منذ طوّر البشر الكتابة امتلكوا ميزة عما عداهم من كائنات، هي أن أصبح لهم تاريخ، يتجسد في ذلك الشيخ الأشيب المهيب الذي يظهر دائمًا في أفلام الفانتازيا حاملاً كتابًا ضخمًا، يحوي تراث الإنسانية ومعالم مسيرتها التي تأتي في مقدمتها خلاصة معارف وخبرات البشر التي أصبحت قادرة على عبور حواجز الزمان والمكان؛ ما أصبح معه عنوان مقالة كهذه ممكنًا!

فرائد علم الاجتماع العربي، العالم العلّامة «ابن خلدون» الذي مات منذ ستة قرون، يمكن أن يكون بيننا بفكره اليوم، رغم فناء جسده بين أسنان دواب الأرض، فنستلهم معارفه وكأنه حاضر معنا، فلسنا مُضطرين لاستخدام تقنيات من عالم الخيال العلمي لإحيائه، ولا اللجوء إلى تعاويذ الروحانيين وشعوذات السحرة لاستحضار روحه، فقط سنعود لما قاله الرجل في شئون الدول وأمور العمران، لنضع بعضًا منه بين أيدينا ونُمعن فيه النظر، فيما عيوننا شاخصة للواقع الذي نعيشه، تاركين الاستنتاجات للقارئ.

فنجده تحدث أولاً عن وجوه المعاش، فميّز بين الطبيعية منها وغير الطبيعية، فحدد الأولى بـ«الفلاحة والصناعة والتجارة»، والثانية بـ«الإمارة، وابتغاء الأموال من الدفائن والكنوز»، وهو كما نرى تمييز بين الأعمال المُنتجة وغير المُنتجة اقتصاديًا، فلم يكن يرى في تحصيل الدخول والثروات الشخصية من المناصب بالدولة، ومن الاستدانة «المُسيّسَة» من الخارج، سبلًا عقلانية في الاقتصاد فرديًا وجماعيًا، كما لم يرَ في تنمية الدول بدعوة الله بـ«عشرة حقول مثل حقل ظهر» مثلًا، سوى «عجز عن طلب المعاش بالوجوه الطبيعية».

ثم نجد ثانيًا من بين ما قال قوله في شئون المالية العامة ضمن حديثه عن حياة الدولة ومسارات تطورها من النشوء إلى التدهور، إن «الجباية في أول الدولة تكون قليلة الوزائع كثيرة الجملة، ثم في آخرها تكون كثيرة الوزائع قليلة الجملة»، أي تكون الضرائب قليلة العبء على الناس كثيرة الإيراد، ثم مع تدهورها وزيادة نفقاتها بانخفاض كفاءتها وضعف اقتصادها وتغلغل الفساد فيها، تبدأ في زيادة أعبائها لتعويض ما يعتري إيراداتها من انخفاض دون جدوى.

بل إنه يذهب في قوله لحد من التفصيل تشعر معه كما لو كان يعيش بيننا، فيذكر ضمن ما ذكر، شكل الممارسات المالية لقادة تلك الدول المتدهورة الذين «يكثرون الوزائع حينئذ على الرعايا والأكره والفلاحين وسائر أهل المغارم، ويزيدون في كل وظيفة ووزيعة مقدارًا عظيمًا لتكثر لهم الجباية، ويضعون المكوس على البياعات وفي أبواب المدينة، ثم تتدرج الزيادات فيها مقدارًا لتدرّج عوائد الدولة».

ثم يستطرد واصفًا نتائج هذه الممارسات قصيرة النظر على العمل والاستثمار: «فتذهب غبطة الرعايا في الاعتمار لذهاب الأمل من نفوسهم بقلة النفع إذا قابل بين نفعه ومغارمه وبين ثمرته وفائدته؛ فينقبض كثير من الأيدي عن الاعتمار جملة، فتنقص جملة الجباية»، أي تتدهور الإيرادات الضريبية بسبب الجباية المُجحفة نفسها التي أضعفت الاستثمار والعمل في الاقتصاد بجملته، وتبدأ حينها الحلقة الخبيثة من تعويض نقص الإيرادات الضريبية بمزيد من الجباية، وإضعاف زيادة الجباية للإيرادات الصافية، ما عبّر عنه بقوله:

ولا تزال الجملة في نقص ومقادير الوزائع في زيادة لما يعتقدونه من جبر الجملة بها، إلى أن ينتقص العمران بذهاب الآمال من الاعتمار، ويعود وبال ذلك على الدولة لأن فائدة الاعتمار عائدة إليها.

أي أن الأصل أن إيرادات الدولة تتحقق من تنميتها الاقتصاد وزيادة العوائد فيه، وهي التي يعود عليها جزء منها، لا من الاقتطاع المُجحف من أرزاق الناس بما يقطع أملهم في العمل ويفقدهم الحافز فيه، وهو ما يتوافق مع أحدث النظريات الاقتصادية، بل حتى مع الحكمة القديمة بأخذ جزء من لبن البقرة لا القطع من لحمها، مما يبدو أن حكومات مصر في القرن الحادي والعشرين لا تفهمه!

ولم يقف عند هذا، بل نجده ثالثًا أفرد بنداً خاصًا بعنوان «في أن التجارة من السلطان مُضرة بالرعايا مُفسدة بالجباية»، تحدث فيه عن مضار منافسة السلطة للشعب في ميدان الاقتصاد بما لها من مزايا وقوة ليست لهم؛ مما يفسد السوق ويضر بالمجتمع، فيقول:

إن الرعايا متكافئون في اليسار أو متقاربون، ومزاحمة بعضهم بعضًا ينتهي إلى غاية لوجودهم أو تقرب، فإذا رافقهم السلطان في ذلك، وما له أعظم كثيرًا منهم، فلا يكاد أحد منهم يحصل على غرضه في شيء من حاجاته.. ثم إذا السلطان قد ينتزع الكثير من ذلك إذا تعرّض له غصبًا.

أي بوسائل السلطة العامة لا المنافسة العادلة القائمة على الكفاءة في خدمة أغراض العمران ومصالح العباد، ما يزيد في رأيه كذلك من الفساد كون «الجاه مفيد للمال» على قوله.

ولم ينس في نفس السياق الحديث عن قضية الخدمة العامة، فتحدث رابعًا عن أهل الثقة وأهل الخبرة، فصنّف مسئولي وعمال الدول لأربعة أصناف: «فإما مُضطلع بأمره موثوق به.. وإما غير مُضطلع بأمره ولا موثوق به.. وإما بالعكس في إحداهما، كأن يكون مُضطلعًا غير موثوق أو موثوقًا غير مُضطلع»، وكأنه يتحدث عن ثنائية الأمانة والكفاءة، لينتهي – مع استبعاده النوعين المتطرفين الحدّيين لعلوّ الأول عن الإجارة غالبًا ولعدم جدوى الثاني مُطلقًا – إلى موافقة القول القرآني:

«إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ» في تقديمه القوة على الأمانة، فقال «إن المُضطلع ولو كان غير موثوق، أرجح لأنه يُؤمن من تضييعه ويمكن التحرز من خيانته جهد الاستطاعة، أما المُضيع ولو كان مأمونًا، فضرره بالتضييع أكثر من نفعه بالأمانة»، فما بالنا لو عاش الرجل ليومنا هذا في مصرنا هذه، ورأى امتهان الكفاءة – ناهيك عن الأمانة – في تعيينات المسئولين المصريين، بدءًا من لواءات ومهندسي «الكفتة» و«الرياح الشمالية الغربية»، ووصولًا إلى القضاة والوزراء الذين لا يجيدون مجرد القراءة السليمة!

إنه لمما يثير التأمل أن لا يعي القائمون على الأمور ومستشاروهم حاملو الدرجات العلمية الرفيعة والرتب الإدارية والعسكرية المهيبة، ما قاله رجل مات منذ ستة قرون، فلو كان سوء إدارتهم عن جهل فهي مصيبة، ولو كان عن سوء نية فالمصيبة أعظم، فهل يوجد قانون كوني يقضي بألا تتعلم البشرية من تجاربها لتكرر أخطاءها، أم أنها «خيبة مصرية» حصرية، تجلعنا نعيد اختراع العجلة دائمًا ومن جديد، حتى فيما صار من بداهات الوجود الاجتماعي والمعاش البشري!

إنها مأساة حقيقية أن يكون هذا ما استشففناه من رأي لابن خلدون في مصر القرن الحادي والعشرين، فيما كان رأيه هو نفسه في قاهرتها التي عاصرها أنها:

حضرة الدنيا، وبستان العالم، ومحشر الأمم، وكرسي الملك، تلوح العصور في جوه، وتزهر المدارس بآفاقه، وتضيء البدور والكواكب من علمائه، وقد مثل شاطئ بحر النيل نهر الجنة وموقع مياه السماء، ومررت حتى سكك المدينة تقضي بزحام المارة وأسواقها تزخر بالنعم.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.