفراد الذين يعيشون في فقر مدقع في المجر 15%، وغالب الشباب يشعرون أنه ليس لهم مستقبل في البلاد، ووفق إحصائية لمكتب الإحصاء المجري فإن نسبة 50% من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 19 و30 عامًا يفكرون في العمل خارج البلاد.

كذلك ارتفعت أسعار الشقق السكنية بنسبة 31% في عام واحد، ما يعني تراكم المزيد من الديون على المواطنين. كما أن 44% من السكان المجريين لا يستطيعون تحمل تكلفة الموارد الأساسية، وتتركز غالبية تلك النسبة في الجزء الشمالي الشرقي من البلاد. وتعاني العديد من مناطق البلد من ضعف وتهالك في البنية التحتية وقلة النشاط الاقتصادي وغياب الأيدي العاملة الماهرة.

تداعي النظام الصحي في المجر يمكن رؤيته بوضوح في وفاة 7 أطفال من كل 1000 طفل قبل بلوغهم سن الخامسة. تلك النسبة التي تُعتبر الأعلى في الاتحاد الأوروبي سببها سوء التغذية والفقر الغذائي. جمعيات أهلية عديدة عملت على توفير الطعام والفيتامينات والأدوية والحليب للأطفال، لكن كل ذلك يتم بمنتهى الحذر، فالحديث عن الجوع أمر ممنوع في المجر.

ويزيد الأمور سوءًا أن الحكومة تنزع العديد من الأطفال من أسرهم وتضعهم في دور أيتام من أجل تقديم الطعام لهم، وتمنعهم من العودة لأسرهم أو رؤيتهم مرة ثانية.

نحو الديكتاتورية الكاملة

تعاني المجر أيضًا من مشاكل مرورية تجعلها المدينة الأسوأ في المرور في أوروبا، ففي ساعات الذروة يمكن لسائق السيارة أن يستغرق ساعة كاملة في قطع مسافة 20 كيلومترًا فقط. والمفاجأة أنه في حالة المرور العادي، في غير ساعات الذورة، لا يختلف الأمر كثيرًا فالسائق يستغرق ساعة لقطع مسافة 27 كيلومترًا.

أما فيما يخص التعامل مع جائحة وباء كورونا، فمن البديهي الإشارة إلى أن المجر في وضع شديد السوء، وتعتبر رابع أعلى دولة في أوروبا من حيث عدد الإصابات والوفيات.

كما أن أوربان استغل الجائحة استغلالًا سياسيًّا؛ إذ فرض الرقابة الرقمية على كافة المواطنين، تحت حجة تتبع المخالطين والمصابين. كما ألغى الرقابة على الأجهزة التنفيذية، وأسكت كافة الأصوات المعارضة. كذلك منح أوربان نفسه حق الحكم بمرسوم رئاسي، أي أن قراراته تُنفذ دون المرور على السلطات التشريعية. وبالطبع منح نفسه حق سجن كل من ينشر معلومات مضللة، دون أن يحدد مدة السجن ولا مدة سريان القانون.

ربما شهدت الجائحة تحول المجر لديكتاتورية فجة، لكنها كانت ديكتاتورية من قبل أيضًا. فمنذ وصول أوربان للسلطة منذ عشر سنوات وهو يعمل على تفكيك المؤسسات الديموقراطية في البلاد، وكبت الصحافة، واختراق القضاء والسيطرة عليه. حتى باتت المجر معروفة في الوسط الأوروبي بالدولة الحرة جزئيًّا، ويبدو أن أوربان لن يهدأ حتى تصبح الدولة غير الحرة بالكامل.

لم يكتفِ أوربان بالسيطرة على مفاصل الحكم فحسب، بل مرر العديد من القوانين التي تتيح له ولحزبه التدخل في مجالات البحث العلمي ووضع الأكاديمية المجرية للعلوم تحت سيطرته. وكافة القوانين التي يضعها أوربان يشترط لإلغائها موافقة ثلثي أعضاء البرلمان، الذين هم للمصادفة العجيبة أعضاء حزبه.

في ظل ذلك التردي الهائل في الأوضاع الاجتماعية والمعيشية لا يمكن توقع أن يكون البلد رائدًا اقتصاديًّا، بل يعاني أيضًا من انهيار تصنيعي واقتصادي، فتركيز الحكومة وحزبها على السيطرة على السلطة والاستيلاء عليها بالكامل، ولا يهتم أوربان بأن بلاده على وشك أن تصبح منبوذةً أوروبيًّا ومنهارةً اقتصاديًّا، فحتى لو صارت خرابًا لا يهم، المهم أن يظل هو حاكمها.