تُغنِّي «أوفيليا» كلماتها الأخيرة، بينما تستلقي بين جانبي نهر نقي، تسري حولها المياه وتنمو الزهور بنضارة، فهي على وشك الغرق وإنهاء حياتها، بعد أن دفعتها تصرفات حبيبها الأمير «هاملت» للجنون، فقررت الانتحار في النهر، في أحد أشهر النهايات في تاريخ الأدب العالمي، وأفضل أعمال وليام شكسبير، والتي صوّرها الرسّام الإنجليزي السير «جون إيفرت ميليه»، في لوحته «أوفيليا»، ومنها جاء الملصق الدعائي لفيلم Melancholia، وساهمت في تكوين شخصية البطلة.

في عام 1787 كتب Marquis de Sade رواية شهيرة أطلق عليها «جاستين»، عن امرأة صالحة تجد نفسها في امتحان صعب، وتتحمل معاناة شديدة بعد لمّ الشمل مع شقيقتها، وفي النهاية يصيبها البرق وتموت. أبدى المخرج الدنماركي «لارس فون ترير» إعجابه واهتمامه بالرواية مرات عديدة، واستخدمها كمصدر إلهام لفيلمه المُميز Breaking the Waves، وتظهر بشكل واضح في Melancholia.

زفاف «جاستين»

بعد مقدمة صامتة لما يزيد عن 9 دقائق، تعرض تقريبًا ملخصًا سريعًا لأحداث الفيلم، واقتراب كوكب ضخم من الاصطدام بالأرض وتدميرها، نجد عروسًا جميلة في فستان زفافها تركض في الغابة، بينما تحاول الأشجار تقييد حركتها، والتنكيل بسعيها إلى السعادة في الزفاف، وهو ما يفعله الاكتئاب، وهو بالضبط ما يُصوِّره الفيلم.

«جاستين» شابة شقراء جميلة، صاحبة عيون زرقاء ثاقبة تغلب عليهما لمسة من الحزن، لكنها تفتتح الفيلم مع حبيبها «مايكل»، وهما عروسان لا يكادان يملكان القدرة على كتمان سعادتهما، وتغلب عليهما مشاعر الفرحة بالأخص أثناء وقوعهما في موقف كوميدي، حيث لا يستطيع السائق الخروج بالسيارة من شارع ضيق، قبل الوصول إلى الحفل، فيتناوب الثلاثة على محاولة حل الموقف، حتى يصلوا أخيرًا إلى القصر حيث يُقام الزفاف.

ما زالت الفرحة والنشوة مُسيطرة على العروسين، رغم وصولهما متأخرين بساعتين تقريبًا، انتظر خلالهما الضيوف على أحر من الجمر، لكن العروس «جاستين» تلاحظ نجمًا أحمر في السماء، ينبهر ويُفاجأ زوج شقيقتها أنها لاحظته، بسبب صغر حجمه، لكنه يحاول تخفيف الموقف بوصفه نجمًا عاديًا، رغم أنه في الحقيقة يمثل دمار كوكب الأرض.

بعدها ينخرط العروسان في حفل الزفاف، الخاص بالأقارب والأصدقاء، وحيث يرغب الجميع في إلقاء خطبة مصطنعة، لا تعكس مشاعرهم الحقيقية، وتبدأ سلسلة من محادثات ومواقف بلا أهمية، بالأخص بين عائلة «جاستين»، التي لا تدخر جهدًا في المحافظة على قناع الرزانة والتماسك، أمّا رئيس «جاستين» في العمل، فهو متنمر لا يلقي بالاً لمشاعر الآخرين، ويلقي خطبة تجعل العروس تشعر بعدم الارتياح.

وتستمر الحفلة بين نوبات حزن واكتئاب «جاستين»، ومعاناة منْ حولها لمساعدتها أو فهم سبب حزنها، فتهرب في كل فرصة سانحة لتغادر الحضور، فاقدة السيطرة على نفسها، قائلة عن اكتئابها، وبأداء مميز من الرائعة «كريستين دنست»:

أنا أخوض هذا، وأصلي بحرارة، إنه متشبث بقدمي ويعذبني أن أسحبه معي في كل مكان.

جو مليء بالاكتئاب

ربما لا تقابل فيلمًا يُصوِّر الاكتئاب بصورة أقرب للواقع من هذا الفيلم، فهو يرسم لوحة حزينة لضحايا الاكتئاب، حيث يتلاعب في حركة الكاميرا المهتزة، بدلًا من تصوير بشكل واضح ومستقيم، لكن الصورة دائمة الاهتزاز تصيب المشاهد بالتوتر وعدم الارتياح، خاصةً مع الاقتراب من أوجه الأبطال، والتركيز على ملامحهم.

حتى أن أغلب الوقت لا يظهر الشعر أو الجبهة في الكادر، فقط أوجه متوترة وقلقة، مما يوحي بإحساس الحصار والازدحام، الذي تشعر به وتعاني منه البطلة «جاستين» بالأخص، فهي مُحاطة بأشخاص هم في الأصل من أسباب إصابتها بالاكتئاب، لكنها تشعر بالاختناق منهم وأنهم مُطبقون عليها ويُعيقون حركة تنفسها، لذلك تحاول بأي طريقة تجنب الحفل والهرب.

حتى باقي الشخصيات تشارك «جاستين» نفس القلق والارتياب والتوتر، رغم أن جميع الشخصيات إمّا أقارب أو أصحاب، إلا أن هناك تكلفًا واضحًا وقلقًا في تعاملهم مع بعضهم، حتى زوج «جاستين» وهو يُفاجئها بشراء قطعة أرض كانا قد اتفقا على العيش بها، ويعطيها صورة الأرض بقلق ومشاعر مهزوزة، رغم أنه قد سبق الاتفاق بينهما من قبل، ويحاول تخفيف حدة التوتر بقوله:

خلال 10 أعوام بعد اكتمال نمو الأشجار، يمكنكِ الجلوس تحت ظلها، ولو جاءت أيام تشعرين فيها بالحزن مُجددًا، أعتقد أن ذلك المنظر سيجعلكِ سعيدة.

وعندها تقترب الكاميرا من وجه «جاستين»، لدرجة أن زوجها يخرج من الكادر تمامًا، تبقى هي تحاول رسم ابتسامة تخفي بها مشاعرها الحقيقة، بينما يصر هو على أن تحتفظ بالصورة لتنظر إليها مُجددًا، وتعده بالحفاظ عليها، لكن بعد رحيلها تبقى الصورة في مكانها.

في النصف الثاني من الفيلم، ينتقل التركيز بالتدريج إلى «كلاير» شقيقة «جاستين»، وتنحصر أحداث الفيلم في القصر حيث تعيش الأخت وتزورها «جاستين» مرات عديدة، ونرى الاكتئاب في «كلاير» بعين «جاستين».

يسكن القصر الفسيح «كلاير» وزوجها «جون» وطفلهما «ليو»، والخادم الذي يُطلَق عليه «الأب الصغير»، فيما يعيش حصانان في الإسطبل.

وفي ظل كل هذا، يخرج الكوكب الآخر إلى النور، ويظهر جليًا في الخلفية بعد أشهر من الزفاف. ويواجه الجميع حقيقة أن العالم على وشك الانتهاء، وأنه مع اقتراب الكوكب واصطدامه مع الأرض، ستكون نهاية الحياة والبشر.

رقصة الموت

من فيلم «Melancholia»
من فيلم «Melancholia»

الفكرة الرئيسية للفيلم أن الأبطال مُصابون بالاكتئاب، بسبب اقتراب النهاية واصطدام الكوكب، وأن الكوكب يمثل حادثة مادية تدمر الأرض، لكن في رأيي أن هذا التفسير غير دقيق ولابد أن هناك تفسيرًا آخر لظاهرة الكوكب.

بحكم أن المخرج «لارس فون ترير» معروف بمعاناته من الاكتئاب، والذي له تأثير واضح في كل أعماله، بما فيها هذا الفيلم الذي يعد استكمالاً لثلاثية الاكتئاب الخاصة به مع أفلام: Antichrist، وNymphomaniac 1، وNymphomaniac 2، فلمَ لا يكون الكوكب الأزرق لون الاكتئاب المفضل، هو نفسه اكتئاب الشخصيات، والذي يظهر بشكل مستمر في الخلفية في النصف الثاني من الفيلم، وكأنه يخنق الشخصيات ويُطبِق على صدورهم، حتى يشعروا أنهم محاصرون منه ولا مفر أمامهم؟

في بداية الفيلم مثلًا، «جاستين» وزوجها كانا سعيدين في طريقهما للزفاف، وحتى وصولهما أمام مكان الحفل، كانا محتفظين بالابتسامة والسعادة على وجهيهما، لكن عند ملاحظة «جاستين» للنجم في السماء، تتغير ملامحها وتختفي البهجة، وتسأل بتردد عنه، ومن تلك اللحظة يبدأ الظلام في محاصرتها طوال الحفل، وتظهر عليها أعراض الاكتئاب.

تشعر «جاستين» بالاختناق وسط عائلتها الذين هم في الأساس من أسباب مرضها، ورؤيتها للكوكب كان بمثابة تذكير أنها لن تجد السعادة أبدًا، ومهما حاولت الفرار من مرضها اللعين، ستجده في كل مكان، وأن الراحة الوحيدة في تجنب البشر والوحدة، حينها ينفرد بها الاكتئاب ويُجهِز عليها، كما يفعل دائمًا.

لذلك فهي دائمة التسلل بعيدًا عن الحفل، وتحاول المغادرة طوال الوقت، وعزاؤها الوحيد ابن شقيقتها الطفل، فهي تصر على اصطحابه للسرير، وتنام بجواره حيث تشعر بالأمان والراحة، فهو الوحيد الذي لا يتأثر بالأحداث ووجود الكوكب، لأنه طفل لم يصب بالاكتئاب بعد، وفي حين أن الآخرين في صراعات دائمة، وعلى وشك قتل بعضهم، يكون الطفل نائمًا في سلام.

وفي الفصل الثاني من الفيلم، يعاني الأبطال الثلاثة «جاستين» و«كلاير» و«جون» من الاكتئاب بشكل واضح، مع وجود الكوكب في السماء تحت أعينهم، بينما الطفل أيضًا غير متأثر أو مهتم، رغم أنه واعٍ بالواقعة، فيحاول مشاركة صور على الإنترنت مع خالته، التي لا تستطيع مغادرة السرير، بينما أمه ترتعد من الخوف ووالده مهووس بمراقبة تحركات الكوكب، أمّا الطفل فمن الواضح أنه الناجي الوحيد من الاكتئاب (أي الكوكب).

لذلك فظاهرة رقصة الموت في الفيلم، وهي اصطدام الكوكب بالأرض، يمكن اعتبارها كناية عن الاكتئاب، وتأثيره على حياة المصابين به، ومعاناتهم في الاستمرار وتحمله.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.