فلسطين جزء لا يتجزأ من سوريا.
الملك فيصل الأول في رسالة إلى الجنرال إدموند ألنبي 1919

هكذا كان الأمر في الماضي بالفعل، قبل الاحتلال البريطاني لفلسطين، وقبل قيام إسرائيل على أنقاض الأراضي الفلسطينية المحتلة، وقبل تبلور الشخصية الوطنية الفلسطينية. كانت فلسطين جزءًا من الإقليم التاريخي المعروف باسم (سوريا الكبرى)، وسوريا الكبرى لم تكن وحدة سياسية مستقلة قائمة بذاتها، وإنما كانت تقسيمًا جغرافيًا قديمًا يضم الدول المعروفة اليوم بأسماء سوريا ولبنان وفلسطين وبرية الأردن (أو شرق الأردن) في إطار الخلافات الإسلامية المتعاقبة، لكن شأن السياسة لم يكن يعني الكثير لدى أهالي الإقليم، فالبداهة بالنسبة إليهم كانت أنهم أبناء جلدة واحدة على اختلاف العشائر.

في العصر الحديث ومع الميلاد المبكر للقضية الفلسطينية عبر سنوات النصف الأول من القرن العشرين، ولاحقًا مع بداية المأساة الفلسطينية عمليًا على الأرض منذ قيام إسرائيل، ألقى التاريخ بظلاله على كيمياء العلاقات السورية الفلسطينية، وكان أن تزامن صعود حزب البعث في سوريا مع انطلاق العمل الفدائي الفلسطيني المسلح في منتصف الستينيات، لتشكل العلاقات المبكرة بين الطرفين بداية فصل شديد الثراء بتفاصيله في مشوار الكفاح التحرري الفلسطيني.


صعود البعث

في الفترة بين انفصال الجمهورية العربية المتحدة في سبتمبر/أيلول 1961 والانقلاب البعثي الأول في مارس 1963، كانت القيادة السورية تسعى بطبيعة الحال لإبراز تميزها عن نظام الوحدة وقيادته في مصر، وفي سبيل هذا التمايز ولاعتبارات تتعلق بتأسيس قاعدة شعبية محلية وإقليمية، لجأت قيادة الانفصال إلى تبني الحركة الفدائية الفلسطينية المسلحة وحركة فتح الوليدة، التي كانت تبحث عن قاعدة ارتكاز بالقرب من الأراضي المحتلة عام 1948 في مرحلة الإعداد للكفاح المسلح.

كان اعتقال رسالة موجهة له ولفتح ولسائر التنظيمات الفدائية، مفادها أن من أراد التنسيق مع القيادة السورية فعليه المرور عبر بوابة اللواء الأسد دون سواه.

وفي عام 1961 شكّل عدد من الضباط الفلسطينيين بالجيش السوري (منهم الملازم أول أحمد جبريل) جبهة التحرير الفلسطينية، وفي العام التالي انتقلت قيادة فتح الموزعة بين عدة أقطار عربية لتصبح سوريا مرتكزها الرئيسي.

بعد الانقلاب البعثي الأول في 8 مارس/آذار 1963، كانت القيادة البعثية القومية بتوجيه من اللجنة العسكرية لحزب البعث (الهيئة الحاكمة الحقيقية في البلاد) وعلى رأسها اللواء محمد عمران ورجل البعث القوي اللواء صلاح جديد تتبنى فكرة حرب التحرير الشعبية طويلة الأمد لتحرير فلسطين، ومن ثم استمرت القيادة البعثية الجديدة في تبني الحركة الفدائية الفلسطينية.

وفي مايو/آيار 1963 توجه وفد رسمي من حركة فتح للقاء القيادة العسكرية السورية، وفي لقاء لاحق بين ياسر عرفات زعيم فتح واللواء أحمد سويداني رئيس الأركان السوري، اتُفق على منح تسهيلات لمقاتلي فتح تشمل تأسيس معسكرات لهم وتولي ضباط من الجيش السوري تدريبهم على العمليات الفدائية، والتحق بفتح عدد من الكوادر العسكرية الفلسطينية في الجيش السوري أغلبهم من كتيبة الاستطلاع 68.


الاحتكاكات الأولى

في يناير/كانون الثاني 1964، كان عرفات يتولى نقل شحنة من المتفجرات من لبنان إلى الأردن عبر الأراضي السورية، في إطار الإعداد لانطلاق العمل الفدائي المسلح ضد العدو الإسرائيلي، وفي الطريق استوقفت وحدة تابعة للشعبة الثانية (الاستخبارات العسكرية السورية) سيارة عرفات وفتشتها لتعثر على المتفجرات بداخلها، أخبر ضابط الوحدة عرفات أن أمرًا باعتقاله قد صدر من العقيد محمد أوركي رئيس شعبة فلسطين بالاستخبارات العسكرية السورية، بتهمة التخطيط لعمليات تخريبية في سوريا.

لم يكن عرفات إذ ذاك يتحرك مستخفيًا عن السلطات البعثية السورية، وإنما كانت جميع تحركاته تتم بعلم وتنسيق كامل معها، ممثلة في رئيس الأركان اللواء سويداني، ولاحقًا تبين أن المصدر الحقيقي لأمر اعتقال عرفات هو اللواء حافظ علي سليمان أحمد إبراهيم، المعروف باسم حافظ الأسد، قائد القوات الجوية والدفاع الجوي الذي كان يتمتع بنفوذ واسع داخل الجيش السوري، وبخاصة أفرع الاستخبارات فيه، ولم يكن اعتقال عرفات سوى رسالة موجهة له ولتنظيم فتح وسائر التنظيمات الفدائية التي كانت لا تزال في طور التشكل، مفادها أن من أراد التنسيق مع القيادة السورية فعليه المرور عبر بوابة اللواء الأسد دون سواه، المهم أن عرفات قد أُفرج عنه بعد ساعات وقد وصلته الرسالة.

شكل هذا الحادث بداية خصومة لديدة بين الرجلين – عرفات والأسد – تصاعدت مع ترفيع الرجلين، عرفات في منظمة التحرير والأسد في سلك القيادة السورية وزيرًا للدفاع ثم رئيسًا للجمهورية، لتشكل مظلة سوداء ناور كل منهما الآخر تحتها، مناورة استمرت لعقود ثلاثة كاملة وكان عنوانها الرئيسي سعي الأسد للإمساك بالورقة الفلسطينية وإحكام قبضته عليها، ومراوغة عرفات العنيدة لهذا المسعى، والتي كادت تكلفه حياته مرارًا، إذ صمم على تجاهل رسالة ساعات الاعتقال طوال سنوات الكفاح.


محاولات الهيمنة

شكّل يوم الأول من يناير/كانون الثاني عام 1965 انعطافة جذرية في تاريخ القضية الفلسطينية، ففيه أُعلن انطلاق العمل الفلسطيني المسلح المنظم، بعد قيام دورية من قوات العاصفة (الذراع العسكرية لحركة فتح) بالتسلل إلى قرية عيلبون الفلسطينية المحتلة انطلاقًا من الأراضي السورية، وتفجير خط مياه ضمن مشروع إسرائيلي لتحويل مجرى نهر الأردن باتجاه بحيرة طبرية.

أصبح اسما فتح والعاصفة حديث المجالس، ومع الحذر البعثي التقليدي من وجود أطر تنظيمية خارجة عن السيطرة أو تتمتع بشعبية ربما تؤهلها يومًا لتحدي النظام،اشترطت القيادة البعثية على فتح الاندماج مع جبهة التحرير الفلسطينية بزعامة أحمد جبريل وعلي بشناق، والجبهة الثورية لتحرير فلسطين بقيادة محمد زهدي النشاشيبي والنقيب يوسف عرابي، كان هذا شرط القيادة البعثية لاستمرار تقديم التسهيلات إلى فتح، واضطرت قيادة الحركة للموافقة مؤقتًا، فتشكلت لجان مشتركة ومجلس للطوارئ يضم أعضاءً من الفصائل الثلاثة، وانضم جبريل وبشناق إلى اللجنة المركزية لفتح، كما عُين عرابي مساعدًا عسكريًا لعرفات وقائدًا لقوات العاصفة.

لكن قيادة فتح الرافضة دومًا لأي هيمنة نظامية عربية على قرار الثورة الفلسطينية راحت تعرقل عمل اللجان المشتركة ومجلس الطوارئ، وراح الانقسام يتصاعد بين العناصر الفتحاوية الأصلية والعناصر المدفوعة من القيادة السورية داخل اللجنة المركزية للحركة، التي قررت مرتين في أبريل/نيسان ومايو/آيار 1966 فصل عرفات وتعيين عرابي رئيسًا للجنة المركزية، لكن عرفات ومعه قيادة فتح رفض الانصياع، وإثر مقتل النقيب عرابي على يد شاب فتحاوي اعتقلت السلطات السورية عددًا من قيادات فتح على رأسهم أبو عمار، ثم أُفرج عنهم بعد مدد متفاوتة، المهم أن فتح خرجت من أول تحدٍ مع النظام البعثي ناجحة في الحفاظ على كينونيتها المستقلة، وبعد هذه الأزمة استقال جبريل والعناصر المدفوعة بعثيًا من حركة فتح.


الهزيمة

في 23 فبراير/شباط 1966، نفذت المجموعة العسكرية بحزب البعث انقلابًا أزاحت فيه الجناح القومي في الحزب، الذي يضم الرئيس أمين الحافظ ومؤسسي الحزب ميشيل عفلق وصلاح البيطار، لصالح الجناح القطري الذي يضم أغلب العسكريين المنتسبين للحزب، أصبح نور الدين الأتاسي رئيسًا للبلاد، فيما كان نائب الأمين العام لحزب البعث اللواء صلاح جديد هو الحاكم الفعلي، وتولى الفريق حافظ الأسد وزارة الدفاع.

قبل هزيمة يونيو/حزيران 1967 بشهور قليلة، شكّل الفرع الفلسطيني من حزب البعث – والذي كان بطبيعة الحال تحت الهيمنة السورية – منظمة طلائع حرب التحرير الشعبية، التي عُرفت باسم قوات الصاعقة، وبدأ منتسبوها في تلقي التدريب على يد القوات الخاصة السورية، تشكلت المنظمة على غرار جبهة التحرير الفلسطينية (أحمد جبريل) لتكون أداة سورية في الإطار الوطني الفلسطيني، ولاحقًا شاركت المنظمة في جميع عمليات وحروب الجيش السوري، سواءً ضد العدو الإسرائيلي أم تحالف القوى الوطنية الفلسطينية اللبنانية في حقبة الحرب الأهلية اللبنانية.

وبعد الهزيمة مباشرة تشكلت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين باعتبارها الفرع الفلسطيني لحركة القوميين العرب، وانضم أحمد جبريل ومجموعته إليها، لكنه عاد وانشق عنها عام 1968، وشكّل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة، لتصبح ثاني أكبر الفصائل الفلسطينية سورية الولاء، ثم رعت القيادة السورية من خلال منظمة الصاعقة انشقاقًا آخر في صفوف الجبهة الشعبية، حين انفصل عنها نايف حواتمة وشكّل الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين.

بعد الهزيمة، لم تعد الأنظمة العربية قادرة فعليًا أو أدبيًا على لجم العمل الفدائي المسلح، وتحولت علاقة مصر بحركة فتح من العداوة إلى التبني والتحالف والدعم، وشهد يوم 21 مارس/آذار 1968 حدثًا لا يقل أهمية عن انطلاق العمل الفدائي المسلح قبل ثلاث سنوات، إذ نجحت القوات الأردنية بمعاونة الفدائيين الفلسطينيين – مقاتلي فتح بالأساس – في صد هجوم إسرائيلي على قرية الكرامة الأردنية، في أول انتصار عسكري حقيقي لقوات عربية على هجوم إسرائيلي، حيث ارتفعت أسهم فتح بعدها إلى السماء وتوافد الآلاف طلبًا للانضمام إليها.

وفي فبراير/شباط 1969 تولى عرفات بالانتخاب رئاسة المجلس التنفيذي لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي تغير هيكلها وتكوينها النخبوي ليضم منظمات العمل الفدائي، وبالتحديد فتح والجبهة الشعبية والصاعقة، ثم انضمت إليها الجبهة الديمقراطية والقيادة العامة بعد انشقاقهما وقبل أن تُعلق عضوية الأخيرة.


الخذلان

قبل هزيمة 1967 بشهور قليلة، شكّل الفرع الفلسطيني من حزب البعث قوات الصاعقة الفلسطينية، وبدأ منتسبوها في تلقي التدريب على يد القوات الخاصة السورية.

لكن زهوة النصر وتزايد الدعم العسكري العربي والدولي – السوفيتي بالأساس – للتنظيمات الفدائية في الأردن سمحا لها بالتمدد والدخول في مرحلة من المراهقة الثورية، أفضت بها إلى صدام مع الملك حسين والجيش الأردني في سبتمبر/أيلول 1970، فيما عُرف بأحداث أيلول الأسود، وهنا سنحت فرصة جديدة أمام القيادة البعثية السورية للعب دور الحامي للقضية الفلسطينية والفدائيين، إذ كان النظام المصري قد رفع غطاءه السياسي السميك عن حركة فتح وقيادة منظمة التحرير بعدما راحت تهاجمه بعنف بسبب قبوله لمبادرة روجرز الرامية لوقف حرب الاستنزاف.

أحجم الأسد عن توفير الغطاء الجوي للقوات السورية التي دخلت الأردن لتخفيف الضغط عن المقاومة الفلسطينية أثناء أحداث أيلول الأسود.

وفي نهاية الشهر الدامي أمر صلاح جديد تشكيلات عسكرية سورية باجتياز الحدود الأردنية الشمالية والاشتباك مع الجيش الأردني لتخفيف الضغط عن القوات الفلسطينية، وكان الأسد يرفض هذا التدخل، فأحجم عن توفير غطاء جوي للقوات السورية في الأردن خوفًا من تدخل عسكري إسرائيلي لمساندة الملك حسين، الأمر الذي سمح للجيش الأردني وطيرانه بتدمير جزء كبير من القوات السورية حتى انسحبت.

كان شقاقًا قد دب بين جديد والأسد بعد هزيمة يونيو/حزيران بسبب ما رآه الأول تخاذلًا من الثاني في الحرب، واتسعت هوة الخلاف بينهما مع اتجاه صلاح جديد لخوض حرب استنزاف شعبية ضد إسرائيل وهو ما لم يحبذه الأسد، ثم وصل الخلاف إلى ذروته مع امتناع الأسد عن تنفيذ أوامر التدخل في الأردن لمساندة الفلسطينيين، وفي 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1970 قرر جديد مع أعضاء القيادة القطرية بالبعث إعفاء الأسد من منصبه، وهنا قام الأسد بانقلاب 16 نوفمبر/تشرين الثاني، ليقفز إلى قمة السلطة في البلاد.

طوال العقدين التاليين وحتى تبدل تركيبة النظام الدولي وبداية عملية السلام في أوائل التسعينيات، خاض الأسد حربًا عاتية ضد قيادة الثورة الفلسطيني، مطاردًا فيها حلمه بإحكام قبضته على الورقة الفلسطينية، وانتزاع شرعية تمثيل القضية والشعب الفلسطيني، وهو ما لم ينله بفضل شخصية عرفات العنيدة المراوغة، لكن بقدر ما ابتعدت المسافة بين الرجلين ملأتها جثث الضحايا الفلسطينيين وأنهار من دمائهم.