خلّف زلزال تركيا عشرات الآلاف من الضحايات، ملايين من المشردين، وآلاف المنازل المهدمة، ودمار لا حصر له حتى الآن. تلك هي الجوانب المعلنة عن الزلزال المزدوج الذي ضرب تركيا وسوريا، لكن من الجوانب غير المعلنة أن الزلزال قد خلط كافة الأوراق السياسية في تركيا، خصوصًا أنه ضربها قبل موعد الانتخابات بثلاثة أشهر.

وقبل أيام قليلة للغاية من الموعد الذي حددته المعارضة للاتفاق على اسم مشترك لتحدي أردوغان؛ قررت المعارضة -المنقسمة على نفسها- في لحظة توافق أن تتحد في 13 فبراير/ شباط 2023 وتُعلن اسمًا واحدًا تناجز به حكم أردوغان القابع في السلطة منذ عشرين عامًا. لكن الزلزال أجّل هذا الاجتماع، كما ألقى بظلال غير محببة على موعد الانتخابات الرسمية في مايو/ آيار 2023.

تتحدث مصادر من المعارضة، ومن الحزب الحاكم، أن أردوغان سوف يقوم بتأجيل الانتخابات، نظرًا لحجم الكارثة التي تعيشها تركيا، التي تتكشف أبعادها يومًا بعد الآخر. ويتضح مع الوقت أنها ستصبح أسوأ كارثة عاشتها تركيا في العصر الحديث. لذا فتأجيل التصويت يبدو أمرًا متوقعًا من الحكومة، وفي الوقت نفسه سيبدو أمرًا مقبولًا ومتفهمًا من قبل المعارضة التي تعيش مأساتها الخاصة كمعارضة، ومأساتها العامة كجزء من النسيج التركي الذي ضربه الزلزال.

تأجيل الانتخابات سلاح ذو حدين. فمن جهة المعارضة فقد بات لديهم المزيد من الوقت للتوصل إلى إجماع حقيقي. رخاصة أنهم يفشلون منذ أكثر من عام في التوافق حول اسم محدد. كما يمكنهم استغلال الغضب العام من الحكومة التركية في أوساط الشعب، وأن يكون الاستغلال حكيمًا كي لا تضعهم الحكومة في خانة من يسعى لتحقيق مكاسب سياسية من الكارثة.

المعارضة منقسمة على نفسها

الشارع التركي غاضب وحزين، لا يعرف لمن يوجه غضبه، وإذا نجحت المعارضة في ترويض هذا الغضب فسيكون سبيلها للسلطة.لكن عليها أولًا أن تحسم قرارها. إذا ما كانت ستساند كليتشدار أوغلو، رئيس الحزب العلماني الرئيسي في تركيا، وهو يبدو الأوفر حظًا في مواجهة أردوغان. أو ما إذا كانت ستأخذ برأي ميرال أكشينار، زعيمة حزب الخير القومي، التي تدعم أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول المعارض.

لكن قد تفرض حالة الحداد العامة التي تكسي البلاد اختيار كليتشدار، فهو الأقدر على خوض حملة انتخابية على نطاق واسع في ظل تلك الحالة. الهامش الزمني المسموح به إجراء الانتخابات ليس كبيرًا بما يكفي، لكنها على الأقل شهور إضافية. فبدلًا من مايو/ آيار سيكون إجراؤها واجبًا في يونيو/ حزيران، هي أقصى مدة يسمح بها الدستور. ولن يكون من الممكن تأجيلها لما هو أبعد من ذلك إلا بتعديل الدستور نفسه.

 ولتعديل الدستور سيحتاج أردوغان غالبية الثلثين في البرلمان، أي قرابة 400 صوت، بينما يمتلك أردوغان، إذا أضفنا حلفاءه في المعارضة، قرابة 335 صوتًا، أي أن الرجل سوف يحتاج دعم المعارضة نفسها في تأجيل الانتخابات لأمد أطول.

لكن المعارضة منقسمة في تلك الجزئية أيضًا، فميرال أكشينار تدفع نحو إجرائها في يونيو/ حزيران بحد أقصى. بينما يميل البعض لتأجيلها أكثر. هذا الانقسام يأتي من انقسام المعارضة نفسها في التعاطي مع الزلزال. أكشينار مثلًا في أيام الزلزال الأولى تجنبت زيارة المناطق المنكوبة تمامًا، وظلت صامتة من دون أي بيان أو تحرك على الأرض.

 بينما كليتشدار آثر التحرك من اللحظات الأولى وظهر في المناطق المتضررة لمواساة السكان. كما ظهر مع زعيم الموالي للأكراد في ديار بكر المتضررة من الزلزال، وتعتبر المنطقة الوحيدة التي لم تصوت لتحالف أردوغان في انتخابات عام 2018.

السياسة أعلى من أنين الضحايا

اعترف أردوغان بأن هناك أوجهًا للقصور في التعامل الحكومي مع الزلزال، ثم أردف أن ما حدث هو قضاء وقدر، وأن الزلزال جزء من مسار القدر. جانب من قصور الاستجابة لا يُلام عليه أحد، لا أردوغان ولا حتى هيئة الإغاثة التابعة لإدارة الكوارث والطوارئ. فبعض فرق الإنقاذ تأخرت في الوصول للمناطق المنكوبة بسبب حالة الطرق التي غير الزلزال من جغرافيتها تمامًا. كما علق عديد من عمال الإغاثة في مناطق متعددة بسبب الزلزال، فتعثر وصولهم لمقار عملهم للانطلاق منه إلى المناطق المنكوبة.

القصور الذي يلومه غالبية الشعب على أردوغان هو اختياره عدم اللجوء للجيش. ففي جميع أنحاء العالم تُعد القوات المسلحة هي المؤسسة الأقوى تنظيمًا والأكثر قدرة لوجيستية على مواجهة تلك الكوارث بسبب كثرة الموارد التي تمتلكها. لكن في تركيا لعبت إدارة الطوارئ التركية هذا الدور بفريق عمل يصل إلى 15 ألف فرد، تساعدهم منظمات مدنية أهلية بقرابة 3000 متطوع.

لكن كان الجيش التركي خارج الخطة تمامًا، كما لا يمكنه التحرك أو التطوع بالمشاركة إلا بعد أمر مباشر من أردوغان. واعترف أردوغان أن جهود البحث والإنقاذ لا تسير بالسرعة المطلوبة، رغم أن تركيا تمتلك أكبر فريق بحث وإنقاذ حتى الآن.

هذا الاعتراف تلقفته المعارضة وبدأت في البناء عليه. فالمعارضة وجهت انتقادات واضحة لأردوغان أنه بعد 20 عامًا في السلطة لم يجعل تركيا قادرة على مواجهة الزلازل. كما أن مخالفات البناء التي تنكشف تباعًا تثبت غياب المراقبة الحكومية على قواعد البناء التي أقرتها الدولة سابقًا نظرًا لعلم الجميع أن تركيا تقع على صدع زلزالي نشط. خصوصًا أن الدولة تجمع ضرائب منذ عام 1999 تحت مُسمى ضرائب تضامنية ضد الزلازل، ومن المفترض أن تُستخدم الضريبة في جعل المباني التركية أكثر مقاومة للزلازل.

قرابة 5 مليارات دولار أمريكي دخلت خزينة الدولة من تلك الضريبة عبر شركات الهواتف المحمولة والمحطات الإذاعية فحسب. وأقرت الدولة زيادة 10% على تلك الضريبة منذ عامين دون توضيح أوجه إنفاقها.

صعد بزلزال وقد يسقط به

الجانب الآخر الذي يمكن أخذه ضد الحكومة التركية هو قرارها بالتصالح مع مخالفي قواعد البناء. فالحكومة قررت إلغاء قرارها بهدم تلك المنازل والإبقاء عليها في مقابل غرامة مالية يدفعها صاحب المبنى المخالف. هذا القرار لاقى انتقادات واسعة أثناء إقراره، وقال متخصصون، إنه يحول المنازل التركية إلى مقابر متراصة. ونتيجة لهذا القرار أبقت الدولة على 6 ملايين مبنى مخالف لقواعد الوقاية من الزلازل.

أردوغان من جهته انتقد المعارضة بسبب حديثها عن الاستجابة للزلزال، في وقت لا يزال فيه الآلاف عالقين تحت الأنقاض. خصوصًا أن المعارضة تُلمح إلى أن المناطق التي تدعم حزب العدالة والتنمية تلقت دعمًا إضافيًا واهتمامًا أكبر في توزيع فرق الإنقاذ ورفع الأنقاض. بينما تباطأت الحكومة عن إسعاف المناطق المنكوبة التابعة للمعارضة. وهو اتهام يرفضه أردوغان جملةً وتفصيلًا. لكن عادت المعارضة إلى رمي الكرة في ملعب الحكومة بسبب فرض الحكومة قيودًا على وسائل التواصل الاجتماعي. ما سوّقت المعارضة له باعتباره محاولة منها لحجب تقصيرها وقمع أصوات الأنين.

الأصوات التي بدأت ترتفع في الساعات الماضية هي أصوات الفقهاء الدستوريين الذين بدأوا سجالًا حول إمكانية تأجيل الانتخابات لمدة عام آخر. اختلافًا حول تفسير المادة 78 من الدستور التي تنص على أنه في حالة كانت الانتخابات مستحيلة فيمكن للبرلمان اتخاذ قرار إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية لمدة عام كامل. لكن تحقق شرط الاستحالة يخضع لرأي البرلمان، وتقييمه هل يعني تضرر 10 ولايات مهمة، تمثل 15% من سكان تركيا، وبها 13 مليون ناخب، سببًا كافيًا لاستحالة إجراء الانتخابات أم لا.

لكن يجب ألا ينسى أردوغان أن صعوده للسلطة كان بسبب زلزال مشابه. فقد كانت كارثة زلزال تركيا عام 1999 نقطة تحول مفصلية في نظرة الأفراد للدولة القائمة. فقد شعر الكثيرون بخيبة الأمل في الدولة العلمانية القومية بسبب بطء جهود الإنقاد، وانهيار الدولة كأنها منازل من ورق. فتدمرت السيطرة الأيديولوجية للدولة على المجتمع. فهل تشهد سيطرة أردوغان الممتدة لعشرين عامًا هذا الانهيار، أم تُبعث من تحت الأنقاض الحالية أقوى وأجرأ، هذا ما ستكشفه الأيام المقبلة.