جزيرتان لم يزرهما ولم ينتفع بهما أي مصري سوى البعض من أبناء الطبقة المتوسطة الذين أخذوا رحلة السنوركلينج أثناء قضاء إجازة شتوية في شرم الشيخ، هذا فقط. لماذا إذن يمكن أن يستثار حنق طبقات عريضة من الشعب لقرار التفريط في هاتين الجزيرتين؟، وهل هذا الأمر مجرد زوبعة في فنجان، أم أن له أبعادًا خطيرة وحساسة كما يبدو من الخائضين فيه؟.

ما الجديد؟، دامت الدولة المصرية مفرطة في ثرواتها على مر العصور، خصوصًا في الزمن الراهن، خصوصًا قبيل وبعيد الثورة. وهذا أمر مشروح اقتصاديًّا، فمصر لا تنتج شيئًا، وهي في الوقت ذاته تستهلك الكثير، فكيف تسدّ عجز الموازنة؟، الدعم وحده لا يكفي وقانون بقاء الموارد المادية يحتم ألا تستحدث النقود من العدم، فما السبيل لرواتب العاملين سوى التفريط في بعض الثروات؟، تنازلات لمستثمرين أجانب، واتفاقيات إقليمية تفيد بالتنازل عن بعض الحقوق السيادية، والالتزام بتعليمات أمريكية لتضمن دولتنا العريقة سيل المعونة الدافق. كذلك يمكن أن نضخ الغاز للعدو الإستراتيجي، في سبيل عدة قروش للتر، هذا شيء جيد، ولا مانع في أن نخسر قضايا دولية تضطرنا لضخ المزيد من الغاز. وأيضًا مياه النيل، يمكن التنازل عنها لمجرد أننا مخبولون بعض الشيء، أو أن موقفنا الدولي مشين ومهين ولا يسمح لنا بأن نعترض، فمصر دوليًّا في قفص الاتهام.

ما الجديد إذن في منح التصرف لآل سعود في جزيرتين؟، مصريتان أو غير مصريتين، لا يهم. المهم أنه اتفق لحكومتنا أن وجدت سيادتها قائمة على مورد سياحي وإستراتيجي حسن. فتعرضت الحكومة لضغط ربما من إسرائيل أو أمريكا أو يعلم الله مَن أيضًا، اضطرها للتنازل عن الجزيرتين للمملكة المجاورة، الشقيقة. هذا حسن وتقليدي، لكن إذا أضفت إليه خمسة وعشرين بالمئة من أرباح الجزر، تكتشف فورًا أنها الصفقة الأنجح على الإطلاق. فهذا التنازل قد أحرز بعض العائدات، وهذا أمر فعلًا غير تقليدي ورائع.

حدث واشترينا طائرات معيوبة من الفرنسيين واستثمرنا في تفريعة ظريفة كل ما نملك من المال، وجمعنا كذلك تبرعات هائلة من الفقراء، لم نردها إليهم بعد، وحتى لم نعدهم بردّها أصلا، ولم تنفر نافرة. لماذا إذن، بالتحديد، أحدثت تلك الصفقة غضب الكل؟، التفرد بالحكم غير كافٍ؟، الاختفاء القسري والتعذيب بالسجون أمر غير مثير للغضب والتمرد؟، آلة الإعلام الخاضعة لأجندة الأمن أمر هين مثلا وغير مستفز؟، القصص اليومية التي تفيد بالانحدار العام على كل المعايير لم تجعل أحدهم يبدو ساخطًا كما جعلته قصة بيع قطعة أرض صغيرة لدولة عربية شقيقة.

لماذا يستحق ضباط الجيش عناية خاصة من الدولة؟، لماذا يؤمن الكل في هذا البلد بضرورة زيادة المرتبات ورعاية أسر الضباط؟؛ لأنهم يقاتلون في سبيلنا، في سبيل حماية أراضينا. بصفة دورية يترك الشباب المصري عالمه ليلتحق بالجيش، ليحمي التراب، لتبقى الحدود كما هي بلا مساس. هذه هي الحجة المبدئية التي تنبني عليها نظرية الحكم في مصر، فمن يحكم أصلا مفوض لحماية الحدود، والدماء لما سالت في حروب القرن الماضي سالت في سبيل نقل الأسلاك الشائكة عدة كيلومترات في قلب سيناء. باختصار، إن هذا هو المبرر لوجود الحاكم المصري في سدة الحكم، ودونما تلك العقيدة، ربما سيتقبل الشعب المصري الكثير من الأساليب الحديثة في اختيار الحاكم كالديمقراطية وغيرها، إذا فقط اُعلم البسطاء في هذه البلد أن الحدود لا تستحق كل هذه التضحية، أو أن لها ثمنًا ما يمكن لخليجي ثري أن يدفعه.

وهنا يأتي المحك، كما أسلفنا، عملية التفريط في الثروة ليست جديدةً على دولتنا المصرية، لكن ثمة شيء مختلف هذه المرة هو الذي نقل الدولة إلى حافة الصدام مع الرأي العام المصري؛ إنه الخليج. ما الذي كان سيجري لو تمت عملية البيع تلك لإسرائيل مثلاً، أو لإيطاليا، أو لروسيا في مقابل طائرات حربية؟، لا شيء من وجهة نظر الرأي العام، لا شيء كان سيجري. فالمصريون منسحقون أمام الغرب وأمام قرارات الدول الغربية، وهم متقبلون تمامًا لفكرة أن تتعطل الطرق أيامًا لاستقبال الرئيس الأمريكي في جامعة القاهرة، أما إذا كان الضيف هو خادم الحرمين، فصيحات الانزعاج ستتعالى في جوانب الطريق المعطل، وستندلع نار السخرية من كرش وأرز الملك لتلهب رغبة المصريين في تذكير هذا الثري بجهله وانحطاطه الثقافي أمامهم!.

المصري لا يعي معنى آخر لكلمة وطن سوى مصر. فثمة أنفه رهيبة تسيطر على خيالاته تجعله يزدري سكان الشرق الأوسط بلا استثناء. فهو لا يضحك على نكاتهم ولا يشاهد إعلامهم، ولا يهتز لأي من المصائب النازلة بهم، لأنه أسمى من ذلك بكثير بحسب اعتقاده. هل رأيت مرة المصريين في الشارع يتخاطبون حول الأزمات الصومالية أو علاقات ليبيا بتونس مثلا؟، لا. كل هذه الأحداث التي تدور في بقية أرجاء الوطن العربي، ليست بشاغلة بال المصريين، لأن نزعة المجد المصري ترفع أسهم المصريين أمام بقية العرب. من اإذن من العرب بالتحديد يحصد الرصيد الأكبر من الازدراء والاحتقار؟ الخليج، قطر والسعودية؛ دولتان تملكان النفط والمال، لكنهما عربيتان وليستا غربيتين، تحاول كل منهما بين الحين والآخر أن تواجه التجلال المصري، أو أن تتصدره. سعي قطر باء عليها بكره بالشيطنة واللعنات في كل مرة يذكر فيها اسمها في الأوساط المصرية والسعودية، قد تقبلها المصريون كتابع يمنون عليه بتغيير أستار كعبته، ويحمونه من أعدائه اليهود.

لكن هل أتى اليوم الذي يتقبل فيه المصريون أخيرًا أن تمُنَّ عليهم السعودية؟، اليوم الذي يحجز فيه جلالة الملك غرفة في فندق أحد أقاربه متجنبًا المكوث في قصور الضيافة؟، هل لن يتأرق المصريون لأن السعوديين قد أشفقوا عليهم بعدة مليارات زهاء جزيرتيهم؟، لا. أظن أن هذا الشعب لا زالت لديه من الأنفة والتكبر والعناد ما يجعله يرفض كل المعايير الواقعية التي تشي بانحطاطه بين جيرانه، وأن يظل متمسكًا بصورة نفسه في ريادة الشعب العربي، يؤدي دوره المقدس في حمايتهم والتضحية من أجل أن يظلوا هكذا جاهلين وأقل منه شأنًا بكثير حسبما يعتقد.

برأيي أن الحدود تراب كما يقولون ولا قيمة لها، وهذا رأي الكثيريين كذلك. فنحن نمجد الحرية ولا سواها. لكن خصومنا قد بادروا بازدواجية معاييرهم، فلا أجد بُدًّا من العزف على ذلك الوتر الحساس، الوتر الحاد لدرجة أنه سيفكك أوصال العقيدة الراسخة في كل الأذهان المتعصبة للنظام الحالي. فأنا أشعر بعاطفة شفقة شديدة تجاه ضباط الجيش المصري الأبرار، الذين ضحوا ولا زالوا يضحون في سبيل حماية حدود يبيعها قائدهم بعدة مليارات، هذا جدُّ مؤلم.