والذي لا إله إلا هو، لولا أن أبا بكر استُخلف ما عُبِدَ الله، ثم قالها الثانية، ثم قالها الثالثة.

الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه في حديثه عن الصدِّيق أبي بكر رضي الله عنه

تبدو صورة أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – صورة العابد الزاهد صاحب الغار رحيم القلب على المسلمين، في حين تبدو صورة الخليفة الأول، ورجل الدولة، وداعم أركانها، أقل وضوحًا نوعًا ما، خاصة إذا ما وضعت مقابلة لصورة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – الخليفة العادل،صاحب الفتوحات الواسعة، والقرارات الحاسمة، مدوّن الدواوين، وقاطع رؤوس الفتن.

إنّ مدة الحكم عامل أساسيّ في رسم تلك الصورة، فأبو بكر لم يدم حكمه سوى عامين – من سنة 11 إلى سنة 13هــ – بينما مدة حكم عمر امتدت من سنة 13 إلى سنة 23هــ، ذلك أن عامل الفترة الزمنية قد زاد من حجم القرارات والأخبار الواردة عند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – مما جعلها تحتلُّ مساحة كبيرة في مرويات التاريخ الإسلامي، بينما امتازت فترة حكم أبي بكر – رضي الله عنه – بالتكثيف والقِصر، مما جعل لها وزنًا على المستوى السياسي.

فرجل أتى على حكم أمة في أول عهدها بالسيادة الدولية والتحول «لدولة عظمى» كان منوطٌ به إعادة رسم خارطة سياسية لهذه الدولة، وحفظ أركانها وقواعدها من التفتّت بعد وفاة النبي المؤسس – صلى الله عليه وسلم – للخارطة السياسية التي ستكون أساسًا لسير الخلفاء من بعده.

ثمة أربعة قرارات أساسية كانت أهم وأخطر ما ميّز حكم أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – وكان لها الأثر في تثبيت أركان الدولة الوليدة، التي سيتسلمها عمر بعد ذلك دولة فتية قادرة على الظهور والاكتساح.


إنفاذ بعث أسامة

من المعلوم أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان قد جهّز أسامة بن زيد – رضي الله عنه – في جيش من 700 مقاتل، وأرسلهم لقتال الروم بالشام، والثأر لقتلى المسلمين بمؤتة، وقبل وصول الجيش بغيته علم أسامة بوفاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -فتوقّفَ ليعلمَ ما إن كان ثمة قرارات جديدة ستأتيه تخصّ حملته، في هذه اللحظة كانت أخبار ارتداد قبائل العرب تترى؛ الأمر الذب كان يعني خروج الجزيرة العربية من تحت سيطرة المسلمين، ووقوع العاصمة – المدينة النبوية – بين بحر من القبائل المخالفة، وربما المقاتلة لهم، فلم يكن ثمة معنى ببعث 700 مقاتل لتخوم الشام أثناء قيام هذا التمرد.

هذه مخاوف قادت فريقا من الصحابة لمحاولة إقناع أبي بكر للعودة عن قراره بإنفاذ بعث أسامة، والإبقاء عليه بالمدينة لحين استتباب الأمن بالجزيرة العربية، في حين أصر أبو بكر على قراره وقال قولته: «والذي لا إله إلا هو لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رددتُ جيشًا وجَّهَه رسول الله صلى الله عليه وسلم».

قد يبدو القرار بابًا مفردًا في الورع وحسن الاتباع، لكن ماذا عن أبعاد هذا القرار سياسة؟

يقول أبو هريرة رضي الله عنه: «فوجه أسامة، فجعل لا يمر بقبيل يريدون الارتداد إلا قالوا: لولا أن لهؤلاء قوة، ما خرج مثل هؤلاء من عندهم، ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم، فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم، ورجعوا سالمين فثبتوا على الإسلام».

بهذه السياسة الحكيمة من الصديق يكون قرار إنفاذ البعث بمثابة إظهار القوة وعدم الاكتراث أو القلق لحركات الارتداد، فقد أدى بعث أسامة ثلاث مهام أساسية:

الأولى:تخويفُ المنتوين الارتداد بإبراز قوة المسلمين، وتماسك قيادتهم، وتأجيل قرار الارتداد لحين عودة الجيش منتصرا، وهي مدة زمنية ساعدت القيادة فى المدينة على الاستعداد لحروب الردة دون فتح كل الجبهات في آن.

الثانية: تثبيت بعض القبائل على الإسلام .

الثالثة: بداية الطرق على الجبهة الشمالية الغربية للجزيرة (الشام)، واستكشاف ميداني للمنطقة وقوة الروم وتشكيلاتهم العسكرية، واختبار قوة المسلمين أمامهم، الأمر الذي سيشكلُ قرار بداية الفتوحات، واختيار الشام وجهة أولى بعد ذلك.


حروب الردة

إن الجزيرة العربية هي النواة الصلبة للدولة الإسلامية، فأهلها أهل اللغة وعاء القرآن، وموقعهم من المدينة –العاصمة – موقع الإحاطة، فدون توحّد الجزيرة تحت لواء الإسلام يستحيل خروج الإسلام من الجزيرة لغيرها، وتستحيلُ حركة الجيوش الإسلامية خارجها شبرا خارجها.

ولفهم البواعث الحقيقية وراء حركة الارتداد التي أعقبت وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم – يلزمُ فهم الحالة السياسية للجزيرة العربية قبل الإسلام، فالقبائلُ التي لم تعرف الحكم المركزيّ لم تكن لتقبل الدخول تحت لواء واحد كلواء العقيدة، إلا أن تترسخ هذه العقيدة في النفوس بقوة لا تعلوها قوة القبيلة والعصبية، والعرب الذين لم يقبلوا الجبر يصعب عليهم أن تنعقد لهم بيعة على رجل واحد، فضلًا على أن يكون من الفرع الضعيف في قبيلة قريش. والعرب الذين لا يقبلون ضيمًا، ينظرون إلى الزكاة باعتبارها إتاوة تُجبى منهم، كل هذا جعلَ تمرّد القبائل حديثة العهد بالإسلام طبيعيًا بعد وفاة النبي – صاحب المرجعية العقدية – وعدم القبول بالدخول تحت حكم خليفته.

لهذا فالرِّدة لم تكن على درجة واحدة في كل قبائل العرب، لكنها في النهاية مثّلت دائرة من التمرد أحاط بالمدينة ومكة والطائف، وتنوعت تجليات هذا التمرد؛ فنجد قبائل امتنعت عن دفع الزكاة فقط، وأخرى امتنعت عن الدخول تحت لواء جامع ورفضت البيعة لأبي بكر، وهناك من ارتد عن الإسلام جملة، فضلاً عمن انقاد لمدعي نبوة جدد.

الحاصل في النهاية أن قرار أبي بكر بإعادة توحيد الجزيرة تحت راية واحدة، وعدم وضع السلاح حتى تعود كل القبائل لموقعها من الوحدة السياسية، كان قرارًا سياسيًا حاسمًا، خرج فيه أبو بكر في نقاشه مع عمر بن الخطاب عن لينه المعهود، وخرج فيه عمر عن شدته المعهودة؛ إذ كان موقف عمر الصبر على المرتدين، في حين أدى فهم أبي بكر إلى أن التراخي مع المرتدين يعني الحكم بضعف قوة الإسلام ومن ثم محاصرته والقضاء عليه؛ إذ لن تصبر هذه القبائل كثيراً حتى تهاجم البقية الباقية من المسلمين، وحتى لو عاد للإسلام بعضها، فلن يساهم في قيام وحدة سياسية يتطلع إليها المسلمون.

وفي غضون عام واحد قضى على حركات الردة بالجزيرة العربية، وعادت لتدين بالوحدة والولاء لدين الإسلام؛ اعتقادًا، ولوحدته السياسية وقيادتها اتباعًا، وانتهى أمر مُدّعي النبوة، وعادت الجزيرة وَحدة متماسكة يمكنُ انطلاق الجيوش الإسلامية من خلالها لنشر الإسلام خارجها .


طرق جبهة الفتوحات

إن خروج الجيوش الإسلامية للفتوحات ليست بدعة ابتدعها أبو بكر الصديق، فسار عليها الخلفاء من بعده حقًا، بل كان التصريح بالفتوحات واضحًا في الرسائل التي أرسلها النبي – صلى الله عليه وسلم – لزعماء الأمم يدعوهم لإحدى ثلاث :الإسلام، أو التخلية بين الدعاة والناس لإيصال دين الله، أو القتال.

وهي سير على طريق غزوات النبي – صلى الله عليه وسلم – في القبائل بعد فتح مكة، والتي لم تكن دفاعًا فحسب بل طلبًا أيضًا، بل إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد ابتدأ الفتوحات بإرسال بعْثِ أسامة لتخوم الروم.

على هذا يكونُ قرارُ أبي بكر بإتمام الفتوحات، وليس ببدئها كما يشاع، لكن النظر لقرار الفتوح لا ينبغي أن يُؤخذ من بُعده العقدي فحسب، فتلكم قرارات خضعت لبحث ونظر ومشورة أهل الحل والعقد من الصحابة حتى صدور القرار، وكون عقد الألوية للفتوحات قد تبع مباشرة الانتهاء من حروب الردة كان يهدفُ إلى بُعدٍ سياسي وعسكري ضخم؛ فالفرسُ والروم كانوا المحرّضين الأساسيين على حركة الارتداد والداعمين لها، ومواجهتهم كانت تعني تحقيق استقرار الجزيرة العربية، نضف إلى ذلك المعاناة الاقتصادية التي كانت تعانيها الجزيرة، فما تُفيئه هذه الفتوحات على الجند العرب الفاتحين، سيسهم بالضرورة في ارتباطهم بالدولة الإسلامية الوليدة، بل ويصرف سيوفهم عن الداخل للخارج تحقيقًا لمبدأ التدافع؛ لذا كانت للفتوحات ضرورتان: واحدة عقدية، وأخرى سياسية تكمنُ في حفظ تماسك الدولة الإسلامية، وتأليف العرب وتوحيدهم، والقضاء على الإمبراطوريتين العظميين اللتين شكّل بقاؤهما خطرًا محققًا على دولة الإسلام.

وكان يتبقى اختيار الجبهتين الأساسيتين للفتوحات (الشام والعراق)، والواقع أن هذا الاختيار كان حتمية تاريخية تمثّلت في موقع الجزيرة العربية بين الوجهتين، واتصالها المباشر بهما اتصالًا برياً، فلو كان هذا الاتصال بحرياً كما الاتصال بين الجزيرة والحبشة مثلاً لاختلف الأمر، وقد توفي أبو بكر وقد سقطت جبهة العراق في يد المسلمين، وكانت جبهة الشام على أهبة السقوط؛ حيث تلقى – رضي الله عنه – خبر نصر المسلمين فى موقعة «أجنادين» في آخر أيامه، وبقي على عمر بن الخطاب استكمال طريق الفتوح، وتأمين ظهور المسلمين، وتوطيد حكمهم في الأرض الجديدة، فكان استكماله فتوحات الشام وفارس ضرورة عسكرية، والدليل على أن منهج عمر كان التريث في الفتوحات، وأنه إنما أتم أمر الجبهات المفتوحة للضرورة الحربية؛ ما دار بينه وبين عمرو بن العاص من حديث طويل وشد وجذب، حتى اتخذ قرار فتح مصر وفتح جبهة جديدة للقتال.


استخلاف عمر

الراجح أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لم يستخلف أحداً عقبه، وإنما أشار في غير موضع لأحقية أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – أما حال موته فلم يصرح باستخلافه، فجاء الأمر اجتهادًا، لكن بالنظر إلى الحال التي توفي عندها أبو بكر تاركاً المسلمين، وقد تفرقت جيوشهم على تخوم الروم وفارس، والرِّدة لم يمضِ على إجهاضها سوى عام واحد، وآثارها لم تهدأ بعد، والأحوال الاقتصادية التي لم تستتب؛ كان خيار استخلاف عمر، وعدم ترك الأمر للاجتهاد من بعده الحال الأنسب، فلو ترك الأمر للمسلمين أياماً يجمعون فيها أمرهم، ويلقي كل بحجته كما فعل عمر بعده، لدارت الدوائر على جيوش المسلمين بتلك الجبهات المفتوحة، ولتحركت كل قبيلة تطالب بحقّها في الزعامة ومازالت حديثة عهد بكفر، على أنه استشار كبار الصحابة في مرض موته رضي الله عنه، وأشار الجميع عليه باستخلاف عمر.

ماذا لو لم يكن أبو بكر أول خليفة بعد رسول الله؟

لكان ما أخرجه البيهقي وابن عساكر عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: «والذي لا إله إلا هو، لولا أبا بكر استُخلف ما عُبِدَ الله، ثم قالها الثانية، ثم قالها الثالثة».

المراجع
  1. جلال الدين عبد الرحمن بن أبى بكر السيوطى :تاريخ الخلفاء .
  2. محمد سهيل طقوش : التاريخ الإسلامى الوجيز .
  3. على محمد الصلابى :صفحات مشرقة من التاريخ الإسلامى ،ج1.