قتل خاشقجي أمر مؤسف لكننا بحاجة ماسة للمال.
رئيس الوزراء الباكستاني «عمران خان»

في حفاوة يكاد يحسده عليها قادة أكبر دول العالم، لقي ولي العهد السعودي، «محمد بن سلمان»، استقبالًا أسطوريًا خلال زيارته الأخيرة إلى إسلام أباد، وصلت إلى حد تعطيل المصالح الحكومية واعتبار اليوم أجازة رسمية من أجل إخلاء الشوارع أمام موكبه، وإعادة برمجة الرحلات الجوية في عموم البلاد، وإلغاء كامل حجوزات اثنين من أضخم وأفخم فنادق البلاد وتخصيصهما لخدمة حاشية الأمير.

بل كاد مندوبو الحكومة أن يفرغوا أسواق عدد من المدن الكبرى من طائر الحمَام، بعدما اشتروا الآلاف منه بغية إطلاقه أمام ابن سلمان كمظهر احتفالي! وغيرها من مظاهر الحفاوة التي شملت تولي رئيس الوزراء بنفسه قيادة السيارة التي أقلت الأمير من المطار إلى مكان استقباله.

اللافت أن هذه لم تكن الزيارة الأولى للرجل بل سبقتها ثلاث زيارات لم تحظَ بهذا الاهتمام الذي حظيت به تلك المرة، والتي صُنِّفت بأنها زيارة «VVIP‌»، وتعني «شخص فائق الأهمية». أثارت الزيارة جدلًا في الأوساط الإعلامية الباكستانية بسبب مظاهر البذخ والترف المبالغ فيها وضخامة الحاشية المرافقة للأمير، إذ يرافق ابن سلمان عشرات المسؤولين التنفيذيين في شركة النفط السعودية، أرامكو، وأكثر من 100 رجل أعمال، في زيارة قال عنها وزير الإعلامي الباكستاني فؤاد تشودري إنها تضم أكبر وفد على الإطلاق يزور باكستان.


المصالح تتصالح

يكمن السر في هذا الاهتمام الكبير بالزيارة إلى كون الزائر السعودي جاء هذه المرة حاملًا معه كميات هائلة من النقود، يضخها في الاقتصاد الباكستاني المنهك والمهدد بالإفلاس، في عملية تشبه إعطاء حقنة في الوريد لإنقاذ حياة مريض أشرف على الهلاك.

فقد وقّع الأمير حزمة قياسية من الاستثمارات بقيمة 20 مليار دولار، تتضمن مصفاة ومنشأة نفطية بقيمة 10 مليارات دولار في ميناء جوادر الإستراتيجي على بحر العرب، وهي استثمارات وصفها رئيس الوزراء الباكستاني بأنها «الأكبر في تاريخ باكستان».

ولعل هذا الدعم السعودي السخي هو السر أيضًا في تحول تصنيف رئيس الوزراء، عمران خان، الذي كان من أشد المناهضين لسياسة السعودية خاصةً في حربها على اليمن، وكان يعارض بشدة التعاون الباكستاني مع الرياض،ووصفه من قبل السعوديين عقب فوزه بالانتخابات في يوليو/ تموز الماضي بأنه «ذنب من أذناب طهران»، و«مندوب قم في إسلام آباد»، فقد أعلن منذ اللحظات الأولى لحكمه عن رغبته في تعزيز العلاقات مع إيران.

لكن الوضع الاقتصادي المتدهور الذي واجهه خان بعد توليه زمام الحكم، والذي وصفه في أول خطاب له كرئيس للحكومة بأنه موقف «باكستان لم تواجه قط في تاريخها موقفًا صعبًا مثله» بسبب وصول معدل العجز إلى 6.6 في المئة من الناتج المحلي، جعل الرجل يولي وجهه شطر بلاد الحرمين طالبًا الغوث لتجاوز تلك الأزمة الخانقة.

فقد عولت إسلام أباد على الحصول على 30 مليار دولار من دول الخليج لتجاوز الأزمة، قدم السعوديون وحدهم اليوم ثلثي هذا المبلغ، مما جعل مضيفيهم في حالة فرحة لا توصف، كما تعهدت الإمارات بتقديم ستة مليارات بحسب صحيفة وول ستريت جورنال.

وبالنسبة لابن سلمان، تأتي هذه الزيارة لتخترق حالة العزلة التي سعت أطراف دولية لفرضها عليه في أعقاب مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، فمنذ تلك الحادثة لم يذهب الأمير لأي زيارات خارجية باستثناء جولة عربية قصيرة تلقى خلالها عددًا من الاعتراضات. ففضل الأمير السعودي أن يتوجه شرقًا – إذ تشمل جولته الحالية الصين والهند أيضًا – فهناك لن يسأله أحد عن حقوق المرأة أو يعيد فتح ملف خاشقجي، كما هو المتوقع حال كانت تلك الزيارات إلى دول أوروبية مثلاً، ففي آسيا لا حديث يطغى على حديث المال والاقتصاد.

فإبان إثارة قضية خاشقجي في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، بالتزامن مع عقد مؤتمر الاستثمار في الرياض المعروف بـ «دافوس الصحراء»، كانت باكستان من أوائل الدول المشاركة في المؤتمر متجاهلة دعوات المقاطعة العالمية، وحينها أدلى خان بتصريحه الشهير: «قتل خاشقجي أمر مؤسف لكننا بحاجة ماسة للمال».

وتعد المملكة العربية السعودية أكبر مصدّر للنفط لباكستان، وسوق رئيسي لمنتجاتها، وهي تستضيف أكثر من 2 مليون من مواطنيها مما يجعلها المصدر الرئيسي لتحويلات الباكستانيين في الخارج من العملة الصعبة. ولا تعد المليارات السعودية منحة بلا مقابل لباكستان، بل إن حاجة الرياض لتلك الاستثمارات تنبع من كونها جزءًا من خطة طويلة الأجل لتنويع الاقتصاد وتقليص الاعتماد على صادرات النفط الخام، وكذلك من حاجتها إلى اصطناع حلفاء موثوقين.

فإسلام أباد تمتلك أحد أقوى الجيوش في العالم، وهي الدول الإسلامية الوحيدة التي تمتلك أسلحة نووية متطورة، وهنالك علاقات عسكرية ممتدة بين البلدين، فالرياض تمول، وباكستان تقدم التعهدات المستمرة بوضع قدراتها الدفاعية الضخمة في حماية المملكة، كما حدث من قبل في حرب الخليج الثانية، حين استعانت السعودية بحوالي 20 ألف عسكري باكستاني لتأمينها.


إيران وقطر في الخلفية

وتأتي زيارة الأمير السعودي في وقت حساس بالنسبة لإسلام أباد، إذ تلقت في نفس يوم الزيارة تهديدات عنيفة من الجارة إيران، التي تنظر بتوجس شديد إلى هذه العلاقة، ووضعت الدولتين على لائحة اتهام واحدة، بعد الهجوم الانتحاري الذي نفذه عناصر المقاومة البلوشية، الأربعاء الماضي، وراح ضحيته العشرات من قوات الحرس الثوري، وتعهد الإيرانيون بالانتقام من باكستان والسعودية، لاتهامهما بدعم تلك الجماعات السنية المسلحة.

وتحرص الرياض بشكل مستمر على دعم باكستان في مواجهة الضغوط والمحاولات الإيرانية لاجتذابها إلى صفها، ويبدو التوقيت مواتيًا للسعوديين في ظل عقوبات دولية تكبل أيدي نظام الملالي وتوهن من قوة تأثيره.

كما تمثل الزيارة فرصة للرياض لمنافسة الدور القطري في ملف المصالحة في أفغانستان، فعن طريق باكستان تستطيع السعودية التأثير في الملف ومزاحمة الدوحة التي احتكرت مفاوضات حركة طالبان مع الأمريكيين، طيلة الفترة الماضية،فبحسب التقارير الإعلامية الغربية سيلتقي ولي العهد السعودي بممثلين من حركة طالبان في إسلام أباد، لكن حتى الآن لم يصدر أي إعلان رسمي من أي من الطرفين.

فبقدر ما تعلق إسلام أباد آمالها على المال السعودي في انتشالها من أزماتها الراهنة، ترى الرياض في هذا التعاون فرصًا ذهبية لتحقيق تطلعاتها في عدد من الملفات الصعبة، وترى في باكستان دولة لديها كل مقومات القوة إلا المال.