شهدت الأسابيع القليلة الماضية مساعي إيرانية واضحة لإنجاز المصالحة مع المملكة العربية السعودية، وهو ما أظهره عدد من المؤشرات التي لم تتوقف عند دعوة وزير الخارجية الإيراني إلى تعزيز الحوار مع دول الخليج للتصدي للمشكلات المشتركة، خلال حديثه في مؤتمر ميونخ الدولي للأمن في 19 فبراير/شباط 2017، ولكنها تجاوزت ذلك بتعدد مبادرات القوى الإقليمية والدولية للتوسط بين الدولتين، وعقد مباحثات إيرانية مع بعض دول الخليج، في مسعى واضح لتفعيل جهود الوساطة تلك، التي بدت المملكة السعودية متحفظة عليها للعديد من الأسباب، التي تثير التساؤل عن حقيقة التغير الفعلي في الموقف الإيراني من المصالحة مع الرياض، وأسباب تحفظ المملكة السعودية على الاستجابة لدعوات طهران في هذا الشأن، وفي ضوء مضمون دعوات المصالحة بين الطرفين.


تعدد مبادرات المصالحة بين طهران والرياض

اتخذت هذه المبادرات ثلاثة مظاهر رئيسية، وكانت على النحو التالي:

الأول: التحركات الإقليمية لإيران

وكان البارز هنا الزيارة التي قام بها الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى كل من سلطنة عُمان والكويت في منتصف فبراير/شباط 2017، للتباحث حول عدد من قضايا التعاون الثنائي، والأهم هو البحث في فرص المصالحة مع دول الخليج عموما ومع المملكة السعودية على نحو خاص، وفي ضوء المبادرة الخليجية لتهدئة الخلافات الإقليمية، والتي سبق أن نقلها إلى طهران وزير الخارجية الكويتي الشيخ صباح الخالد الصباح، في 25 يناير/كانون الثاني 2017، والتي توضح أسس وشروط الحوار الممكن بين دول الخليج وإيران.

وبعد أسابيع قليلة من تلك الدعوة، جاءت زيارة وزير الخارجية الكويتي محمد جواد ظريف، إلى قطر في 8 مارس 2017، لإجراء محادثات مع نظيره القطري محمد بن عبد الرحمن بن جاسم آل ثاني وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، بشأن تحسين العلاقات التي توترت بسبب خلاف طهران والرياض.

الثاني: محاولات إيران إبداء حسن النية

وكان المثال البارز على ذلك هو قرار إحدى المحاكم الإيرانية بسجن 6 من رجال الدين في إيران، لمشاركتهم في الهجوم على السفارة السعودية بطهران، مطلع عام 2016، والتحريض على اقتحامها، وذلك فيما يبدو لاحتواء العلاقات المتوترة مع الرياض، والتي ازدادت سوءًا في أعقاب حادث اقتحام سفارة السعودية في طهران وقنصليتها في مشهد، ولتنقطع العلاقات الدبلوماسية بصورة تامة بين البلدين، ومع عدد من دول الخليج، تأثرا أيضا بالخلاف حول تنظيم موسم الحج، وبسبب تنفيذ حكم الإعدام في المملكة على رجل الدين الشيعي نمر باقر النمر.

الثالث: عروض التوسط للمصالحة

والتي رأى المحللون أنها كانت بدفع من إيران، التي تحاول استغلال تأثير عدد من القوى الإقليمية والدولية التي تجمعها بها علاقات طيبة وبالمملكة السعودية، وكان الأشهر في هذا الصدد مبادرة وزير الخارجية الصيني وانج يي، الذي أعلن في 8 مارس/آذار 2017، عن استعداد الصين للتوسُّط بين السعودية وإيران لحل النزاع بينهما، قائلا في المؤتمر الصحفي السنوي على هامش دورة الاجتماعات السنوية لمجلس نواب الشعب الصيني، إن بلاده ترحب بزيارة الملك سلمان المقررة للصين خلال الفترة من 15 إلى 18 مارس/آذار 2017.

وأضاف: «نأمل أن تقوم المملكة السعودية وإيران بحل الخلافات القائمة بينهما بناء على أساس المساواة والتشاور الودي، الصين صديق مشترك لكل من إيران والسعودية، وعلى استعداد لأن تلعب الدور المطلوب منها إذا لزم الأمر». والجدير بالذكر هنا أن المساعي الصينية للتوسط بين البلدين ليست الأولى؛ إذ رحبت طهران قبل ذلك بمساعٍ روسية رامية إلى تخفيف حدة التوتر بين طهران والرياض، وأيضًا العراق، كان قد عرض التوسط بين القوتين الإقليميتين.


أسباب ترحيب إيران بعروض المصالحة

هناك عدد من الأسباب والدوافع التي قد تفسر موقف إيران، التي أعربت في غير ذي مرة عن ترحيبها بعقد المصالحة في الخليج. فمن ناحية أولى: يبدو واضحا أن هناك علاقة قوية بين توجه إيران لبحث المصالحة الخليجية، والضغوطات الأمريكية عليها بعد تولي دونالد ترامب الحكم، والذي سبق أن هدد خلال حملته الانتخابية بإلغاء الاتفاق النووي الذي أبرمه سلفه باراك أوباما مع طهران.

وما يضاعف من المخاوف الإيرانية بهذا الشأن أن تهديدات ترامب لإيران جاءت بالتزامن مع انفراجة في العلاقات الأمريكية السعودية، مما دفع طهران إلى العودة للوراء قليلا في محاولة لجس النبض الخليجي حيال تصريحات الرئيس الأمريكي تجاه طهران.

ومن ناحية ثانية: فإن التطورات الإقليمية لا تصب في صالح إيران، خصوصا مع تراجع الدور الإيراني في سوريا لصالح دور أكثر تأثيرا في كل من روسيا وتركيا لإنجاز المصالحة السورية، فضلا عن أن تركيا تحديدا كثفت مشاورتها في الآونة الأخيرة مع دول الخليج العربي، الأمر الذي قد يعني على الجانب الآخر تهميشا أكثر لدور إيران، رغم نجاحها في الفترة السابقة في الحفاظ على علاقات براجماتية مع تركيا قائمة على الشق الاقتصادي، رغم خلافاتهما الواسعة حول الملفات الإقليمية، وخصوصا حول الملف السوري.

ومع الإشارة إلى أن زيارة روحاني لعُمان والكويت تزامنت مع جولة أخرى قام بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في الخليج، تضمنت زيارة البحرين والمملكة السعودية وقطر، بهدف تعزيز العلاقة التركية الخليجية، وتنسيق الأدوار من أجل إيجاد حلول لأزمات منطقة الشرق الأوسط، وعلى رأسها الأزمة السورية.

والتقارب التركي الخليجي لاشك أنه يزعج طهران بصورة كبيرة، خاصة في ظل تباين وجهات النظر الإيرانية التركية في كثير من الملفات أبرزها الملف السوري وفكرة إقامة مناطق آمنة، في الوقت الذي تتطابق فيه الرؤية التركية مع التوجه الخليجي، وهو ما يصب في غير مصلحة طهران.

ومن ناحية ثالثة: وفي تنافس للدور الذي لعبته إيران على الساحة العراقية شبه منفردة، شهدت الآونة الأخيرة اتجاها سعوديا لإقامة علاقات مميزة مع القادة السياسيين في العراق، وكان المثال البارز على ذلك الزيارة المفاجئة لوزير الخارجية السعودي عادل الجبير، إلى العاصمة العراقية في 25 فبراير 2017، وكانت الأولى لمسئول سعودي كبير إلى بغداد منذ 14 عاما، وخلالها تم التطرق لموضوع اختيار سفير سعودي جديد في بغداد، وقد مثّل ذلك مفاجأة مربكة لإيران، التي توجست من هذه الخطوة السعودية، خشية مما تناقلته بعض وسائل الإعلام الغربية، وخصوصا صحيفة «وول ستريت جورنال»، التي تحدثت عن أن هناك تنسيقا أمريكيا – خليجيا لإيجاد منظومة مشابهة لحلف الناتو لمواجهة السلوك العدائي لإيران في المنطقة، وذلك ما يقوي من دافع إيران لتحقيق تهدئة، ولو مؤقتة، مع القوى الخليجية، وخصوصا الرياض.


السعودية تتمنّع

بدا أن المملكة السعودية على الجانب الآخر، لاتزال حذرة في قبول عروض المصالحة مع إيران، التي تستهدف في المقام الأول تحييد الآثار السلبية للتغيرات الإقليمية والدولية ناحيتها، وبدا هذا واضحا في موقف السفير السعودي لدى الصين تركي بن محمد الماضي، الذي وإن أعرب عن ترحيب بلاده بجهود الصين لإحلال السلام في الشرق الأوسط، ولكنه قال إن «إيران حالة مستعصية».

وقال الماضي في تصريح أدلى به لوكالة أنباء شينخوا الصينية: «لا توجد دولة لا تريد أن تحافظ على علاقات جيدة مع جيرانها، إنما حالة إيران حالة مستعصية لا يمكن العمل معها على أي أسس أو وساطة، فهي دولة تحاول تهديد السلم الاجتماعي فى البحرين وتدخلت في اليمن وسوريا والعراق ووصلت إلى لبنان، وساطة على أي أساس؟». واستبعد أن تُطرح مسألة الوساطة لحل الخلاف بين البلدين خلال زيارة العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز إلى الصين.

وفي ضوء ذلك يمكن رد أسباب التحفظ السعودي على الدعوات الإقليمية والدولية للتوسط لعقد المصالحة مع إيران إلى الأسباب الآتية:

1- عدم تغير السياسات الإقليمية لإيران

فالمهادنة السياسية من قبل الرئيس الإيراني حسن روحاني ووزير خارجيته جواد ظريف، يصاحبها تصعيد عسكري ميداني بتشجيع من مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي، وقادة الحرس الثوري في إيران، دون مؤشر على تغير نمط وعقيدتهم العسكرية والقتالية. بل إن مليشيات عراقية تابعة للحشد الشعبي التي تأتمر بإمرة الحرس الثوري في العراق تتأهب للتدخل في سوريا ضد المعارضة السورية المسلحة التي تحاصر بلدتي كفريا والفوعة شمال سوريا، مع استمرار إيران في دعمها لجماعة الحوثي في اليمن، ومحاولاتها فرض النفوذ في مضيق هرمز وتهديد الملاحة البحرية في مياه الخليج العربي، وهو ما تظهره كثرة حوادث الاحتكاك بالسفن المارة في مياه الخليج، وخصوصا الأمريكية. وذلك فيما تتواصل كذلك الاتهامات البحرينية لإيران بدعم المعارضة الشيعية في البلاد والتدخل في شئونها الداخلية.

2- التناقض في مواقف إيران من المملكة

فلم يحل إعلان إيران قبولها دعوات المصالحة مع المملكة دون استمرارها في توجيه الاتهامات إلى الرياض، وهو ما بدا واضحا في موقف السفارة الإيرانية في الصين من الإعلان عن وساطة بكين التي رفضتها الرياض، فاتهمتها في بيان أصدرته بهذا الصدد، أنها «باتخاذها وتنفيذها سياسات طائفية وتأجيج الخلافات القومية والمذهبية وكذلك تقديم الدعم المادي والمعنوي للجماعات الإرهابية والتكفيرية قد زعزعت الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم»، بحسب الادعاءات التي جاءت في البيان، الذي ادعى أيضا أنه وخلافا للنظام السعودي «ترحب طهران بجميع الجهود البناءة، وقد رحبت في الفترة الأخيرة بمقترح سمو أمير الكويت لإقرار الحوار والتفاهم في المنطقة وفي مسار هذه السياسة ترحب بأداء الصين دورا بناءً في المنطقة».

وذلك فيما اعتبر مستشار رئيس البرلمان الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، في مقابلة تلفزيونية مع إحدى القنوات التابعة للمعارضة البحرينية، إن حوار بلاده مع السعودية مرهون بوقف الحرب في اليمن وتدخلها بالبحرين، في إشارة إلى المطالبة بوقف الهجمات التي يشنها التحالف العربي بقيادة المملكة ضد الحوثيين وحلفائهم من أنصار علي عبد الله صالح في اليمن، داعيا الشيعة في البحرين كذلك إلى مواصلة ما أسماه بـ«الحراك الشعبي ضمن الأساليب الديمقراطية السلمية»، مدعيا أن استمرار هذا الحراك يزعج النظام وسيحقق النتائج المطلوبة.

3- تمسك إيران بشروطها في مفاوضات الحج:

فعلى الرغم من إعلان وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي الإيراني رضا صالحي أميري، عن تقدم في مفاوضات الحج مع المملكة، لكنه عاد ليُعلن أن إيفاد الإيرانيين إلى السعودية للحج مرهون بقبول السلطات السعودية شروط طهران، التي قررت عدم إرسال مواطنيها للحج الموسم الماضي إثر خلافات مع السعودية بعد حادثة منى في موسم حج عام 2015.

وكشفت مصادر إعلامية إيرانية النقاب عن الشروط التي قدمها الوفد الإيراني، وبعضها سياسية، لوزارة الحج السعودية خلال المفاوضات، موضحة أن هذه الشروط تتمثل في توفير الأمن للحجاج الإيرانيين، والسماح لهم بإقامة مراسم قراءة «دعاء كميل» في المدينة المنورة ما بين المسجد النبوي الشريف ومقبرة البقيع، وإقامة مراسم البراءة من المشركین في صحراء عرفات، والتي يتم خلالها إطلاق الصيحات التي غالبا ما يتخللها تنديد بالولايات المتحدة وإسرائيل.

وذلك فيما تحذر السلطات السعودية في كل عام جميع الحجاج من استخدام الشعارات السياسية في موسم الحج، من أجل الحفاظ على سلامة الحجاج وأداء المراسم العبادية.

وفي ضوء ما سبق، يمكن القول بصعوبة نجاح أي محاولة أو وساطة لحل الخلاف بين الرياض وطهران، إلّا في حال التزام إيران بوقف تدخلاتها في الشأن الداخلي للدول العربية، والتوقف عن سياستها التوسعية في المنطقة والمبنية على تصدير ثورتها وتكريس أيديولوجيتها السياسية والدينية. وبحسب ما أوضح وزير الدولة للشئون الخارجية في الإمارات أنور بن محمد قرقاش، فإن دول مجلس التعاون الخليجي ومن خلال دور الكويت، وضعت أسسا واقعية ومنهجية للتعامل مع إيران، تقوم على ثلاث أرضيات واقعية تقبلها جميع الدول في تعاملها مع الدول الأخرى، موضحا أن الأرضية الأولى هي «أن يكون هناك قبول بأن أساس العلاقات الإيجابية هو عدم التدخل في الشأن الداخلي»، والثانية، «قبول طهران بأن ثورتها شأن داخلي، وهي غير قابلة للتصدير إلى الدول العربية»، والثالثة، «القبول بمبدأ المواطنة على أساس الوطن، وليس المواطنة على أساس المذهب».