حروب أهلية وصراعات محتدمة وتغير لزعماء العالم ومصير أوطان وشعوب لا يعرف مصيرها إلا الله.. هكذا هو حال العالم اليوم في ظل حالة من التراجع الغربي على الساحة الدولية وصعود للمعسكر الشرقي وانتشار الصراعات المسلحة وتراجع اقتصاد السوق لدى قطاعات عريضة لكثير من دول العالم، إضافة إلى الأزمات السياسية الداخلية المترتبة على تصاعد التيارات الشعبوية في كثير من البلدان الديمقراطية الليبرالية، حيث دخل النظام الدولي في مرحلة انتقالية في السنوات الأخيرة على أساس التراجع في مكونات القوة الأمريكية -عسكريًا واقتصاديًا- نتيجة التورط الخاطئ في حربي العراق وأفغانستان، وهذا ما فتح المجال إلى تعديل علاقات القوة السائدة بين القوى الكبرى، ولأن هذا التعديل لم يستقر بعد فإن بنية النظام الدولي لم تستقر هي الأخرى.

فالإصرار على فرض نظام العولمة الغربية باستخدام القوة الصلبة حصل في فترة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن أو باستخدام القوة الذكية كما حصل في فترة الرئيس باراك أوباما، وهو ما دفع إلى القناعة بضرورة تدعيم الاستقرار على حساب الديمقراطية، حيث تعمل روسيا على تجذيرها في العلاقات الدولية في السنوات الأخيرة، لذا فإن المرحلة الانتقالية التي يمر بها النظام الدولي، مرتبطة ليس بعدم استقرار علاقات القوة ولكن بعدم استقرار التجاذبات الأيديولوجية، بين العقيدة النظامية التي تتبناها روسيا وأيديولوجيا نظام العولمة الغربية التي يتبناها الغرب كعقيدة أيديولوجية.

حيث بدأنا مرحلة جديدة من صعود القومية وانحدار الليبرالية الدولية، فقد جاء انتخاب ترامب بدعم من شرائح مجتمعية تُعلي من قيم القومية، حيث ترى هذه القطاعات أن التركيز على الهويات الفرعية خلال السنوات المنصرمة قد قوَّض من التماسك القومي، وتؤمن هذه الشرائح المجتمعية بأهمية حماية الحدود التي بدون الدفاع عنها تختفي الدول، كما ترى أن التجارة الحرة قد أضرت بالطبقة الوسطى وقوَّضت البنية الصناعية الأمريكية. وأما بالنسبة للسياسة الخارجية فإن تجربة الولايات المتحدة في محاولة إعادة بناء الدول في الخارج ونشر الديمقراطية كانت فاشلة تمامًا، وبينما يجب أن تتفاعل الولايات المتحدة مع العالم فلا يحب أن تحاول الهيمنة عليه، وبالتالي فمن المنتظر أن تدشن عهدًا جديدًا من العلاقات الدولية تهيمن فيه القيم والتوجهات القومية على حساب تراجع سياسات نشر القيم الليبرالية.

فالعداء للنخب الليبرالية هو الذي أتى ليس فقط بترامب بل امتد أيضًا إلى دول غربية ديمقراطية ولكن ظهرت هذه التجليات بنسب متفاوتة، كفرنسا وإيطاليا وألمانيا واليونان ، واحتمال مجيء اليمين المتطرف لسدة الحكم في هذه الدول أصبح مسألة وقت.

لقد استوعبت روسيا الاتحادية جيدًا الدرس من انهيار الاتحاد السوفييتي وذلك من ثلاث زوايا أساسية: الأولى أن هذا الانهيار حدث نتيجة صراع الأفكار داخله وهو ما يثبت قيمة الأفكار في تفاعلات العلاقات الدولية، ومن جهة ثانية أن ميكانزم الهيمنة الأمريكية في مرحلة ما بعد نهاية الحرب الباردة لم يرتبط فقط بالتطورات غير المسبوقة للقوة الأمريكية بالمعنى المادي- عسكريًا واقتصاديًا- ولكن من خلال جاذبية أيديولوجيا العولمة التي تتبناها الولايات المتحدة في سياستها الخارجية والتي تعتبر جذابة للكثير من الشعوب على اعتبار تضمنها لمفردات النظام الديمقراطي وحقوق الإنسان، في نفس الوقت الذي رأت فيه روسيا الاتحادية أن إعادة إحياء الأيديولوجية الاشتراكية لن تشكل عامل جذب للدول والشعوب لأن هيمنة أيديولوجية العولمة منذ نهاية الحرب الباردة قد أدت إلى مسح أي جاذبية للأفكار الاشتراكية، أما الزاوية الثالثة فهي الحرص على تطوير عقيدة فكرية تستطيع اختراق المجتمعات الغربية في حد ذاتها.

العام الحالي سيكون على الأرجح عامًا انتقاليًا إن لم نقل تقريريًا بالنسبة لتوجيه بوصلة تطور النظام الدولي في حقبة الاضطراب الإستراتيجي وتحديد المسار نحو التجاذب بين الجبابرة، خاصة على الصعيد الاقتصادي بين واشنطن وبكين، وآفاق الاختراق الروسي وكذلك بالنسبة لموقع الاتحاد الأوروبي بعد البريكست والانتخابات القادمة في فرنسا وألمانيا، أو لجهة الفوضى التدميرية في إعادة تركيب الشرق الأوسط.

لا تبدو الصورة زاهية في هذا العهد الجديد من العلاقات الدولية ما بين البوتينية الساعية للترسخ، والترامبية القادمة بصخب، والتنين الصيني النهم، وأوروبا الهرمة والسلطويين الجدد ورعيل الحنين إلى الإمبراطوريات ومستخدمي البعد الديني ورافضي العولمة وأنصار القطيعة بين الثقافات والشعوب.

واللجوء للحرب المقننة حيث تعد طريق عودة روسيا إلى نادي الكبار وتفشي الإرهاب واستخداماته، تنتهي مرحلة غربية الطابع في طريق ربط العلاقات الدولية بقواعد مشتركة لما يسمى المجتمع الدولي. والآن يبرز على السطح التحلل من كل ربط بعوامل الأخلاق والاعتبارات الإنسانية، ومنح الأولوية لسيادة الدول على حساب قوة القانون الدولي والعمل الدبلوماسي المتعدد الأطراف.

إن هذه الردة ضد المكاسب المحدودة للنظام الدولي ليس فقط للإنجاز العسكري على الساحة السورية من قِبل بوتين، بل أيضًا لصعود قادة شعوبيين أو يمينيين مقربين لموسكو في أوروبا. وإذا صدقت اتهامات واشنطن حول ممارسة الإدارة الروسية التدخل الإلكتروني في الانتخابات الأميركية، فهذا يعني أن الحرب الإلكترونية التي تدور وراء الشاشات هي معارك تمهيدية أو اختبارات قوة في سياق أنواع جديدة من المواجهات لتقرير مصير الممسكين بزمام العالم في العقود القادمة.

تحديات عدة تواجه المجتمع الدولي في الفترة المقبلة من انعكاسات تذبذب الدولار، إلى أحوال سوق النفط الخام وانعكاساتها، وعلى لائحة الانتظار نتائج الانتخابات في فرنسا وإيران وألمانيا وهولندا ونيجيريا، وأفق ما بعد نكسات داعش من الموصل إلى سوريا، وكذلك تطور المسألة الكردية وجملة المخاطر الاقتصادية في أكثر من مكان في العالم.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.