يقول اللغوي الإنجليزي ديريك بيكرتون في كتابه «اللغة وسلوك الإنسان»:

«إن الناس حين يكتبون عن اللغة دون إلمام باللسانيات الحديثة هم أشبه بمن يقف على قمة جبل عالٍ وينظر إلى السهول الممتدة في الأسفل فلا يرى سوى صورة مبهمة ضبابية، فلا يميّز التفاصيل ولا التعقيدات التي ينبغي علينا نحن معشر اللسانيين التعامل معها في أعمالنا اليومية».

فنحن في هذه المقالة سنحاول أن نصحب السيد بيكرتون، وننزل من ذلك الجبل العالي لندعه يعرّفنا على تلك التفاصيل والتعقيدات الممتدة في سهول اللغة.


اللغة والتواصل

يرى بيكرتون أن هنالك خلطًا بين اللغة وعملية التواصل، على أساسه تم اعتبار كل ما يؤدي «وظيفة التواصل» لغة، نتج عن ذلك سوء فهمٍ لدور اللغة في حياة الإنسان. يتمثل سوء الفهم هذا في جانبين؛ الأول هو الخلط بين الشيء واستعماله، فالسيارة مثلًا ليست هي القيادة ولا المقص هو عملية القص، ولأن اللغة في مستوى عالٍ من التجريد تزداد حدّة الخلط، فيتم اعتبار «نظم التواصل الحيوانية» لغة ولكنها في الحقيقة نُظم تمثيل تشبه اللغة من حيث استعمالها في التواصل. والجانب الثاني لسوء الفهم ينكشف عندما ندرك أن

«نظم التواصل الحيوانية» مختلفة عن اللغة الإنسانية في أنها (محصورة) في وظيفة التواصل، أما اللغة الإنسانية فلها قدرات أخرى متعددة مثل (الإدراك، ترابط الأفكار، تخزين المعلومات).

فاشتراك اللغة الإنسانية ونظم التواصل الحيوانية في خاصية «التعبير» لا يجعلهما من نفس الفئة، فهما مختلفان في وظيفة التواصل نفسها، فمثلاً «لغة الإيماء» أو لغة الجسد يمكنها أن تعبّر عن اهتمامك أو عدم اهتمامك بشخص ما، ويمكنها أيضًا أن تُظهر غضبك من هذا الشخص، ولكنها – أي لغة الإيماء – لا تستطيع أن تعبّر عن دخلك السنوي واهتماماتك الفنية ورؤيتك الفلسفية للوجود!.

فأشكال التعبير الحركية يمكنها أن تعبّر عن حالات أو مشاعر معينة، لكنها لا تنقل معلومات حقيقية عن سمات العالم الموضوعية، فما يسمى «لغة الحيوان» يشبه «لغة الإيماء» بشكل كبير جدًا، فهي تعبير عما يريده الحيوان وليس عما يعرفه. ولكن يمكن القول إن «صيحات الإنذار» التي يطلقها الحيوان عند رؤيته لوحش مفترس تبدو وكأنها تنقل معلومات حقيقية عن العالم، فصيحة الإنذار قد تعني «ها هو وحش مفترس قادم نحونا». ولكن ههنا مشكلة، فما هي؟.

تكمن المشكلة في «تفسير» تلك الصيحات التحذيرية، فهناك فرق بين معنى يُدرك بالتخمين ومعنى هو مقصود بالفعل، ولتوضيح الأمر انظر لاستعمال كلمة «تعني» في جملة: «السحابة (تعني) المطر»، وجملة: «اخرج من هنا (تعني) اغرب عن وجهي».

في الجملة الثانية أنت تريد من شخص ما أن يخرج بالفعل، وتريده أن يعرف أنك «تريد» هذا؛ ولكن السحابة لا تريد أن تُمطر، ولا تريد أن يعرف أحدًا أنها تريد أن تمطر، فالسحابة تعني لمن يراقبها فقط، لذلك يقول بيكرتون:

«إنه من الخطأ الاعتقاد بأن صيحة الإنذار تعني فعلًا (بالمعنى البشري) أن هناك وحشًا يقترب مني، ولكنها قد تعني أنني أحس بالخطر بسبب وجود وحش مفترس يقترب مني».

فصيحة الإنذار هي تعبير عن حالةٍ راهنة، فالتفسير الأفضل لتلك الصيحات يندرج تحت (ما أشعر به وما أريده) وليس تحت ما أعرفه، فهي تعبيرٌ عن حالةٍ خاصة ووضع يمثل حالة المرسل الآن، وقد تكون محاولة منه للتأثير في المستقبل بالاستجابة المناسبة. لكن اللغة البشرية لا تقف عند حد التعبير عن حالة الفرد ومشاعره أو رغبته في التأثير في الآخرين، فهي تنقل كمًا لا نهائي من المعلومات.

الكلام السابق يبدو كتعميم على نظم التواصل الحيوانية، ولكن يظهر لنا استثناء في «نظم تواصل النحل»، ولكي نوضح الأمر لابد أن نتعرض سريعًا لسمة أساسية من سمات اللغة الإنسانية، وهي خاصية الإزاحة Displacement والتي تعني قدرة البشر على التحدث عن أشياء ليست موجودة في محيطهم وتبعد عنهم آلاف الأميال، وقد تكون غير ملموسة وغير مرئية، فتَمتعنا بتلك الخاصية هو الذي يمكننا من التحدث عن أفعال حدثت في الماضي أو ستحدث في المستقبل.


ماذا عن النحل؟

قضى عالم السلوك الحيواني فون فريش جزءًا كبيرًا من مشواره البحثي في دراسة سلوك النحل، وإحصاء تفاصيل حركته، محاولًا فهم طرق تواصله، وكان من المثير في عمل فريش أن النحلة مثلًا قادرة على أن تُبلّغ زملائها بوجود رحيق يبعد عنها مسافة 13 كيلو متر -وهي مسافة كبيرة جدًا- ولكل مسافة تريد النحلة الإبلاغ عنها؛ رقصة معينة تحدد اتجاه مصدر الغذاء وبُعد المسافة وقوة الرياح، وهو ما يشير إلى امتلاك النحل لخاصية الإزاحة المميزة.

ولكن تجربة أخرى قام بها فريش بيّنت شيئًا مهمًا؛ قام فريش بتثبيت خلية نحل على قاعدة إسمنتية يصعد منها عمود للأعلى، وأخد عشرات النحل وأوصلهم لمصدر الغذاء على ارتفاع 50 مترًا، وبعد أن اكتشف النحل مصدر الغذاء، عاد ليحاول إبلاغ باقي الخلية بمكان الغذاء. ولكنّ النحل طار في كل الاتجاهات الأفقية ولم يقدر على الوصول للغذاء لمدة أربع ساعات، واستنتج فريش من هذا عدم وجود مفهوم (أعلى وأسفل) (فوق وتحت) في لغة النحل!.

يعلق بيكرتون، بأن اللغة بطبعها لا تعرف حدود الزمان والمكان، وأن الحيوانات في مستوى أول من «قدرة التعبير عن القصد»، وبحسب دينيت دينيت الفيلسوف الأمريكي فالحيوانات لها حالات ذهنية، ولكنها لا تستطيع تخمين الحالات الذهنية لدى الحيوانات الآخرى، أمّا الإنسان فقادر على قول أشياء تشبه هذه الجملة:

«أريد فلانًا أن يظن أنني أريده أن يصعد الشجرة، ولأنه مشاكس فإنه لن يفعل، إذا ظن أنني أريده أن يصعد الشجرة، وهذا ما أريده!».

فمن حيث كمية المعلومات وتعقيدها فلا مجال للمنافسة بين اللغة الإنسانية ونظم تواصل الحيوان، والأمر ليس تفوقًا عدديًا فقط، فاللغة الإنسانية نظام مفتوح، أما النظم الأخرى فمغلقة؛ بمعنى أنه بغض النظر عن عدد الأشياء التي يمكن أن نعبر عنها فبإمكاننا دومًا إضافة المزيد والمزيد، بما لا يقارن مع الإضافات التي قد تَحدث في نظم التواصل الأخرى والتي تكون في العادة قليلة جدًا وتستغرق وقتًا طويلا، لذلك يقول بيكرتون:

«إن قدرتنا المطلقة على إضافة ما نشاء إلى لائحة موضوعاتنا، وعجز المخلوقات الأخرى في هذا المجال تدل على اختلاف في النوع ليس في الكم فقط».


دور الرمزية في التواصل

أليست اللغة الإنسانية تشترك مع باقي نظم التواصل في استخدامها للرموز لنقل المعاني؟، فلماذا نعتقد أنهما ليستا من نفس الفئة؟.

يجيب بيكرتون إننا نجد فروقًا كمية ونوعية، فلغة الحيوان تستعمل رموزًا «أيقونية»؛ بمعنى أن العلاقة بين شكل ومضمون الرسالة علاقة مباشرة وشفافة، فمثلًا (خفض البصر أو طأطاة الرأس) حركة تدل مباشرة على الخضوع. أما (نفخ الجسم أو نفش الريش) فهو علامة على العدوانية ورغبة السيطرة، ولا نجد علاقة عكسية بين حالة الحيوان وتمثيلها؛ كأن يكون خفض البصر علامة على السيطرة، ويكون نفش الريش علامة على الخضوع، وحتى في الأصوات والصيحات فلا توجد تلك العلاقة العكسية.

والرموز الحيوانية ليست أيقونية فقط، لكنها أيضًا (متدرجة)، فطول الصيحة وحدّتها وشدّتها يختلف باختلاف درجة العاطفة والحالة المُعبّر عنها، فمثلاً سرعة الرقصة لدى النحل تختلف باختلاف موقع الغذاء ووفرته، وتغريد الطائر الذي يدافع عن عشّه يتنوع في حدّته واستمراره من حالة لحالة.

إذن الرموز الحيوانية أيقونية ومتدرجة، وهي أيضًا لا تقبل الدمج لتشكيل معان إضافية، وهذا على النقيض من اللغة الإنسانية التي تندمج فيها الوحدات اللغوية مع عدد كبير جدًا من الوحدات الأخرى مُشكّلة معاني لا حصر لها.

الرموز الحيوانية رموز مميزة خاصة، لا ترتبط مع بعضها بعلاقات منتظمة، فليس فيها إيماءات عليا أو صيحات عليا تعبر عن معنى شامل وأخرى تعبر عن معان تفصيلية، فليس هنالك مثلا صيحة عامة للـ «غضب» تندرج تحتها مجموعة أخرى من الصيحات لتعبر عن الغضب من أحد أفراد الجنس، ومجموعة صيحات أخرى للغضب من أفراد العائلة، وهكذا.


الرمز الإنساني

هنالك إجماع بين اللغويين على أن التمثيل الأيقوني في اللغة البشرية هو مكوّن هامشي منها، فصفة العشوائية هي الطاغية على الرموز اللغوية البشرية، فليس هناك علاقة بين كلمة كلب العربية و dog الإنجليزية و perro الأسبانية، فأصوات هذه الكلمات لا يوجد فيها ما يدل على الحيوان نفسه، وحتى الكلمات المُستمدة من محاكاة للأصوات الطبيعية تختلف من لغة لأخرى، فصياح الديكة في الإنجليزية (كوك-أدول-دو) وفي الإسبانية (كوكوريكو).

وفي اللغة الإنسانية يمكننا الجمع بين رموز متعددة لتكوين معان هي حصيلة المعاني المنفردة، ويمكننا أيضًا جمع رموز مختلفة يكون المعنى الناتج منها ليس هو حصيلة المعاني المجتمعة:

– فالحالة الأولى مثل كلمة «معلمون» فهي حصيلة رمز مفرد وهو «معلم» بالإضافة لعلامة الجمع «ون».

– والحالة التانية مثل جملة «بيت القصيد» والتي المعنى الناتج منها يختلف عن حاصل جمع معاني الكلمات المفردة.

«فعند جمع الكلمات تتشكل لدينا احتمالات لا حصر لها دلاليًا ونحويًا».

وبين الرموز اللغوية الإنسانية علاقات تربط بين مجموعات فرعية منها ومجموعات عليا، فمثلاً كلمة «مصري» تنتمي لمجموعة عليا؛ بها كلمات مثل (إنجليزي – فرنسي – هندي) ويمكن تحليل كلمة «مصري» إلى قائمة أضيق من العناصر مثل (قاهري – سكندري – منوفي)، هذه الميزة تستمد أهميتها من الدور الذي تلعبه اللغة في حياتنا كنظام تمثيل، يقول بيكرتون:

«وأقصد بهذا أنها -أي اللغة- صورة منظمة عن العالم ومرتبة بحيث يمكننا تحديد عناصر المعلومات فيها بسرعة ويسر، فالصورة التي تجزئ مفهومنا عن الواقع إلى أجزاء مسماة وقابلة للاستفادة الفورية هي التي تجعلنا قادرين عن الحديث عن العالم».


خاتمة

نُدرك مما سبق أن العقيدة التي تقول بإن اللغة هي وسيلة تواصل وتصمت، تقودنا إلى فهم خاطئ لكيفية عمل اللغة، وللدور الذي تلعبه اللغة في حياتنا، فرموزنا اللغوية ليست أيقونية ولا متدرجة، ونستطيع من خلال الجمع بينها تكوين ونقل وتصنيف معلومات لانهائية. صحيح أننا قادرون على تكوين بعض الأفكار والأحاسيس بدون لغة، ولكن هناك أفكارًا لا حصر لها لا يمكن أن توجد بدون لغة.

فلغتنا نظامٌ تمثيلي يمكننا من تكوين صورة منظمة عن العالم، فهي تؤثر في تفكيرنا وعملياتنا الذهنية، ونستطيع من خلالها أن نقبض على العالم لنجعله في حوزة العقل!.

المراجع
  1. 1. اللغة وسلوك الإنسان، ديريك بيكرتون،ت: د. محمد زياد.
  2. 2. أضواء على الدراسات اللغوية المعاصرة، نايف خرما.
  3. 3. تاريخ علم اللغة الحديث، جرهارد هلبش، ترجمة وتعليق: د. سعيد حسن بحيري.