عوّدنا البيت الأبيض وهو يحل مشاكل العالم أن يكون مثل «البطة» وهى تخوض البحر. ظاهرها الهدوء والسكينة. باطنها الاضطراب والقلق. لكن في عصر ترامب اختفت «البطة». وصار الظاهر كالباطن. اضطرابٌ في السياسة الخارجية، وتشرذم في السياسة الداخلية.ليصبح التشبيه الأمثل للبيت الأبيض هو السفينة «تيتانيك». يقودها ترامب بغروره وعناده إلى جبل جليدي ضخم. سُتر النجاة قليلة، وستغدو عديمة الفائدة عند الارتطام. بعض المؤمنين بترامب يُؤثرن عزف الموسيقى إلى آخر لحظات الغرق. ويفضل آخرون القفز مبكرًا قبل أن يصبح القفز مساويًا للغرق.ليس كل من قفز فعل ذلك بإرادته. بعضهم استقال والبعض أُقيل. العامل المُشترك أنّهم حاولوا. حاولوا تنبيه القبطان الأبيض إلى جبل الجليد. حاولوا التلاعب بدفة السفينة كي تتجنب الغرق. لكن القبطان لا ينقصه الحزم في قراراته. ولا يفتقر إلى الإصرار على ما يقول. ترامب لا يُمانع أن يسير إلى الجبل الجليدي مسرورًا. المهم، أن يكون صوته هو الأعلى.


جيل المطرودين الأوائل

بعد 10 أيام من توليه السلطة. أصدر ترامب قرارًا بمنع دخول مواطني سبع دول إلى الأراضي الأمريكية. وزيرة العدل «سالي يايتس» تُحجم عن الدفاع عن القرار وتصدر تعميمًا بذلك للمدعين العامين. لا وقت لدى ترامب للجدال. ولا صبر له عليه. فيصدر أمره في 30 يناير/كانون الثاني 2017 بإقالتها. ثم بعد ساعات ألحق بها «دانيال راغسديل» مسئول إدارة الهجرة والجمارك.شخصية ترامب تظهر بوضوح في حادثة «مايكل فلين». الرجل لم يحظَ بثقة أوباما. أقاله أوباما من منصب مدير الاستخبارات الدفاعية. لكن جاء ترامب منافحًا عنه بإصرار مُلفت. أصدر قراره بأن يكون مستشاره للأمن القومي. وبعد 22 يومًا فقط، في 13 فبراير/شباط 2017 استقال الرجل أو دُفع للاستقالة.

اقرأ أيضًا:استقالة مايكل فلين: وبدأ رجال ترامب بالسقوط. بعد استقالة «فلين» بدأ موظفو البيت الأبيض يُدركون أن الأمور تُدار بفوضوية. وأن الإقالات التي يُفترض بها أن تنم عن الحسم والصرامة. تُظهر في حالة ترامب التخبط وضعف الإدارة. وأكد ذلك إ قالةُ «أنجيلا ريد» كبيرة فريق المراسم المنزلية. السبب، هو دعمها لـ «هيلاري كلينتون».لم تُكلف المرأة نفسها عناء العمل باحترافية، وإخفاء هواها السياسي. ولم يكلف ترامب نفسه كذلك عناء الظهور بمظهر العاقل المُنفتح على الاختلاف. البيت الأبيض يهدأ من تبعات القرارات السابقة. ترامب ليس من هواة الهدوء. بعد أيام في 9 مايو/آيار 2017 يُقيل «جيمس كومي» مدير الـ«إف بي آي» المُكلف بالتحقيق في قضية التدخل الروسي. كان للقرار تبعات كارثية، ما زالت تتكشف حتى يومنا هذا.

اقرأ أيضًا:8 أسئلة حول إقالة جيمس كومي -مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية.


الصراع الثلاثي: حين قتل «الجوكر» رفاقه

«توم هاردي» مخاطبًا شعب جوثام – من ثلاثية باتمان

ثلاثية أمير الظلام «باتمان» تبدو حاضرة في ذهن ترامب. بدأها بالخطاب الانتخابي الذي اقتبسه كاملًا من أعتى أشرار الثلاثية. وختهما بثلاث إقالات متتابعة، تشبه «الجوكر» حين استخدم أفراد عصابته في قتل بعضهم؛ لينجو هو وحده.الضحية الأولى كان «شون سبايسر». رجل ضحى بمصداقيته لكي يثبت أن الحشود التي حضرت تنصيب ترامب هى الأكبر على الإطلاق. تعرض «سبايسر» لسخرية وسائل الإعلام. وصمد في الدفاع عن الرئيس حتى النهاية. لكن لم تكن السخرية اللاذعة، أو ضياع المصداقية هما سبب استقالته. بل تعيين «أنطوني سكاراموتشي». استقال «سبايسر» في 21 يوليو/تموز 2017، بعد ما يقارب 180 يومًا فقط في الإدارة.إذن، «سكاراموتشي» هو القطرة التي طفح بها كيل «سبايسر». وهو السبب في انتهاء دور «راينس بريبوس» كبير موظفي البيت الأبيض. اتهمه «سكاراموتشي» بالانفصام والهوس. ترامب لا يُدافع. فيستقيل الرجل، في 31 يوليو/تموز 2017 بعد 190 يومًا في الإدارة. كل هذا التأثير، ولم يقض «سكاراموتشي» إلا 10 أيام فقط في الإدارة. تلك مدة كافية في نظر ترامب ليأتي دوره في الثلاثية. يطلب «جوني كيلي» كبير موظفي البيت الأبيض الجديد من ترامب إقالته،فيفعل ترامب.السبب المنطقي الوحيد لفوز ترامب برئاسة الولايات المُتحدة هو «ستيف بانون». الرجل الذي هَندس مواقف ترامب أمام الشعب . وإكمالًا لحضور ثلاثية «باتمان» في حياة ترامب عُرف «بانون» بلقب «أمير الظلام» و«رئيس الظل». قال ترامب إنّه يحبه، وكتب ذلك في تغريدة منفصلة. أقاله ترامب بمنطق شيخ القبيلة الظالم. خلافٌ بين «جاريد كوشنر» صهر ترامب وبين «بانون». يُطالبهما ترامب في تصريح له بأن يحلا المشكلة بينهما وإلا سيفعل هو. طال الأمر، وترامب ليس صبورًا بعادته. في 18 أغسطس/آب 2017 يتدخل لحل الخلاف بإقالة «بانون». ولم يفته أن يناقض نفسه. فصرّح بأن «بانون» لم يدخل الحملة الانتخابية إلا متأخرًا جدًا.


القدس عاصمة فلسطين: موجة الهروب الثانية

لم يكن الهدف من إيراد السابقين هو الإحصاء. هناك العديدون ممن شملتهم الإقالة، أو تقدموا بالاستقالة. لكن حيوية الأسماء التي أوردناها، وتنوعها يؤكدان التخبط الدائر في البيت الأبيض. ويظهر بلا التباس أن ترامب قد لا يمتلك الحنكة السياسية الكافية، لكنه يمتلك العزم الأكيد على المُضي فيما يريد. وأنّه لن يتوقف مهما تعرض لزلازل دبلوماسية، أو ضربات سياسية عنيفة من داخل بيته أوخارجه.تجلى ذلك في قيامه بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل. قرارٌ جَبُن سابقوه عن اتخاذه. ولم يجبن هو. ولا يبدو مباليًا بآثار القرار. لم تتوقف الآثار عند عتبة البيت الأبيض. تخطته نحو الداخل، وقادته «دينا حبيب باول». المصرية التي عملت لأكثر من 15 عامًا في البيت الأبيض. وأصغر مساعد رئيس بعمر 29 عامًا لجورج بوش الابن. وتقلدت العديد من المناصب داخل إمبراطورية «جولدمان ساكس» الاقتصادية.دخلت إدارة ترامب من أجل تنفيذ أجندة ابنته «إيفانكا» بخصوص المرأة، وقضايا المجتمع. ثم في مارس/آذار 2017، أصحبت نائبة لمستشار الأمن القومي «ماكماستر». لتصبح المحطة التي تمر بها غالبية القرارات المُتعلقة بالسياسة الخارجية. وبعدها تصل القرارات إلى وزير الخارجية، أو زير الدفاع، ثم الرئيس. ووصفها ترامب بصاحبة الرؤية فيما يتعلق بالمبادرات الاقتصادية.لكن رؤية دينا قادتها إلى القفز من سفينة ترامب قبل ارتطامها بالجبل الجليدي. أعلنت «سارة ساندرز» المتحدثة باسم ترامب أن دينا كانت تعتزم البقاء سنة واحدة منذ البداية. مطا يعني أن مغادرتها ليس لها علاقة بالقرار الأخير. لكن الواقع يقول إنّها عملت بشغفٍ مع «كوشنر» في عملية السلام. مما يعني أن مغادرتها جاءت اعتراضًا على اغتيال ترامب غير المدروس لـ «عملية السلام».


المصائب لا تأتي فرادى

موجة الهروب الثانية يُتوقع أن تشمل «ريكس تيلرسون». وزير الخارجية الذي أعياه تنظيف ما يُخلف ترامب وصهره من فوضى. ودارت الأحاديث عن احتمالية تولي «مايك بومبيو» مدير المخابرات المركزية، والموالي لترامب. تزداد فرص خروج «تيلرسون» يومًا بعد الآخر. إن لم يكن اعتراضًا على سياسات ترامب؛ فحفظًا لنفسه من اتهامات الخضوع المُذل لإرادة ترامب.

هذه الاتهامات ظلت حبيسة الظنون حتى وثقتها «إليزابيث شاكلفورد». سفيرة الولايات المتحدة لدى كينيا، جنوب السودان، بولندا. في استقالتها المقدمة في 7 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، والتي أُعلن عنها منذ أيام. تحدثت عن حالة من الاستياء العام داخل الوزارة بسبب «قلة الاحترام» التي يواجهونها من قبل إدارة ترامب. وأشارت إلى أن وزارة الخارجية تركت الاضطلاع بمهامها إلى وزارة الدفاع، بناء على طلب من الرئيس الأمريكي.

دعمت كلامها برسالة وجهها إليهم «تيلرسون» في 3 مايو/آيار الماضي، يدعوهم فيها إلى عدم التركيز على حقوق الإنسان، إذا تعارض ذلك مع أولويات وزارة الخارجية. استقالة «شاكلفورد» تمثل ضربة موجعة لوزارة الخارجية. والأكثر وجعًا، حالة الاتفاق العام التي قابل بها معظم موظفي الوزارة رسالتها.

وبإفراغ وزارة الخارجية من أمثال «شاكلفورد» و«تيلرسون»، يختفى آخر ما تبقى من المكابح التي كانت تكبح نسبيًا من جماح ترامب. وآخر من كان يعتمد لغةً دبلوماسيةً خارجية تُعادل من الآثار الحادة لخطاب ترامب السليط. ليظل ترامب مشغولًا بصراعاته مع مراسل «واشنطن بوست» حول إحدى تغريداته، دون اكتراث بالمهام المُملة المرتبطة برئاسة الولايات المُتحدة.

الضربات تتوالى. ولاية «آلاباما» لم تعترف بتمثيل الديمقراطيين لها في مجلس الشيوخ طوال 25 عامًا. والآن، بعد عام واحد من حكم ترامب، وأمام مرشحٍ دعمه ترامب بقوة،اختارت ممثلًا ديمقراطيًا. لم يشفع دعم ترامب لـ «روي مور»، رئيس المحكمة العليا السابق في آلاباما، في تجاوز اتهامات التحرش الجنسي الموجهة ضده. ولا يُكن المواطنون ثقة في ترامب ليختاروا شخصًا يراه الرئيس مناسبًا.

بل على النقيض تمامًا. لقد أضر كلاهما بالآخر. المواطنون حسموا موقفهم مع عدم انتخابه فور دعم ترامب له. وقد ترتد تهم التحرش المُوجهة لـ «مور» على ترامب. والنتيجة أن ولايةً محافظةً في عمق الجنوب الأمريكي اختارت نائبًا ديمقراطيًا، بفارق 20 ألف صوت. وبهذا يقل الجمهوريون المتواجدون في مجلس الشيوخ إلى 51 فقط بعد أن كانوا 52، من أصل إجمالي مائة عضو. وإذا خسر الجمهوريون في معقلهم الأصيل «آلاباما» ، فمن المتوقع أن تتوالى الخسارات، فيقل عدد الـ 51 عضوًا، إلى عددٍ لا يستطيع معه ترامب مجابهة محاولات عزله.


لا إنجازات، ولا استقرار

توم هاردي، ثلاثية باتمان
توم هاردي، ثلاثية باتمان
بالتأكيد كان ناخبو ترامب يطمحون إلى إنجازاتٍ ما رأوها فيه للآن. وكان كارهوه يراهنون على دولة المؤسسات. ويشعرون بالأمان النسبي لقدرتها على كبح ترامب عند الحاجة. لكن ما يحدث يُفاجئ الجميع. فلا إنجازات تُذكر على الصعيد الداخلي أو الخارجي للولايات المُتحدة في سنة ترامب الأولى. ولا يبدو أن هناك ضوءًا ينتظر الأمريكيين في آخر النفق. حتى الفرقة الموسيقية التي آثرت البقاء حتى الآن في السفينة صارت معدومة الحُجة. ولا يصمد أحدهم أمام خصومه طويلًا وهو ينافح عن سياسات ترامب. واقتصر دورهم على رفع أصواتهم الناعمة بأقصى طاقتهم. كي لا يستطيع العالم سماع النشاز المُتكرر الذي يقوله ترامب.كما يشعر المعارضون بخيبة أمل ضخمة. ربما، فرحوا حينًا لأن رأيهم كان صوابًا في ترامب. لكن الفوضى هذا العام أعتى من الفوضى التي أعقبت استقالة «ريتشارد نيكسون». مما يجعلها أشد الفترات فوضوية في تاريخ البيت الأبيض. و«الحرب الأهلية» التي يشهدها البيت الأبيض تؤثر على قراراته الدولية، وصورته الخارجية. وإذا كانت طريقة ترامب تُؤثر على صورة الولايات المُتحدة، فإنّها تؤثر على حياة من خارج الولايات المُتحدة.بدأ الشرق الأوسط يغرق في فوضى مماثلة. صارت التحالفات فيه قصيرة الأجل، مجهولة الهدف، مُتقلبة المزاج. وأضحى اللا منطق، الذي روى ترامب بذرته بين القادة العرب هو التفسير الوحيد المنطقي لما يحدث. تلك أمور لا سبيل لردها، حتى لو تم عزل ترامب في هذه اللحظة فستلقى الإدارة الجديدة صعوبة في احتواء أخطاء ترامب. وسيجد الشرق الأوسط صعوبةً في العودة إلى «ما قبل ترامب». فكيف إذن، والحظ يرفض التخلي عن ترامب. ويبدو ماضيًا في استكمال مدته الرئاسية.